العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير
العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير
Исследователь
خالد بن عثمان السبت
Издатель
دار عطاءات العلم (الرياض)
Номер издания
الخامسة
Год публикации
١٤٤١ هـ - ٢٠١٩ م (الأولى لدار ابن حزم)
Место издания
دار ابن حزم (بيروت)
Жанры
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
«فنحن - أيها الإخوانُ - نذكرُ هذه المناسباتِ؛ لأننا نعلمُ أن القرآنَ العظيمَ هو مصدرُ العلومِ، وله في كُلِّ علمٍ بيانٌ، فنتطرق الآية من وجوهها، وَقَصْدُنَا انتفاعُ طلبةِ العلمِ؛ لأن القرآنَ أصلٌ عظيمٌ تُعْرَفُ به أصولُ التخريجِ والنحوِ وأصولُ الفقهِ والتاريخِ والأحكامِ إلى غير ذلك من جميعِ النواحي، فنحن جَرَتْ عادتُنا بأن نتطرقَ الآيةَ من جميعِ نواحيها بحسبِ الطاقةِ؛ لينتفعَ كُلٌّ بِحَسَبِهِ» اهـ.
محمد الأمين الشنقيطي
1 / 4
مقدمة الطبعة الثالثة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فأحمد الله تعالى على ما أعان ويَسَّر من إخراج هذا الكتاب، وقد نفدت طبعته الأولى والثانية، وهذه طبعته الثالثة التي تم فيها بعض الاستدراكات، وتصويب بعض الأخطاء الطباعية، إضافة إلى بعض الإضافات في العزو والتخريج.
وقد حذفت في هذه الطبعة بعض العبارات التي قد يكون حَذْفُها أولى بعد تحويل المادة المسموعة إلى مادة مقروءة، كقول الشيخ ﵀: «وقد ذكرنا في الليلة الماضية»، أو «وقد ذكرنا البارحة»، ونحو ذلك.
فالذي تم حذفه: «الليلة الماضية»، «البارحة».
بحيث يبقى الكلام بعدها وقبلها منسجما مُتَّسِقًا.
ويِحْسُن التنبيه هنا إلى أن بعض الزيادات في بعض الهوامش لم يتيسر - من الناحية الفنية - إدراجها في مواضعها [*]، فجعلتها في ملحق خاص في آخر كل مجلد بعنوان (مستدرك) [*]، مع الإشارة إلى ذلك في حاشية الكتاب إما بقولنا: (انظر المستدرك)، كما في الصفحات (١/ ١٢، ١٢٥، ١٣٢)
وإما بوضع نجمتين هكذا ** في آخر الحاشية التي تمت الإحالة عليها [*]. وهي في الصفحات (٣/ ١٢٩)، (٤/ ١٨١، ٣٢٢)، (٥/ ١٧٢).
والله أسأل أن يجعله عملا متقبلا، وأن يغفر لي ولوالدي ولكل من أعان على هذا العمل، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
کنبه: خالد بن عثمان السبت
٢٤/ ٥ / ١٤٣٣ ه
Khaled2224@gmail.com
_________
[*] قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: وهذا لحدود مساحة الصفحة المطبوعة، أما في هذه النسخة الإلكترونية، فقد أدرجنا هذه الزيادات والتعديلات كلها إلى مواضعها مباشرة للتيسير
1 / 5
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فأحمد الله - تعالى - أولا على ما وفَّق من إخراج هذا التفسير ليكون عونا لإخواننا المسلمين على فهم كتاب الله - تعالى - وتدبر معانيه، كما أثنى عليه وأحمده على ما يسَّر من مراجعته بعد طبعته الأولى، واستدراك ما ينبغي استدراكه من الأخطاء الطباعية وغيرها من العبارات التي لم نتمكن من كتابتها في الطبعة الأولى لضعف التسجيل، حيث حصلنا على نسخة جديدة تُعد أكثر وضوحا من النسخة السابقة في بعض المواضع، كما تميزت ببعض الزيادات التي من أهمها:
١ - ما أثبتُّه عند تفسير الآية (١١٤) من سورة الأنعام، وذلك في عدة صفحات.
٢ - تكملة تفسير الآية (٦٧) من سورة التوبة وما بعدها إلى الآية (٧٠) من السورة نفسها، في أكثر من عشرين صفحة.
هذا وأسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتقبل هذا العمل ويجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يجزي خير الجزاء كل من أعان على إخراجه برأي أو استدراك أو فائدة أو مراجعة أو طباعة أو غير ذلك. وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
خالد بن عثمان السبت
khaled2224@gmail.com
1 / 6
بسم الله الرحمن الرحيم
«هذا الكتابُ مباركٌ، أي: كثيرُ البركاتِ والخيراتِ، فَمَنْ تَعَلَّمَهُ وَعَمِلَ به غمرته الخيراتُ في الدنيا والآخرة؛ لأن ما سَمَّاهُ اللَّهُ مُبَارَكًا فهو كثيرُ البركاتِ والخيراتِ قَطْعًا. وكان بعضُ علماءِ التفسيرِ يقول: اشْتَغَلْنَا بالقرآنِ فَغَمَرَتْنَا البركاتُ والخيراتُ في الدنيا، تَصْدِيقًا لقوله: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: ٩٢] ونرجو أن يكونَ لنا مِثْلُ ذلك في الدنيا. وهذا الكتابُ المباركُ لا يُيَسِّرُ اللَّهُ للعملِ به إلا الناسَ الطَّيِّبِينَ الْمُبَارَكِينَ، فإنه كثيرُ البركاتِ والخيراتِ؛ لأنه كلامُ رَبِّ العالمين؛ إذا قَرَأَهُ الإنسانُ وتدبرَ معانيه ففي كُلِّ حرفٍ عشرُ حسناتٍ في القراءةِ، إذا تَدَبَّرَ معانيه عَرَفَ منها العقائدَ التي هي الحقُّ، وعرفَ أصولَ الحلالِ والحرامِ، ومكارمَ الأخلاقِ، وأهلَ الجنةِ وأهلَ النارِ، وما يصيرُ إليه الإنسانُ بعدَ الموتِ، وما يُسَبِّبُ له النعيمَ الأبديَّ، وما يسببُ له العذابَ الأبديَّ، فكله خيراتٌ وبركاتٌ؛ لأنه نورٌ يُنِيرُ الطريقَ التي تُمَيِّزُ بين الحسنِ من القبيحِ، والنافعِ من الضارِّ، والباطلِ من الحقِّ، فهو كُلُّهُ خيراتٌ وبركاتٌ، مَنْ عَمِلَ به غمرته الخيراتُ والبركاتُ في الدنيا والآخرةِ، وأصلحَ له اللَّهُ الدَّارَيْنِ».
محمد الأمين الشنقيطي
1 / 7
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب تبيانًا لكل شيء، والصلاة والسلام على القائل: "ألا إني أُوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه" (^١).
وعلى صحابته المروي عنهم: (إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في كتابه) (^٢) ... الأثر، الموعودين بالحسنى؛ وأتباعهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فلقد تصفحت ما كتبه فضيلة الشيخ د. خالد بن عثمان السبت (حفظه الله) وقام به من جهد ينبيء عن علو همة ورغبة في الخير، وقد ظهر في الذي وقفت عليه من عمله أمانة علمية، وتجشم للصعاب.
وإذا كانت النفوسُ كبارًا ... تعبتْ في مرادِهَا الأجسامُ (^٣)
_________
(^١) أخرجه أحمد (١/ ١٣١)، وأبو داود: كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم: (٤٥٨٠) (١٢/ ٣٥٤)، والبيهقي في السنن (٩/ ٢٣٢)، وفي الدلائل (٦/ ٥٤٩)، وابن حبان (١/ ١٠٧)، والدراقطني (٤/ ٢٨٧)، والطبراني في الكبير (٢٠/ ٢٨٣)، والطحاوي في شرح المعاني (٤/ ٢٠٩)، وابن عبد البر في التمهيد (١/ ١٥٠)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (١/ ٢٦٣)، وانظر: صحيح أبي داود (٣٨٤٨).
(^٢) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم، باب كتابة العلم، رقم: (١١١) (١/ ٢٠٤). وأطرافه في (٣٠٤٧، ٣٩٠٣، ٦٩١٥) من قول علي ﵁.
(^٣) البيت للمتنبي، وهو في ديوانه (بشرح البرقوقي ٤/ ٦٤).
1 / 9
وأخبرني بقيامه بسماع الأشرطة عدة مرات أولًا، ثم عهد بنسخها ثانيًا، ثم قام بتوثيق المعلومات ثالثًا. وهي معلومات غزيرة ومتنوعة، مما يتطلب الوقت الكثير والبحث المتواصل، والتأمل والتحري، مما يكلف المرء عناءً هو عند طلبة العلم من أشهى المتع، كما قال الشاعر:
وتَمَايُلي طَرَبًا لحلٍّ عَوِيْصةٍ ... في الدرسِ أَشْهى من مُدَامَةِ سَاقِ (^١)
وكما قال الشيخ:
أَبِيْتُ مُفكرًا فيها فَتَضْحَى ... لفَهْمِ الفَدْمِ خَافِضَةَ الجَنَاحِ (^٢)
وكان الشيخ ﵀ يوظف جميع معارفه لفهم القرآن.
وقد كفاني مؤنة ذلك الشيخ خالد. وقد أخذ القوس باريها.
ونحن طلبةَ العلم وتلاميذ الشيخ ﵀، مَنْ منا يستطيع أن يقوم بخدمة كتبه أو أشرطته أو محاضراته على الوجه الصحيح، فلا ينبغي أن يتوانى في القيام بذلك، والعلم رَحِمٌ بين أهله.
رحمة الله على الشيخ، وجزى الله الشيخ خالدًا بالخير. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والسلام.
عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي
٢٠/ ٢/١٤١٨ هـ
_________
(^١) البيت للشافعي، وهو في ديوانه ص ٦٤.
(^٢) البيت ضمن أبيات للشيخ أوردها الشيخ عطية ﵀ في ترجمته (وهي مطبوعة في آخر الأضواء ص ٣١).
1 / 10
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمدُ لِلَّهِ الذي جَعَلَ في كل زمانِ فترةٍ من الرسلِ بقايا من أهلِ العلمِ، يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلى الهدى، ويصبرونَ منهم على الأَذَى، يُحيُونَ بكتابِ الله الموتى، ويُبَصِّرُون بنورِ اللَّهِ أهلَ العَمَى، فَكَمْ من قتيلٍ لإبليسَ قد أَحْيَوْهُ، وكم من ضَالٍّ تَائِهٍ قد هَدَوْهُ، فما أَحْسَنَ أثرَهم على الناسِ، وأقبحَ أثرَ الناسِ عليهم. يَنْفُونَ عن كتابِ اللَّهِ تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين، الذين عَقَدُوا ألويةَ البدعةِ، وَأَطْلَقُوا عقالَ الفتنةِ، فَهُمْ مختلفونَ في الكتابِ، مُخَالِفُونَ للكتابِ، مُجْمِعون على مُفَارَقَةِ الكتابِ، يقولون على اللَّهِ وفي اللَّهِ وفي كتابِ اللَّهِ بغير علمٍ، يتكلمون بالمتشابهِ من الكلامِ، ويخدعونَ جُهَّالَ الناسِ بما يُشَبِّهُونَ عليهم، فنعوذُ باللَّهِ من فِتَنِ الْمُضِلِّينَ (^١).
_________
(^١) مقتبس من كلام الإمام أحمد ﵀ في مقدمة الرد على الزنادقة والجهمية، ص ٦. وأورد نحوه ابن وضاح في كتاب البدع والنهي عنها ص ١٠ عن عمر بن الخطاب ﵁ بغير إسناد.
1 / 11
أما بعدُ:
فإن القرآنَ العظيمَ هو مَأْدُبَةُ اللَّهِ ﷿ (^١)،فيه نَبَأُ ما قَبْلَنَا، وخبرُ ما بَعْدَنَا، وهو حَبْلُ اللَّهِ المتينُ، والذكرُ الحكيمُ، وهو الفصلُ ليس بالهزلِ، مَنْ تَرَكَهُ من جبارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، ومن ابْتَغَى الْهُدَى في غيرِه أَضَلَّهُ اللَّهُ، وهو الصراطُ المستقيمُ الذي لا تزيغُ به الأهواءُ، ولا تلتبسُ به الألسنةُ، ولا تَشْبَعُ منه العلماءُ، ولا يَخْلَقُ على كثرةِ الردِّ، ولا تنقضي عجائبُه، مَنْ قال به صَدَقَ، ومن عَمِلَ به أُجِرَ، ومن حَكَمَ به عَدَلَ، ومن دَعَا إليه هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيمٍ (^٢).
ولقد بَيَّنَ النبيُّ ﷺ حروفَ القرآنِ كما بَيَّنَ ما قد يَخْفَى من
_________
(^١) اقتباس من أثر عن ابن مسعود ﵁: أخرجه ابن المبارك في الزهد ص ٢٧٢، وعبد الرزاق في المصنف (٥٩٩٨، ٦٠١٧)، (٣/ ٣٦٨، ٣٧٥)، وسعيد بن منصور (التفسير)، (٧)، (١/ ٤٣)، والدارمي (٣٣١٠، ٣٣١٨)، (٢/ ٣٠٨، ٣١٠)، وابن نصر في قيام الليل (المختصر ص ١٧٣)، والفريابي في فضائل القرآن (٤١، ٥٩)، ص ١٥٢، ١٦٦، والطبراني في الكبير (٩/ ١٣٨)، وأبو نعيم في الحلية (١/ ١٣٠ - ١٣١)، وتاريخ أصبهان (٢/ ٢٤٢)، والرازي في فضائل القرآن (٣١)، ص ٧٤، والبيهقي في السنن الصغير (٩٤٤)، (١/ ٣٣٣)،والشعب (١٧٨٦، ١٨٣٢)، (٤/ ٤٩٣، ٥٤٩)، وابن منده في الرد على من يقول (آلم) حرف (٩)، ص ٤٨، والشجري في الأمالي (ترتيب الأمالي)، (٤٤٧، ٥٧٦)، (١/ ١١٦، ١٥٥)،والبغوي في التفسير (١/ ٣٢). موقوفًا.
وقد رُوي مرفوعًا: أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (٧)، (١/ ٢٤٠)، وابن أبي شيبة في المسند (٣٧٦)، (١/ ٢٥١)، والمصنف (١٠٠٥٦)، (١٠/ ٤٨٢)، وابن نصر في قيام الليل (المختصر ص ١٧١)، وابن حبان في المجروحين (١/ ١٠٠)، والآجري في أخلاق أهل القرآن (١١)، ص ٥٢، وأبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان (٦٤٧)، (٤/ ٢٥٢)، وابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال (٢٠٢)، ص ٦٩، والحاكم في المستدرك (١/ ٥٥٥)، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (٢/ ٢٤٨)، والرازي في فضائل القرآن (٣٠)، ص ٧٣، ٧٥، والبيهقي في السنن الصغير (٩٤٣)، (١/ ٣٣٣)، والشعب (١٧٨٦، ١٨٣٢)، (٤/ ٤٩٣،٥٤٩)، والخطيب في الجامع (٧٩)، (١/ ١٠٧)، وابن منده في الرد على من يقول (آلم) حرف (١١)، ص ٥٠، والشجري في الأمالي (ترتيب الأمالي) (٤٢٧)، (١/ ١١١)، وابن الجوزي في العلل المتناهية (١٤٥)، (١/ ١٠١). قال ابن القيسراني في تذكرة الحفاظ (٣٠٣)، ص ١٣٠: «رواه إبراهيم بن مسلم الهجري. . . وإبراهيم هذا ليس بشيء في الحديث» ا. هـ.
وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (١٤٥)، (١/ ١٠٢): «هذا حديث لا يصح عن رسول الله ﷺ، ويشبه أن يكون من كلام ابن مسعود. قال ابن معين: إبراهيم الهجري ليس حديثه بشيء» ا. هـ.
وقال الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص ٤٦ بعد أن ساق الحديث من رواية أبي عبيد في فضائل القرآن: «هذا غريب من هذا الوجه، ورواه محمد بن فضيل عن أبي إسحاق الهجري ... وهو أحد التابعين، لكن تكلموا فيه كثيرًا، وقال أبو حاتم الرازي: لين ليس بالقوي. وقال أبو الفتح الأزدي: رفاع كثير الوهم.
قلت: فيحتمل - والله أعلم -أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما هو من كلام ابن مسعود، ولكن له شاهد من وجه آخر، والله أعلم» ا. هـ.
وقال البوصيري في إتحاف الخيرة (٥٩٤٩)، (٦/ ٥٩٥٠): «رواه الحاكم من طريق صالح بن عمر، عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عنه به، وقال: تفرد به صالح بن عمر عنه به، وهو صحيح. كذا قال! وليس كما زعم؛ فإن إبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف، وصالح بن عمر لم يتفرد به عن الهجري فقد تابعه عليه أبو معاوية الضرير محمد بن خازم، كما رواه عنه أبو بكر بن أبي شيبة» ا. هـ.
وأورده الألباني في الضعيفة (٦٨٤٢)، (١٤/ ٧٨٥) وفي ضعيف الترغيب (٨٦٧) (١/ ٢١٦) وصحح وقفه على ابن مسعود ﵁.
(^٢) اقتباس من حديث يروى عن علي ﵁ مرفوعًا، أخرجه الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن، حديث رقم: (٢٩٠٦)، (٥/ ١٧٢)، وابن أبي شيبة في المصنف (١٠٠٥٦)، (١٠/ ٤٨٢)، وأحمد (١/ ٩١)، والدارمي (٣٣٣٤، ٣٣٣٥)، (٢/ ٣١٢، ٣١٣)، والبزار (٨٣٦)، (٣/ ٧١)، وابن نصر في قيام الليل (المختصر ص ١٥٧)، والفريابي في فضائل القرآن (٨٢،٨١،٨٠،٧٩) ص ١٨٢ - ١٨٧، وأبو يعلى (٣٦٧)، (١/ ٣٠٢)، والطبراني في الكبير (٢٠/ ٨٤)، وابن عدي في الكامل (٤/ ١٣٢٠)، وأبو طاهر المخلص في المخلصيات (١٩٩٥، ٢٠٠٠)، (٣/ ٦٠، ٦٣)، والبيهقي في الشعب (١٧٨٨)، (٤/ ٤٩٦)، والشجري في الأمالي (ترتيب الأمالي) (٤٦١)، (١/ ١٢٠)، والبغوي في شرح السنة (١١٨١)، (٤/ ٤٣٧)، وفي التفسير (١/ ٣١)، والمزي في تهذيب الكمال (٣٤/ ٢٦٧).
قال الترمذي (٥/ ١٧٢): «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحارث مقال» ا. هـ.
وعقب عليه الحافظ ابن كثير في فضائل القرآن ص ١٠ بقوله: «لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات. . . والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور، وقد تكلموا فيه، بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب في الحديث فلا، والله أعلم. وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي ﵁، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح، على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود ﵁ عن النبي ﷺ» ا. هـ.
وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (٢/ ٨٨): «إسناده ضعيف جدًا، من أجل الحارث الأعور. ثم الظاهر أنه منقطع. .» ا. هـ. وضعفه الألباني، كما في الضعيفة (٦٣٩٣)، (١٣/ ٨٨٣).
1 / 12
معانيه؛ إذ إن بعثتَه تدورُ على ذلك، كما أخبرَ (تعالى) عن هذا المعنى بقوله: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: آية ٤٤].
وإنما المقصودُ من إنزالِ القرآنِ فَهْمُهُ والعملُ به، ولم يُنْزَلْ من أجلِ القراءةِ فَحَسْبَ - مع أنها مطلوبةٌ - كما لا يكفي فَهْمُ معانيه من غيرِ العملِ به، ولا يمكنُ العملُ به من غيرِ فَهْمِ مَعَانِيهِ.
وطريقُ فَهْمِ القرآنِ هي تَدَبُّرُ ألفاظِهِ ومعانيه، والتفكرُ فيها، قال الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: آية ٨٢] وقال (تعالى): ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: آية ٢٤] وقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ﴾ [ص: آية ٢٩].
كما أن فَهْمَهُ يحصلُ بِتَطَلُّبِ تفسيرِه من كلامِ العلماءِ الراسخين في هذا البابِ الشريفِ، الشارحين لآياتِ القرآنِ الكريمِ، وَالْمُبَيِّنِينَ لمدلولاتِها، سواءً كان الأخذُ عنهم مشافهةً، أو عن طريقِ مُصَنَّفَاتِهِمْ.
وإن من العلماءِ الأفذاذِ الذين بَلَغُوا شَأْوًا عظيمًا في علمِ التفسيرِ، العلامةَ الْمُفَسِّرَ الأصوليَّ محمد الأمين الشنقيطي ﵀، وهو -وإن كان من المتأخرين- إلا أن سماعَ كلامِه في التفسيرِ يُذَكِّرُ سامعَه بالأئمةِ المتقدمين.
ومعلومٌ أن التأخرَ والمعاصرةَ لا يُطَفِّفَانِ حَقَّ العالِم إذا كان مُتَحَقِّقًا في العلمِ. فـ «ليس لقِدَمِ العهد يُفَضَّل القائلُ (^١)، ولا لحِدْثَانِ
_________
(^١) هكذا ضبطه القرافي وجماعة (القائل) بالقاف، وذهب الزبيدي وجماعة إلى أنه بالفاء (الفائل) من: فال رأيه إذا ضعف. انظر: تاج العروس (١/ ٢٩).
1 / 13
عهدٍ يُهْتَضَم الْمُصِيبُ، ولكن يُعْطَى كلٌّ ما يَسْتَحِقُّ» (^١).
ذلك أن نتائجَ الأفكارِ لا تنقضي لانقضاءِ عصرٍ بِعَيْنِهِ؛ بل لكلِّ عَالِمٍ ومتعلمٍ مِنْ ذلك حظٌّ بحسبِ إخَاذِهِ، وليس ثَمَّةَ ما يمنعُ أن يُدَّخَرَ لبعضِ المتأخرين ما لم يُوهَبْ لبعضِ المتقدمين، وعليه فلا عِبْرَةَ بقولِ بعضِهم: «مَا تَرَكَ الأَوَّلُ للآخِرِ»!! فإن هذه الكلمةَ بالغةُ الضررِ بالعلمِ؛ لكونها قاطعةً للآمالِ عن تحصيلِه والإضافةِ فيه، كما لا يَخْفَى. ولكن ينبغي أن يقالَ: «كَمْ تَرَكَ الأَوَّلُ للآخِرِ». والشيءُ إنما يُسْتَجَادُ ويسترذلُ لِجَوْدَتِه وَرَدَاءَتِهِ لا لِتَقَدُّمِ قائلِه أو تَأَخُّرِهِ (^٢).
قال أبو محمد بن قتيبة ﵀ في مقدمةِ (الشعرِ والشعراءِ): «وَلَمْ أَسْلُكْ فيما ذكرتُه من شعرِ كُلِّ شاعرٍ مُخْتَارًا له سبيلَ مَنْ قلَّدَ أو استحسن باستحسانِ غيرِه، ولا نظرتُ إلى المتقدمِ منهم بعينِ الجلالةِ لِتَقَدُّمِهِ، وإلى المتأخرِ منهم بعينِ الاحتقارِ لِتَأَخُّرِهِ، بل نظرتُ بعينِ العدلِ على الفَرِيقَيْنِ، وأعطيتُ كُلًاّ حَظَّهُ، ووفرتُ عليه حَقَّهُ، فإني رأيتُ من علمائنا مَنْ يستجيدُ الشعرَ السخيفَ لتقدمِ قائلِه، ويضعُه في مُتَخَيَّرِهِ، ويُرْذِل الشعرَ الرصينَ، ولا عيبَ له عنده إلا أنه قِيلَ في زمانِه، أو أنه رأى قائلَه، ولم يَقْصُرِ اللَّهُ العلمَ والشعرَ والبلاغةَ على زمنٍ دونَ زمنٍ، ولا خَصَّ به قومًا دونَ قومٍ، بل جعلَ ذلك مُشْتَركًا مَقْسُومًا بين عبادِه في كُلِّ دَهْرٍ، وجعلَ كُلَّ قَدِيمٍ حديثًا
_________
(^١) ما بين الأقواس «» من كلام المبرد في «الكامل» (١/ ٤٣).
(^٢) انظر: كشف الظنون (١/ ٣٩)، ولأحمد بن فارس ﵀ كلام مفيد في هذا الموضوع نقله الأُستاذ عبد السلام هارون ﵀ في مقدمة التحقيق لكتاب (المقاييس في اللغة) (١/ ١٥ - ٢٠).
1 / 14
في عصرِه، وَكُلَّ شَرَفٍ خارجيَّةً (^١) فِي أوَّله، فقد كان جَرِيرٌ، والفرزدقُ، والأخطلُ. . . وأمثالهم يُعَدُّون مُحْدَثِينَ. . .، ثم صار هؤلاء قدماءَ عندنا بِبُعْدِ العهدِ منهم، وكذلك يكونُ مَنْ بعدهم لِمَنْ بَعْدَنَا، فكلُّ مَنْ أتى بحَسَنٍ مِنْ قولٍ أو فِعْلٍ ذكرناه له وَأَثْنَيْنَا به عليه، ولم يضعه عندنا تأخرُ قائلِه أو فاعلِه، ولا حداثةُ سِنِّهِ؛ كما أن الرديءَ إذا وَرَدَ علينا للمتقدمِ أو الشريفِ لم يَرْفَعْهُ عندنا شرفُ صاحبِه ولا تَقَدُّمُهُ» اهـ (^٢).
وقال في مقدمةِ (عُيُونِ الأَخْبَارِ): «وكذلك مَذْهَبُنَا فيما نختاره من كلامِ المتأخرين وأشعارِ الْمُحْدَثِينَ، إذا كان متخيَّرَ اللفظِ، لطيفَ المعنى، لم يُزْرِ به عندنا تَأَخُّرُ قائِله، كما أنه إذا كان بخلافِ ذلك لم يَرْفَعْهُ تقدُّمُه، فكلُّ قديمٍ حديثٌ في عصرِه، وكلُّ شرفٍ فَأَوَّلُهُ خارجيةٌ، وَمِنْ شأنِ عوامِّ الناسِ رفعُ المعدومِ، ووضعُ الموجودِ، ورفضُ المبذولِ، وَحُبُّ الممنوعِ، وتعظيمُ المتقدمِ وغفرانُ زَلَّتِهِ، وبخسُ المتأخرِ والتَّجَنِّي عليه، والعاقلُ منهم ينظرُ بعينِ العدلِ لا بعينِ الرِّضَا، ويزنُ الأمورَ بالقسطاسِ المستقيمِ» اهـ (^٣).
وقال ابنُ مالكٍ ﵀ في مقدمةِ التسهيلِ: «وإذا كانتِ العلومُ مِنَحًا إلهيةً، ومواهبَ اختصاصيةً، فغيرُ مُسْتَبْعَدٍ أن يُدَّخَرَ لبعضِ المتأخرين ما عَسُرَ على كثير من المتقدمين» اهـ (^٤).
_________
(^١) الخارجيَّة: خيل لا عِرقَ لها في الجودة، فتُخرَّج سوابق، والخارجي: الذي يخرج ويشرف بنفسه من غير أن يكون له قديم، وتقول: «خرجت خوارج فلان» إذا ظهرت نجابته. انظر: اللسان (مادة: خرج) (١/ ٨٠٨)، القاموس (مادة: خرج) ص ٢٣٧.
(^٢) الشعر والشعراء ٢٣ - ٢٤.
(^٣) عيون الأخبار (١/م - ن).
(^٤) المساعد على تسهيل الفوائد (١/ ٣).
1 / 15
وقال الزبيدي ﵀ في مُقَدِّمَتِهِ لشرحِ القاموسِ: «وكأني بالعالِم المصنفِ قد اطَّلَعَ عليه فَارْتَضَاهُ، وأَجَالَ فيه نَظْرةَ ذِي عَلَقٍ فَاجْتَبَاهُ، ولم يَلْتَفِتْ إلى حُدوثِ عهدِه وقربِ ميلادِه؛ لأنه إنما يُستجَاد الشيء ويُستَرذل لجودته ورداءتِه في ذاته لا لِقِدَمِه وحُدُوثِهِ، وبالجاهلِ المُشِطِّ قد سَمِعَ به فَسَارَعَ إلى تمزيقِ فروتِه وتوجيهِ المَعَابِ إليه. . . والذي غَرَّهُ أنه عَمَلٌ مُحْدَثٌ ولا عملٌ قديمٌ، وَحَسْبُكَ أن الأشياءَ تُنْتَقَدُ أو تُبَهرجُ؛ لأنها تَليدةٌ أو طَارِفَةٌ» اهـ (^١).
وقد أحسنَ القائلُ (^٢):
قُلْ لِمَنْ لَا يَرَى الْمُعَاصِرَ شَيْئًا ... وَيَرَى لِلأَوَائِلِ التَّقْدِيمَا
إِنَّ ذَاكَ الْقَدِيمَ كَانَ حَدِيثًا ... وَسَيُمْسِي هَذَا الْحَدِيثُ قَدِيمَا
والشيخُ الأمينُ ﵀ عَالِمٌ متضلعٌ في فنونٍ عِدَّةٍ مِنْ أَبْرَزِهَا التفسيرُ. وسيأتي قولُه في سياقِ ترجمتِه: «لَا توجدُ آيةٌ في القرآنِ إلَاّ دَرَسْتُهَا عَلَى حِدَةٍ» اهـ.
وللشيخِ ﵀ كتابٌ في تفسيرِ القرآنِ بالقرآنِ يُعَدُّ مِنْ أَحْسَنِ التفاسيرِ وَأَجْوَدِهَا.
وإذا كان عِلْمُ التفسيرِ مَعْدُودًا في جملةِ العلومِ الضروريةِ، وكان الشيخُ الأمينُ بهذه المنزلةِ من الرسوخِ فيه، فَحُقَّ على طلبةِ العلمِ أن يُعْنَوْا بما تَرَكَهُ الشيخُ ﵀ في هذا البابِ.
وإن من هذه التركةِ النفيسةِ: عشراتٌ من الأشرطةِ الصوتيةِ التي تَحْوِي كثيرًا من دروسِ الشيخِ ﵀ في التفسيرِ.
_________
(^١) تاج العروس (١/ ٥).
(^٢) البيتان لابن شرف القيرواني، كما في مسائل الانتقاد ص ٥.
1 / 16
وقد كنتُ أَعْجَبُ من إغفالِ كِتَابَتِهَا وإخراجِها للناسِ مقروءةً كي يَعُمَّ الانتفاعُ بها؛ ذلك أن تلكَ الأشرطةَ يَصْعُبُ الانتفاعُ بها بسببِ عدمِ وضوحِها في الغالبِ، سواءً من جهةِ ضَعْفِ التسجيلِ آنذَاك، أو من جهةِ سرعةِ الشيخِ ﵀ في الإلقاءِ. فصحَّ العزمُ على إخراجِ ذلك خدمةً لكتابِ اللَّهِ (تعالى)، ووفاءً للشيخِ الْمُفَسِّرِ (رحمه الله تعالى).
ولا يَخْفَى أن مثلَ هذا الأمرِ يتطلبُ جُهْدًا كبيرًا من نَاحِيَتَيْنِ:
الناحيةُ الأُولَى: صعوبةُ كتابةِ محتوياتِ الأشرطةِ لِمَا سَبَقَ.
الناحيةُ الثانيةُ: صعوبةُ توثيقِ المادةِ العلميةِ التي يُورِدُهَا الشيخُ ﵀؛ ذلك أن دَرْسَهُ حافلٌ بالمعلوماتِ المختلفةِ من شَتَّى الفنونِ، من تفسيرٍ، ولغةٍ، وإعرابٍ، وسيرةٍ، وتاريخٍ، وأصولٍ، وقراءاتٍ، وغيرِ ذلك.
ومما يزيدُ التوثيقَ صعوبةً أن الشيخَ ﵀ لا يُعْنَى بالعَزْوِ إلى كتبِ التفسيرِ أو أعلامِه، الأمرُ الذي قَدْ لا يتميزُ معه بعضُ ما أخذَه من غيرِه مما فَتَحَ اللَّهُ به عليه.
لَمْحَةٌ عن دروسِ الشيخِ ﵀ فِي التَّفْسِيرِ (^١):
دَرَّسَ الشيخُ (رحمه الله تعالى) التفسيرَ في أماكنَ متعددةٍ، منها:
_________
(^١) انظر: ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، للسديس ص ٦٩، ترجمة الشيخ ﵀ الملحقة في آخر الأضواء ص ٣٩ - ٤٨.
(٢) تجد ذلك صريحا عند تفسير الآية رقم (٩٩) من سورة الأعراف.
1 / 17
١ - المسجدُ النبويُّ، وقد أَتَمَّ فيه تفسيرَ القرآنِ كاملًا، وَتُوُفِّيَ ولم يُتِمَّ الثانيةَ، وهي هذه (^١).
وقد كان هذا الدرسُ يُعْقَدُ في كُلِّ يومٍ على مدارِ العَامِ. كما ذَكَرَ ذلك بعضُ تلامذتِه الذين لَازَمُوا دَرْسَهُ في التفسيرِ منذ عامِ (١٣٦٩ هـ).
ثم صَارَ الدرسُ مُقْتَصِرًا على الإجازةِ الصيفيةِ منذ سنةِ (١٣٧١ هـ) حينَ انتقلَ الشيخُ ﵀ إلى الرياضِ في ذلك العامِ. فكان الشيخُ ﵀ يعودُ إلى المدينةِ المنورةِ - في الإجازةِ - ويواصلُ هذا الدرسَ في مسجدِ رسولِ اللَّهِ ﷺ.
وقد استمرَّ الأمرُ على ذلك إلى أن انتقلَ الشيخُ ﵀ إلى المدينةِ النبويةِ مرةً ثانيةً عامَ (١٣٨١ هـ) لِيُدَرِّسَ في الجامعةِ الإسلاميةِ.
وفي سنةِ (١٣٨٥ هـ) صارَ وقتُ الدرسِ مُقْتَصِرًا على شهرِ رمضانَ فقط؛ فكان يتوقفُ سائرَ العامِ، فإذا جاءَ رمضانُ أَكْمَلَ التفسيرَ من حيثُ وَقَفَ في العامِ قَبْلَهُ وهكذا.
وقد استمرَّ الأمرُ على هذا الحالِ إلى وفاةِ الشيخِ ﵀ عامَ (١٣٩٣ هـ).
وكان دَرْسُهُ في رمضانَ يَبْدَأُ بَعْدَ صلاةِ العصرِ مباشرةً ويستمرُّ إلى قُرْبِ أذانِ المغربِ، وربما كان وقتُ الدرسِ قصيرًا لِعَارِضٍ، كما وقعَ للشيخِ ﵀ عندَ تفسيرِه لسورةِ الأعرافِ، فبعدَ أن فرغَ من الكلامِ على الآيةِ رَقْمِ (٩٧) منها تَوَقَّفَ مُعْتَذِرًا بقولِه: «وقد نقتصرُ
_________
(^١)
1 / 18
الآنَ على هذه الكلماتِ القليلةِ؛ لأن البارحةَ أَخَذْنَا دواءً أَثَّرَ علينا، فَمَعِيَ الآنَ بعضُ الأثرِ» اهـ.
٢ - دارُ العلومِ بالمدينةِ النبويةِ، وذلك في عَامَيْ (١٣٦٩ و١٣٧٠ هـ) إلى أن انتقلَ الشيخُ ﵀ إلى الرياضِ.
٣ - المعهدُ العلميُّ، وَكُلِّيَّتَا الشَّرِيعَةِ واللغةِ العربيةِ بالرياضِ. وذلك لَمَّا انتقلَ إليها عامَ (١٣٧١ هـ)، وَبَقِيَ على ذلك إلى عامِ (١٣٨١ هـ) حينَ انتقلَ إلى المدينةِ النبويةِ.
٤ - الجامعةُ الإسلاميةُ. حيث دَرَّسَ فيها التفسيرَ والأصولَ إلى أن تُوُفِّيَ، إضافةً إلى آدابِ البحثِ والمناظرةِ كما سيأتي في ترجمتِه.
٥ - في بيتِه في مدينةِ الرياضِ، أو بعدَ انتقالِه إلى المدينةِ النبويةِ (وهي دروسٌ خاصةٌ لبعضِ تلامذتِه).
يقول تلميذُه الشيخُ عطيةُ ﵀: «ولم يكن لِي مَعَهُ ﵀ مِنْ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، مع كثرةِ الإخوانِ الدارسينَ عليه الْمُقِيمِينَ معه في بيتِه إلا وقتٌ واحدٌ، هو ما بينَ المغربِ والعشاءِ، لمدةِ سَنَتَيْنِ دراسيتين ونحنُ بالرياضِ، قرأتُ خِلَالَهُمَا تفسيرَ سورةِ البقرةِ» (^١) اهـ.
_________
(^١) ترجمة الشيخ عطية سالم ﵀ لشيخه الشيخ محمد الأمين ﵀ في آخر الأضواء (٩/ ١٤).
(٢) انظر: ترجمة الشيخ عطية سالم ﵀ لشيخه الشيخ محمد الأمين ﵀. في آخر الأضواء (٩/ ٤٠)، علماء ومفكرون عرفتهم (١/ ١٨١)، ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، للسديس ص٢٢٢.
(٣) معارج الصعود إلى تفسير سورة هود ص١٤.
1 / 19
مَنْهَجُ الشَّيْخِ ﵀ فِي تَدْرِيسِ التَّفْسِيرِ (^١):
كان لدرسِ الشيخِ ﵀ في التفسيرِ من حيث التوسعُ وعدمُه - كما ذَكَرَ أَحَدُ تَلَامِذَتِهِ (^٢) - ثلاثةُ أحوالٍ:
الأُولَى: الإسهابُ والتوسعُ. وعلى هذه الحالِ كانت دروسُه في المسجدِ النبويِّ.
الثانيةُ: التوسطُ بين التوسعِ والاقتضابِ. وهذه حالُ دُرُوسِهِ في الجامعةِ في الأحوالِ العاديةِ.
الثالثةُ: الاقتضابُ الشديدُ. وهو المرورُ السريعُ على بعضِ المفرداتِ في الآيةِ، والإشارةُ السريعةُ إلى بعضِ مَعَانِيهَا، وكان يَلْجَأُ إلى ذلك في آخِرِ السنةِ الدراسيةِ عندما يَرَى أنه لا يمكن إِكْمَالُ المنهجِ المقررِ بأسلوبِ الحالةِ الثانيةِ.
وسوف أقتصرُ في الكلامِ هنا على الحالةِ الأُولَى؛ لأنها هي التي تتعلقُ بغالبِ المادةِ التي بَيْنَ أَيْدِينَا.
لقد كان درسُ الشيخِ ﵀ يمتازُ بتسخيرِ جميعِ علومِ العربيةِ وغيرِها من العلومِ الإسلاميةِ في تفسيرِ كتابِ اللَّهِ (تعالى)، ومحاكمةِ الآراءِ والمعانِي التي تُقَالُ في الكلمةِ أو الآيةِ إلى ما غَلَبَ في القرآنِ نفسِه، ثم تفسيرِه بِالسُّنَّةِ، ثم بما وَرَدَ عن السلفِ، مع التعمقِ في فَهْمِ ذلك بالأساليبِ العربيةِ (^٣).
_________
(^١) المصدر السابق ص١١.
(٢) وربما كانت بعض تلك الشواهد تحمل معاني غير مستحسنة، وقد برر الشيخ ﵀ إيرادها بقوله: «وقصدنا بهذا الكلام الخبيث بيان لغة العرب، لا المعاني الخسيسة التافهة؛ لأن معاني لغة العرب يُستفاد منها ما يعين على فهم كتاب الله وسنة رسوله، وإن كان مُفْرَغًا في مَعَانٍ خسيسة تافهة، فنحن نقصد مطلق اللغة لا المعاني التافهة التي هي تابعة لها» ا. هـ من كلامه على الآية رقم (٢) من سورة الأعراف.
(٣) علماء ومفكرون عرفتهم (١/ ١٨١).
(^٢)
(^٣)
1 / 20
كانت حلقةُ الدرسِ تُفْتَتَحُ بآيٍ من السورةِ المقصودِ تفسيرُها، يَتْلُوهَا أحدُ التلاميذِ - وهي بمعدلِ خمسِ آياتٍ تقريبًا - فإذا فَرَغَ القارئُ شَرَعَ الشيخُ في التفسيرِ مُبْتَدِئًا بالمناسبةِ بَيْنَ الآيةِ وما قَبْلَهَا في بعضِ الأحيانِ، ثُمَّ يَعْرِضُ للمفرداتِ اللغويةِ بحيثُ يَعْرِضُ معانيها واشتقاقاتِها وَكُلَّ ما يتصلُ بها مِنْ قريبٍ أو بعيدٍ، مُسْتَعِينًا على ذلك بِمَا لا يُحْصَى من شواهدِ اللغةِ (^١)، وَمِنْ ثَمَّ يتناولُ العلائقَ التركيبيةَ بين المفرداتِ، فيعرضُ لضروبِ القراءاتِ الواردةِ فيها مع عَزْوِهَا وَتَوْجِيهِهَا، كما يَذْكُرُ وجوهَ الإعرابِ وما تُقَرِّرُهُ من المدلولاتِ، فإذا انْتَهَى من ذلك صرفَ الأذهانَ إلى الاستنباطِ الفقهيِّ، مع ذِكْرِ الخلافِ والأدلةِ والترجيحِ، مستعينًا على ذلك بِكُلِّ ما يتطلبُه المقامُ من علومِ اللسانِ، والبيانِ، والأصولِ، والناسخِ والمنسوخِ، وأسبابِ النزولِ، وما يتصلُ بذلك من العمومِ والخصوصِ والإطلاقِ والتقييدِ، ولا يَفُوتُهُ أن يربطَ بعضَ المعانِي ببعضِ الوقائعِ الْمُشَابِهَةِ على صورةٍ تُثْرِي المعرفةَ، وَتُعَمِّقُ أسبابَ الإقناعِ.
وإذا كان المضمونُ قَصَصِيًّا عَمَدَ إلى عناصرِ القصةِ فاستخرجَ عِبَرَهَا، وَكَشَفَ نُذُرَهَا، وقاسَ ما فيها من صورِ الماضي على ما يُعَايِشُهُ الناسُ من أحداثِ الحاضرِ (^٢)، فكان كثيرَ الربطِ بين هذا
1 / 21
وهذا، فتجدُه يتحدثُ عن أسبابِ ضَعْفِ المسلمين اليومَ، وعن الموقفِ من الحضارةِ الغربيةِ، ولزومِ الأخذِ بأسبابِ القوةِ، وأسبابِ النصرِ والتمكينِ. . . وغيرِ ذلك مما تَجِدُهُ في مواضعِه من هذه الدروسِ.
وهكذا حِينَمَا يعرضُ لغزوةٍ من الغزواتِ فإنه يَسْتَطْرِدُ في ذِكْرِ تفاصيلِها المختلفةِ، وقد قال ﵀ عندَ تفسيرِ الآياتِ المتعلقةِ بغزوةِ حُنَيْنٍ من سورةِ بَرَاءَةٍ: «ونحنُ دائمًا في هذه الدروسِ إذا جاءت غزوةٌ من مَغَازِي رسولِ اللَّهِ ﷺ في الآياتِ القرآنيةِ نُفَصِّلُهَا ونذكرُ تفاصيلَها لتمامِ الفائدةِ، كما أَوْضَحْنَا فيما مَضَى غزوةَ أُحُدٍ في سورةِ آلِ عمرانَ، وغزوةِ بَدْرٍ في سورةِ الأنفالِ، وسيأتي في سورِ القرآنِ العظيمِ أكثرُ مَغَازِيهِ ﷺ» اهـ.
وإذا كانت الآيةُ المفسرةُ مما يتعلقُ به بعضُ المبتدعةِ فإنه يُنَبِّهُ على ذلك ثم يَسْتَطْرِدُ فِي الردِّ عليهم، وقد قال عندَ تفسيرِ الآيةِ رقم (١٠٧) من سورةِ الأعرافِ حينَ عَرَضَ لشبهةِ الجبرِ والقَدَرِ: «وَنَحْنُ في هذه الدروسِ دائمًا نُبَيِّنُ كيفيةَ رَدِّ هذه الشُّبَهِ» اهـ.
وكان ﵀ كثيرًا ما يَعْرِضُ السؤالَ الذي يَتَوَقَّعُ انقداحَه في أذهانِ السامعين ثم يجيبُ عنه، وقد قال عند تفسيرِ الآيةِ رقمِ (٣٧) من سورةِ التوبةِ: «إِنَّ من عادتنا التي نَجْرِي عليها في هذه الدروسِ أن نتعرضَ لِمَا نَظُنُّ أنه يَسْأَلُ عنه طلبةُ العلمِ» اهـ وهذا تجده مبثوثًا في هذا التفسيرِ فيما يَقْرُبُ من سبعين موضعًا.
وكثيرًا ما يَقْرِنُ الشيخُ ذلك كُلَّهُ بالوعظِ والتذكيرِ بالاستعدادِ للآخرةِ واستحضارِ المراقبةِ لِلَّهِ ﷿.
1 / 22
وقد يَسْتَطْرِدُ في بعضِ الأحيانِ في قضيةٍ واحدةٍ تستغرقُ الدرسَ كُلَّهُ - وهذا قليلٌ فيما وَقَفْتُ عليه - كما فَعَلَ عند الكلامِ على قولِه (تعالى) من سورةِ الأعرافِ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: آية ١٢] حيث أَطَالَ في الردِّ على ابنِ حَزْمٍ في رَدِّهِ القياسَ، كما سَتَقِفُ على ذلك في موضعِه من سورةِ الأعرافِ.
وكذلك عند الكلامِ على قوله (تعالى) من السورة نفسها: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: آية ٥٤] حيث بَسَطَ الكلامَ على مسألةِ الصفاتِ.
وكذا في تفسيرِ قولِه تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: آية ٥٧] حيث أطالَ النَّفَسَ في الردِّ على أهلِ الفَلَكِ.
وربما أَحَالَ إلى بعضِ كُتُبِهِ، كما نرى ذلك عند كلامِه على المجازِ أثناءَ تفسيرِ الآيةِ رَقْمِ (٢١) من سورةِ بَرَاءَةٍ.
ومما يُذْكَرُ في هذا المقامِ مِمَّا يَدُلُّ على غَزَارَةِ تلك الدروسِ بالعلمِ أن الشيخَ ﵀ حينما عُرِضَ عليه درسُه السابقُ المتعلقُ بالردِّ على ابنِ حَزْمٍ في إنكارِ القياسِ - مُفرَّغًا من الشريطِ الْمُسَجَّلِ بعد سنةٍ من إلقائِه - وَسَمِعَهُ الشيخُ بصوتهِ قال: «لِوْلَا أَنِّي أَسْمَعُ صَوْتِي بِأُذُنِي وأنتَ - يعني تلميذَه الشيخَ عطيةَ - أَتَيْتَنِي بها مكتوبةً؛ ما صدقتُ أن شخصًا يقولُ هذا ارْتِجَالًا» (^١).
_________
(^١) ترجمة الشيخ محمد الأمبن الشنقيطي، للسديس ص٢٢٢.
1 / 23
وَلَمَّا رَاجَعَهُ أحدُ تلامذتِه في تخفيفِ مستوى الدرسِ، أَجَابَ بقولِه: «إن اللَّهَ يفتحُ على المرءِ ما لم يكن يتوقعُ، ثم إن المسجدَ يَجْمَعُ عجائبَ من أجناسٍ مختلفةٍ، وَيَكْفِينِي واحدٌ يَحْمِلُ عَنِّي ما بَلَّغْتُ مِمَّا عِنْدِي» (^١) اهـ.
وقد نَبَّهَ الشيخُ ﵀ على ذلك عند الكلامِ على قولِه (تعالى) من سورة براءة: ﴿لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ...﴾ [التوبة: آية ٤٤] لَمَّا تكلمَ على بعضِ النواحِي الإعرابيةِ واللغويةِ المتصلةِ بالآيةِ، فقال بعدَ ذلك: «ونحنُ نذكرُ هذه الأشياءَ العربيةَ، وإن كانَ أكثرُ المستمعين لا يَفْهَمُونَهَا؛ لأَنَّا نريدُ أن تكونَ هذه الدروسُ القرآنيةُ يستفيدُ منها كُلُّ الحاضرين على قَدْرِ استعداداتِهم، وَاللَّهُ يُوَفِّقُ الجميعَ للخيرِ» اهـ.
وذكر ﵀ بعضَ التحقيقاتِ اللغويةِ في موضعٍ آخرَ، ثم عَقَّبَ ذلك بقولِه: «فنحنُ - أيها الإخوانُ - نذكرُ هذه المناسباتِ؛ لأَنَّا نعلمُ أن القرآنَ العظيمَ هو مصدرُ العلومِ، وله في كُلِّ عِلْمٍ بيانٌ، فنتطرقُ الآيةَ من وجوهها، وَقَصْدُنَا انتفاعُ طلبةِ العلمِ؛ لأن القرآنَ أصلٌ عظيمٌ تُعْرَفُ به أصولُ التصريفِ، والنحوِ، وأصولِ الفقهِ، والتاريخِ، والأحكامِ، إلى غيرِ ذلك من جميعِ النواحِي، فنحن جَرَتْ عادتُنا بأن نتطرقَ الآيةَ من جميعِ نواحيها بحسبِ الطاقةِ لينتفعَ كُلٌّ بِحَسَبِهِ» (^٢) اهـ.
وقال عند تفسيرِ قولِه (تعالى): ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ﴾ ... [التوبة: آية ٣٤]: «ونحنُ - عادةً في هذه
_________
(^١) المصدر السابق.
(^٢) ذكره عند تفسير الآية (١٠١) من سورة الأعراف.
1 / 24