ولتوضيح هذا نذكر أن الآداب التي وضعها الإنجيل غير طبيعية، على معنى أنه لا يمكن أن يسكن إليها بطبيعة أحد من الناس، فالحكمة الإنجيلية التي تقول: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر؛ حكمة غير معقولة، لا يقرها عرف، ولا يدعو إليها قانون. والحكمة المسيحية التي تقول: من سخرك ميلا فامش معه ميلين؛ حكمة غير ممكنة القبول. ومن المستحيل أن تجد مسيحيا يدير لك خده الأيمن حين تضربه على خده الأيسر، أما المسيحي الذي يتبعك ميلين حين تسخره ميلا فهو نادر الوجود!
ومن المستطرف ما لاحظه الدكتور زويمر على ما رواه الغزالي عن المسيح من أنه مكث يناجي ربه ستين صباحا لم يأكل، فقد قال: الحقيقة أنها أربعون. ولم تتعب نفسك يا سيدي الدكتور في هذا التصحيح؟ المسألة برمتها خيال في خيال، لأن الذي يمكث ستين يوما أو أربعين يوما بلا طعام لا يصلح لشيء في هذا الوجود الزاخر بالجهد والجلاد. وهل يستطيع القسيسون والرهبان أن يحيوا هذه الحياة! وهبهم استطاعوا فما عسى أن تكون منزلتهم بين الأحياء؟
وأي خطأ أفدح من قول الغزالي في الدرة الفاخرة: «اعتبروا بعيسى عيه السلام، فقد قيل إنه لم يملك إلا ثوبا واحدا لبسه عشرين سنة، ولم يأخذ معه في كل سياحاته إلا كوزا وسبحة ومشطا. ورأى ذات يوم رجلا يشرب من نهر بحفنتيه فطرح الكوز ولم يستعمله ثانيا، ثم رأى رجلا يمشط لحيته بأصبعه، فطرح المشط ولم يستعمله ثانيا، وكان يقول دائما: حصاني قدماي، وبيوتي مغائر الأرض، وطعامي خضرتها، وشرابي من ماء أنهارها، ومقري بين بني آدم».
وهذه من الغزالي دعوة مردودة، لأن الإسلام لا يعرف هذا النوع من الحياة، وكيف يدعو المسلمين إلى أن يعتبروا بما روي عن عيسى أنه لم يملك إلا ثوبا واحدا لبسه عشرين سنة، مع أنه من المستحيل أن يبقى الثوب الواحد على جسم المرء عشرين سنة، إلا أن تكون هذه أيضا معجزة، وعفا الله عمن لا يفهم هذه المعجزات!
إن عيسى الذي يصورونه بهذه الصورة شخص خرافي لم يعرفه التاريخ. وإلا فأي أرض يسمح جوها بأن يظل الثوب على صاحبه عشرين عاما لا يبلى، ولا يعرض لابسه لنفرة تلامذته وأصدقائه؟ وكيف يقابل هذا بما روى الغزالي عن المسيح من أنه قال: «إذا كان صوم يوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته، وليمسح شفتيه، لئلا يرى الناس أنه صائم.» فإن في هذا الحديث دعوة إلى كتمان الصوم، والظهور بمظهر الترف، تجنبا للتمدح بمظهر الصيام.
أليس من العجيب أن يصدق الغزالي أن عيسى يقول : من أخذ رداءك فأعطه إزارك، ومن ذا الذي يرضى من المسلمين أو النصارى أن يتأدب بهذا الأدب الغريب؟!
ويستشهد الغزالي بقول عيسى عليه السلام: لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في قلب مؤمن، كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد، مع أن هذا مناقض للآية الكريمة:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
1
ويستشهد بقول عيسى: انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدخر، والله تعالى يرزقها يوما بيوم، فإن قلتم نحن أكبر بطونا فانظروا إلى الأنعام كيف قيض الله تعالى لها هذا الخلق للرزق. وهذا يناقض الآية الكريمة:
Неизвестная страница