المقدمة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين - أما بعد:
فأقدِّم للقارئ الكريم الرسالة الأولى من «رسائل التوبة من ...» التي تتحدَّث عن داءٍ خبيثٍ يحصد الحسنات ويجلب السيئات ويضيع الأوقات، ألا وهو داء «الغِيبة» الذي ساعد على تفشِّيه في المجتمع قلَّة الوازع الديني وتيسُّر أسباب المعيشة وكثرة أوقات الفراغ، كما أنَّ لسهولة الاتصالات الهاتفية سهمًا في ذلك.
أدعو الله العلي القدير أن تكون هذا الرسالة - وإن صغر حجمها - بابًا للخير والتوبة؛ تُعلِّم الجاهل وتُذكِّر الغافل وتُنبِّه العاصي.
جعل الله أعمالنا خالصة لوجهه الكريم
* * *
1 / 5
تمهيد
اعلم أخي الكريم أنَّ مَن حَفِظ لسانه قلَّ خطؤه، وكان أملك لزمام أمره، وأجدر ألاَّ يقع في محذور .. وقد ضمن له النبيُّ ﷺ الجنة في قوله: «من يضمنْ لي ما بين لُحييه وما بين رِجليه، أضمنْ له الجنة» (١).
وما بين اللُحيين هو اللسان، وما بين الرِّجلين هو الفرج.
قال الإمام النووي ﵀:
اعلم أنه ينبغي لكلِّ مُكلَّفٍ أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلاَّ كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسُنة الإمساك عنه؛ لأنه قد يجرّ الكلام إلى حرامٍ أو مكروه، وذلك كثيرٌ في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء.
فمن استقام لسانه استقامت جوارحه، ومن عصى لسانه وخاض في أعراض الناس عصت جوارحه وانتهكت حرمات الله، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال:
«إذا أصبح ابن آدم فإنَّ الأعضاء كلَّها تكفر اللسان تقول: اتقِ الله فينا، فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا» (٢).
_________
(١) رواه البخاري (١١/ ٢٦٤) في الرقاق: باب حفظ اللسان، والترمذي رقم (٢٤١٠) في الزهد: باب ما جاء في حفظ اللسان.
(٢) رواه الترمذي رقم (٢٤٠٩) في الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان، وهو حديث حسن.
1 / 6
قال النووي ﵀: معنى «تكفر اللسان» أي تذلّ وتخضع.
وقال الألباني ﵀: أو هو كنايةٌ عن تنزيل الأعضاء اللسان منزلة الكافر بالنعم.
أخي الكريم:
إنَّ اللسان من نعم الله العظيمة، ولَطائف صنعه الغريبة؛ فإنه صغير جَرمه، عظيمٌ طاعته وجُرمه؛ إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلاَّ بشهادة اللسان، وهما غاية الطاعة والعصيان.
واللسان رحب الميدان ليس له مردّ، ولا لمجاله منتهى وحدّ، له في الخير مجال رحب، وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخيّ العنان؛ سلك به الشيطان في كلِّ ميدان، وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البور، ولا يكبُّ الناس في النار على مناخرهم إلاَّ حصائد ألسنتهم، لا ينجو من شرِّ اللسان إلاَّ من قيَّده بلجام الشرع، فلا يُطلقه إلاَّ فيما ينفعه في الدنيا والآخرة.
* * *
1 / 7
تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان
قال الله تعالى:
﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾
[الحجرات: ١٢].
وقال تعالى:
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: ٣٦].
وقال تعالى:
﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨].
وعن أبي موسى ﵁ قال:
قلت: يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟
قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» (١).
وقال ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت» (٢).
_________
(١) رواه الإمام مسلم رقم (٤٢) في الإيمان ن باب بيان تفاضل الإسلام، وأي أموره أفضل.
(٢) رواه مسلم رقم (٤٨) في الإيمان، باب الحثِّ على إكرام الجار، وهو جزء من حديث طويل.
1 / 8
وعنه ﷺ أنه قال: «إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن فيها يُزلُّ بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب» (١).
وفي رواية: «... وإنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة من سخط الله ما كان يظنُّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه» (٢).
وعن عقبة بن عامر ﵁ قال:
قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟
قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك وابك على خطيئتك» (٣).
وفي حديث معاذ بن جبل ﵁ عندما أخبر الرسول ﷺ برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ... ثم قال ﷺ: «ألا أخبرك بِمِلاك ذلك كلِّه؟»
قلت: بلى يا رسول الله.
فأخذ بلسانه وقال: «كُفَّ عليك هذا».
_________
(١) رواه البخاري (١١/ ٢٦٦) في الرقاق، باب حفظ اللسان، ومسلم رقم (٢٩٨٨) في الزهد، باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، والموطأ (٢/ ٩٨٥) في الكلام، باب ما يكره من الكلام.
(٢) رواه الإمام مالك في الموطأ (٢/ ٩٨٥) في الكلام، باب ما يؤمر به من التحفظ في الكلام، والترمذي رقم (٢٣٢٠) في الزهد، باب في قلة الكلام، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(٣) رواه الترمذي رقم (٢٤٠٨) في الزهد، باب ما جاء في حفظ اللسان، وقال: هذا حديث حسن.
1 / 9
قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلَّم به؟
فقال: «ثكلتك أمُّك، وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلاَّ حصائد ألسنتهم؟» (١).
ولننظر إلى عقاب المغتاب في الدنيا والآخرة.
قال ﷺ: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومن تتبَع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته» (٢).
وعن جابر بن عبد الله ﵄ قال:
كنا مع النبي ﷺ فارتفعت ريح منتنة، فقال رسول الله ﷺ: «تدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين» (٣).
وعن أنس ﵁ قال:
قال رسول الله ﷺ: «لَمَّا عُرِج بي مررت بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا
_________
(١) رواه الترمذي رقم (٢٦١٩) في الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، وهو حديث صحيح بطرقه.
(٢) رواه أحمد في (المسند) (٤/ ٤٢١، ٤٢٤)، وأبو داود رقم (٤٨٨٠) في الأدب: باب في الغيبة، والترمذي رقم (٢٠٣٣) في البر والصلة: باب تعظيم المؤمن عن عبد الله بن عمر ﵁.
(٣) أخرجه أحمد (٣/ ٣٥١)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد للبخاري رقم (٥٦٢).
1 / 10
جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (١).
والغيبة - أخي المسلم - مُحرَّمة بالإجماع.
قال الإمام القرطبي: الإجماع على أنها من الكبائر، وأنه يجب التوبة منها إلى الله.
* * *
_________
(١) أخرجه أحمد (٣/ ٢٢٤) وأبو داود رقم (٤٨٧٨) و(٤٨٧٩) في الأدب، باب في الغيبة وهو صحيح.
1 / 11
تعريف الغيبة
الغيبة: هي أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرته بنقصٍ في بدنه أو نسبه أو في خُلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه، حتى في ثوبه وداره ودابته.
أمَّا البدن: فكذكرك العمش والحول والقرع والقصر والطول والسواد والصفرة، وجمع ما يتصوَّر أن يوصف به مما يكرهه كيفما كان.
أمَّا النسب: فكأن تقول: «أبوه نبطي، أو هندي، أو فاسق، أو خسيس، أو إسكاف، أو زبال ...»، أو شيئًا مما يكرهه كيفما كان.
أمَّا الخُلق: فكأن تقول: «هو سيئ الخلق، بخيل، متكبر، مراءٍ، شديد الغضب، جبان، عاجز، ضعيف القلب، متهور ...» وما يجري مجراه.
وأمَّا في أفعاله المتعلِّقة بالدِّين: فكقولك: «هو سارق، أو كذاب، أو شارب خمر، أو خائن، أو ظالم، أو متهاون بالصلاة، أو الزكاة، أو لا يحسن الركوع أو السجود، أو لا يتحرَّز من النجاسات، أو ليس بارًا بوالديه، أو لا يضع الزكاة موضعها، أو لا يحسن قسمها، أو لا يحرس صومه عن الرَّفث والغِيبة والتعرُّض لأعراض الناس ...».
أمَّا في فعله المتعلِّق بالدنيا: فكقولك: «إنه قليل الأدب،
1 / 12
متهاون بالناس، أو لا يرى لأحد على نفسه حقًّا، أو يرى لنفسه الحقَّ على الناس، أو أنه كثير الكلام، نئوم ينام في غير وقت النوم، ويجلس في غير موضعه ...».
وأمَّا ثوبه: فكقولك: «إنه واسع الكم، طويل الذيل، وسخ الثياب ...».
وقد عرَّف رسول الله ﷺ الغِيبة حين قال: «أتدرون ما الغيبة؟» ..
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «ذِكرك أخاك بما يكره».
قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟
قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه» (١).
* * *
_________
(١) رواه مسلم رقم (٢٥٨٩) في البر والصلة: باب تحريم الغيبة، وأبو داود رقم (٤٨٧٤) في الأدب: باب في الغيبة، والترمذي رقم (١٩٣٥) في «البر والصلة» باب ما جاء في الغيبة.
1 / 13
الغيبة لا تقتصر على اللسان
أخي:
اعلم أنَّ الذكر باللسان إنما حُرِّم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، وكلّ ما يُفهِم المقصود فهو داخل في الغِيبة، وهو حرام.
عن عائشة ﵂ قالت: دخلت علينا امرأة، فلما أومأت بيدي أنها قصيرة، قال ﷺ: «اغتبتيها» (١).
ومن ذلك أيضًا:
المحاكاة، كأن يمشي متعارجًا، أو كما يمشي، فهو غِيبة، بل هو أشدّ من الغيبة؛ لأنه أعظم في التصوير والتفهيم .. ولَمَّا رأى رسول الله ﷺ عائشة حاكت امرأة قال: «ما يسرني أني حاكيت إنسانًا ولي كذا وكذا» (٢).
وكذلك الغيبة بالكتابة؛ فإنَّ القلم أحد اللسانين.
وكلُّ هذا - أخي - وإن كان صادقًا فيما يقول فهو مغتابٌ عاصٍ لربِّه وآكل لحم أخيه.
_________
(١) رواه أبو داود رقم (٤٨٧٥) في الأدب: باب الغيبة، وأحمد (٦/ ١٨٩، ٢٠٦) وإسناده صحيح.
(٢) رواه أبو داود رقم (٤٨٧٥) في الأدب: باب الغيبة، والترمذي رقم (٢٥٠٣ و٢٥٠٤) في صفة القيامة، باب تحريم الغيبة، وأحمد (٦/ ١٣٦) وإسناده صحيح.
1 / 14
وإن كان كاذبًا فقد جمع بين الغِيبة والكذب .. قال معاذ بن جبل ﵁: ذُكِر رجلٌ عند رسول الله ﷺ فقالوا: ما أعجزه! .. فقال ﷺ: «اغتبتم أخاكم» .. قالوا: يا رسول الله، قلنا ما فيه؟
قال: «إن قلتم ما فيه اغتبتموه، وإن قلتم ما ليس فيه فقد بهتُّموه» (١).
قال الحسن: ذكر الغير ثلاثة: الغيبة والبهتان والإفك، وكلٌّ في كتاب الله ﷿:
فالغِيبة: أن تقول ما فيه.
والبهتان: أن تقول ما ليس فيه.
والإفك: أن تقول ما بلغك.
في الحديث عن النبي ﷺ: «كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» (٢).
والغيبة تتناول العرض، وقد جمع الله بينه وبين المال والدم.
* * *
_________
(١) أخرجه أحمد بن منيع في "مسنده" كما في (الإتحاف) (٢/ ١٥٢) للبوصيري وإسناده ضعيف ولكنه صحيح بما قبله ص (١٢).
(٢) جزء من حديث طويل رواه مسلم رقم (٢٥٦٤) في البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، وأحمد (٢/ ٢٧٧، ٣٦٠) والبيهقي (٦/ ٩٢).
1 / 15
أنواع الغيبة
تتنوَّع الغيبة في أشكالٍ شتى وقوالب مختلفة، وأخبث أنواع الغيبة غيبة من يجمع بين فاحشتين: الغيبة والرياء، وذلك مثل أن يُذكر عنده إنسان فيقول: «الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان والتبذُّل في طلب الحطام».
أو يقول: «نعوذ بالله من قلَّة الحياء، نسأل الله أن يعصمنا منها»، وإنما قصده أن يُفهم عيب الغائب، فيذكره بصيغة الدعاء.
وكذلك قد يقدح في مدح من يريد غيبته فيقول: «ما أحسم أحوال فلان! .. ما كان يُقصِّر في العبادات، ولكن قد اعتراه فتور، وابتُلِي بما يبتلى به كلّنا، وهو قلَّة الصبر»، فيذكر نفسه ومقصوده أن يذمَّ غيره في ضمن ذلك، ويمدح نفسه بالتشبُّه بالصالحين بأن يذمَّ نفسه، فيكون مغتابًا ومرائيًا ومزكيًا نفسه، فيجمع بين ثلاث فواحش، وهو بجهله يظنُّ أنه من الصالحين المتعفِّفين عن الغيبة.
ومن أشكال الغيبة:
أن يذكر عيب إنسان فلا ينتبه له بعض الحاضرين فيقول: «سبحان الله، ما أعجب هذا!» حتى يُصغَى إليه ويُعلَم ما يقول.
أو يقول:
«ساءني ما جرى على صديقنا من الاستخفاف به، نسأل الله أن يُروِّح عنه»، فيكون كاذبًا في دعوى الاغتمام وفي إظهار الدعاء له، بل لو قصد الدعاء لأخفاه في خلوته.
1 / 16
الأسباب الباعثة على الغيبة
من الأسباب الباعثة على الغيبة:
١ - قلَّة الخوف من الله والوقوع في محارمه:
فإنَّ من استشعر عظمة الله تعالى، وأنه مُطَّلعٌ على أفعاله وأقواله؛ تجنَّب ما يُسخِط الله ويُغضبه.
٢ - تشفِّي الغيظ:
بأن يجري من إنسانٍ في حقِّ آخر سببٌ يُوجب غيظه، فكلَّما هاج غضبه تشفَّى بغيبة صاحبه.
٣ - موافقة الأقران ومجاملة الرّفقاء ومساعدتهم:
فإنهم إذا كانوا يتفكَّهون في الأعراض رأى هذا أنه إذا أنكر عليهم أو قطع كلامهم استثقلوه ونفروا منه، فيساعدهم ويُجاريهم، ويرى أنَّ ذلك من حُسن المعاشرة .. !
٤ - إرادة رفع نفسه بتنقيص غيره:
فيقول: «فلان جاهل وفهمه ركيك»، ونحو ذلك، غرضه أن يُثبت في ضمن ذلك فضل نفسه، ويُريهم أنه أعلم منه.
٥ - الحسد:
فإنَّ ثناء الناس على شخصٍ وحبِّهم له وإكرامهم يدفع المغتاب إلى القدح فيه ليقصد زوال ذلك.
1 / 17
٦ - اللعب والهزل:
فيذكر غيره بما يُضحِك الناس منه، على سبيل المحاكاة، حتى أنَّ بعض الناس يكون كسبه من هذا.
٧ - إرادة التصنُّع والمباهاة والمعرفة بالأحوال: وهناك أسباب أخرى غير هذه.
* * *
1 / 18
بيان ما يُباح من الغيبة
تُباح الغيبة لغرضٍ صحيحٍ شرعيٍّ لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهي ستَّة أسباب:
الأول: التظلُّم:
فيجوز للمظلوم أن يتظلَّم عند السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، فيقول: «ظلمني فلان بكذا».
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب:
فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: «فلان يعمل كذا فازجره»، ويكون مقصودة التوصُّل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حرامًا.
الثالث: الاستفتاء:
فيقول للمفتي: «ظلمني أبي أو أخي أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقي»، وهذا جائز، ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: «ما تقول في رجلٍ أو شخصٍ أو زوجٍ كان من أمره كذا وكذا».
الرابع: تحذير المسلمين من الشرِّ ونصيحتهم:
وذلك من عدَّة وجوه، منها جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائزٌ بإجماع المسلمين، بل واجب لِما فيه من إظهار المصلحة.
1 / 19
ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو معاملته، ويجب على المشاور أن لا يُخفي حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفِسقه أو بدعته:
كالمجاهر بشُرب الخمر وتولِّي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يُجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون لجواز سببٍ آخر.
السادس: التعريف:
فإذا كان الإنسان معروفًا بلقب، كـ «الأعمش» و«الأعرج» و«الأصم» جاز تعريفه بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقُّص، ولو أمكن.
* * *
1 / 20
كفارة الغيبة
الغِيبة مُحرَّمة بإجماع العلماء، وهي من الكبائر، وتنازع العلماء في كفَّارة المغتاب، ولكنهم اتفقوا جميعًا على توبته كخطوة أولى.
والتوبة شروطها ثلاثة:
١ - الإقلاع عن المعصية.
٢ - أن يندم على فعلها.
٣ - العزم على ألاَّ يعود.
والتوبة من الغيبة تزيد شرطًا رابعًا؛ لأنَّ المغتاب جنى جنايتين:
الأولى- على حقِّ الله تعالى، إذا فعل ما نهاه عنه، فكفَّارته التوبة والندم.
الثاني- على محارم المخلوق.
فإن كانت الغيبة قد بلغت الرجل جاء إليه واستحلَّه، وأظهر له الندم على فعله.
وإن كانت الغيبة لم تبلغ الرجل جعل مكان استحلاله الاستغفار له، لئلاَّ يُخبِره بما لا يعلمه فيُوغر صدره.
* * *
1 / 21
دُرر من أقوال السلف
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀:
من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفُّظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك ..
ويصعب عليه التحفُّظ من حركة لسانه، وكم نرى من رجلٍ متورّعٍ عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يُبالي ما يقول.
* * *
• قال وهب:
نذرت أني كلَّما اغتبت إنسانًا أن أصوم يومًا، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلَّما اغتبت إنسانًا أن أتصدَّق بدرهم، فمِن حُبِّ الدراهم تركتُ الغيبة.
* * *
• وقال سفيان بن الحصين:
كنت جالسًا عند إياس بن معاوية، فمرَّ رجل، فنلت منه، فقال: اسكت، ثم قال لي سفيان: هل غزوت مع الروم؟ قلت: لا، قال: غزوت الترك؟ قلت: لا، قال: «سلم منك الروم، وسلم منك
1 / 22
الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم»، قال: فما عدت إلى ذلك بعد.
* * *
• وقال يحيى بن معاذ:
ليكن حظُّ المؤمن منك ثلاثًا: إن لم تنفعه فلا تضرُّه، وإن لم تُفرِحْه فلا تغمّه، وإن لم تمدحه فلا تذمَّه.
* * *
• اغتاب رجلٌ عند معروف الكرخي فقال له: اذكر القطن إذا وضع على عينيك.
* * *
• ودُعِي إبراهيم بن أدهم إلى طعام، فلما جلس قالوا: إنَّ فلانًا لم يجئ، فقال رجل منهم: إنَّ فلانًا رجلٌ ثقيل، فقال إبراهيم: «إنما فعل هذا بي بطني؛ حيث شهدت طعامًا اغتبت فيه مسلمًا»، فخرج ولم يأكل.
* * *
• قيل للربيع بن خُثيم: ما نراك تعيب أحدًا؟ فقال: لست عن
1 / 23
نفسي راضيًا فأتفرَّغ لذمِّ الناس؟ !
* * *
• وقيل للحسن ﵁ -: إنَّ فلانًا اغتابك، فأهدى إليه طبقًا من الرطب، فأتاه الرجل وقال له: اغتبتك فأهديت إليّ؟ فقال الحسن: أهديت إلى حسناتك فأردت أن أكافئك!
* * *
• قال ابن المبارك: لو كنت مغتابًا أحدًا لاغتبت والدَيّ لأنهما أحقُّ بحسناتي.
* * *
• وكتب أشهب بن عبد العزيز إلى رجلٍ كان يقع فيه:
أما بعد .. فإنه لم يمنعني أن أكتب إليك أن تتزايد مما أنت فيه إلا كراهية، أو أُعينك على معصية الله، واعلم أني أرتع في حسناتك كما ترعى الشاة في الخضر .. والسلام.
* * *
• وقال أبو بكر بن عبد الرحمن:
لا يُلهينَّك الناس عن ذات نفسك؛ فإنَّ الأمر يخلص إليك
1 / 24