وقد درسها بنفسه، ولم يتتلمذ لأستاذ، فكان ذلك داعية لهذا البغض العميق، الذي جعله ينسى الفلاسفة، ولم يذكرهم إلا بسوء في كتبه الأخلاقية، ولو أنه تلقاها على أستاذ تلقي الفقه والتصوف والتوحيد، لرجونا أن تخف حدته كلما وجد الفرصة سانحة ليسلق الفلاسفة بلسان حديد.
1
ذلك بأن الأساتذة ينتصرون لعلومهم، ويؤثرون في تلامذتهم أثرا غير قليل، وأثر المتصوفة من أساتذة الغزالي واضح كل الوضوح فيما صبغت به آراؤه الدينية والأخلاقية.
ولكن هل نجا الغزالي من محاكاة الفلاسفة حين كتب في الأخلاق؟ وإن نظرة في تقسيم الفضائل، وطرائق كسبها، وتنويع الرذائل، ووسائل الخلاص منها، لترينا مبلغ محاكاته للفلاسفة الذين كتبوا في الأخلاق، والآداب الاجتماعية.
وإنك لتضحك بملء فيك حين تراه يقول في كتابه «المنقذ من الضلال»: «وأما السياسات فجميع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية السلطانية، وإنما أخذوها من كتب الله المنزلة على الأنبياء، ومن الحكم المأثورة عن سلف الأولياء، وأما الخلقية فجميع كلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها، وذكر أجناسها وأنواعها، وكيفية معالجتها ومجاهدتها، وإنما أخذوها من كلام الصوفية، وهم المتألهون المثابرون على ذكر الله، وعلى مخالفة الأهواء، وسلوك الطريق إلى الله بالإعراض عن ملاذ الدنيا، وقد انكشف لهم في مجاهداتهم من أخلاق النفس وعيوبها وآفات أعمالها ما صرحوا به، فأخذه الفلاسفة ومزجوه بكلامهم، توسلا بالتجمل به إلى ترويج باطلهم.» ص16.
وقد لحظ الغزالي أن هذه الدعوى العريضة قد تقبل إذا وجهت إلى فلاسفة الإسلام، فقد قرأوا القرآن، وعرفوا منه أشياء من حكم الأنبياء والمرسلين، وقرأوا للصوفية كثيرا من الحكم والأمثال، ولكن هذه الدعوى قد تظهر باطلة إذا وجهت إلى فلاسفة اليونان، فانظر ماذا يقول في ذلك: «ولقد كان في عصرهم، بل في كل عصر، جماعة من المتألهين لا يخلي الله تعالى العالم منهم، فإنهم أوتاد الأرض، ببركاتهم تنزل الرحمة إلى أهل الأرض.» ص17.
فعلى هذا لا فضل لسقراط، ولا أفلاطون، ولا أرسططاليس فيما وفقوا إليه، حين كتبوا في الأخلاق، وإنما الفضل لأولئك «الأوتاد» الذين شرفت بهم بلاد اليونان منذ آلاف السنين ولا أدري ماذا يفعل الغزالي إذا أقسم الأغارقة بالله جهد أيمانهم أنه لم يكن لهم إله واحد وإنما كان لهم ألف إله وإله، بل كان من آلهتهم من يحض على اللذة، ويمهد للفسق السبيل!
إنه لا شك في أن الغزالي استقى من المنابع الفلسفية، في كل ما كتب عن الأخلاق، وغاية الأمر أن وجهة الدين، ووجهة التصوف، غلبتا عليه، وصورتا آراءه بصورة دينية، تبدو للنظرة الأولى وكأنها لا تمت للفلسفة بسبب، ولا تأخذ منها بنصيب، وهي في الواقع متأثرة بما للفلسفة من أصول.
وإنه لا حرج علينا في أن نقرر أن الغزالي أصلى الفلسفة نار العقوق فقد كانت سبب حصافته، وذيوع صيته، ثم أطمع فيها العامة، ومكن الجهال من تصغير الحكماء، وليس تكفيره لابن سينا والفارابي بالأمر الهين، وإن فعلته تلك لتحسب بذرة هذه التقاليد الممقوتة التي يعانيها المفكرون الأحرار، في جميع الأقطار الإسلامية، منذ حين!
إخوان الصفا
Неизвестная страница