وقفت لأناجي عظام من سبقوني.
جئت لأتحدث إليهم بالفكر والقلب وأعيش هنيهة بين قوم تعروا من مطارف المادة، وتركوا معها أباطيل الدنيا وترهاتها.
ذهبت لأجالس قوما إذا غبت عنهم لا يغتابونني، وإن غفلت عن الآخرة يذكرونني، وإذا وثقت بهم فلا يغدرونني.
هناك، في تلك البيوت الحقيرة، بدت لعيني عظمة ليس بعدها عظمة. رأيت عظمة الآخرة في جانب الدنيا الزائلة التي تغر كثيرين من البشر فيبطرون ويرفسون.
حسبوا الحياة والسعادة بالخبز والمال، وما دروا أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وأن حياة النفوس الكبيرة والهمم العالية ترتكز على صخرة ضخمة لا تنال قنابل العلم منها شيئا، وتلك الصخرة هي الضمير.
إن عظمة البشر، مهما سمت وتعالت، فعند باب القبر تنتهي، ووراء جدرانه تضمحل وتتلاشى، ولكن الضمير الحي وحده يثبت في وجه العدوان ثبوت الصخرة أمام العاصفة. وتلك هي الحياة الثانية التي لا يلاشيها موت ولا تسحقها طوارق الحدثان ولا تنسخها أيدي الزمان.
إن حياة الذكر الحسن لهي أطول من حياة المادة وأكبر شأنا منها، فالتاريخ - وهو الكاتب العدل - يسجل مآثر قوم كانوا بإخوانهم بارين، ويمنحهم الطوبى، ويحرق لهم بخور الاحترام ويضفر أكاليل الثناء. وطمعا بهذا الإكرام كان ملوك أرض الفراعنة القدماء يمحون آثار سلفائهم عن المباني ويجعلون مكانها آثارهم لتنسب إليهم ويغنموا الثناء الطيب الدائم.
وقفت هنيهة في مدينة الأموات، فسمرتني بمكاني أفكاري، فقعدت على حجارة أضرحتهم، وخطرت ببالي عملية حسابية للذين عرفتهم فيمن ماتوا، ثم نهضت أنفض ثيابي، ورأيني مدفوعا إلى قبر عال قام على أعمدة من الرخام، مزين بالأكاليل المزركشة والتماثيل البديعة، فتقدمت ووقفت متأملا علي أرى ما يوحي إلي أسرار عظمة ساكنه، ومآثره التي قلد بها جيد الإنسانية، فوقع نظري على بلاطة رخامية أفادتني أن ساكن ذلك الجدث، بل القصر الشاهق، رجل قضى أيامه جامعا لشتات الدنانير ، محملا إخوانه في البشرية نيره الثقيل. فمن أتعاب أولئك التعساء وعرق جبينهم جمع الثروة التي كانت سببا لسعادته بضعة أيام وراحة عدة سنين.
عاش في حياته تحت سماء القصور غارقا بين حشايا الحرير، ورقد رقادا أبديا في ضريح أرفع من قبور الفقراء.
وقفت أمام ذلك الضريح العالي أقول في نفسي: ماذا يقصد هذا الغني من هذا الضريح الشاهق؟ أيطمع بذكر خالد ويرغب في الثناء الطويل؟ كل هذا كان قد ناله مضاعفا لو أنفق ما أنفقه على هذا القبر في سبيل البر والإحسان. إن هذا الأثر الباطل يزول ولكن آثار الرحمة لا تمحى مهما تعهدتها السماء بأمطارها، ولامستها الريح بأصابعها.
Неизвестная страница