لست أقول لك: إن الجميل حاذق متقدم في فنه، متمكن من صناعته، فإذا عرفته أدركت مثلي أنه فنان شكلا ولحما ودما، وإذا حدثته نم لك عن طبيعته الفنية ما يرويه من روائع الأدبين: الفصيح والعامي. فصاحبنا فنان في حركاته وابتساماته ورموزه وغمزاته.
كثيرا ما أفتش عن الفكرة في فن اليوم، وقلما أجدها، فأكثر المحدثين قد أهملوها كأنما الشعر والتصوير كخيل الطراد، السابق منها الجواد. أما الجميل فهو من المخضرمين، له جديد المحدثين وبديع القدماء، فهو يدرس موضوعه درسا نفسيا، ويحلله تحليلا فنيا قبل أن يهبه الحياة؛ ولذلك نرى في مسيحه بطلا بين براثن الموت، ثائرا متمردا وراء الآباد والآزال، لم يأخذ الموت منه ما وهبته له الحياة. ففي موته بلاغة ناصعة ألوانها لا يدرك تأويلها إلا الراسخون في العلم ...
أشهد أنني أعرف مسيح الجميل أين رأيته، ولا عجب فالفنان الأصيل أبو روائعه، وهل تختفي ملامح الآباء في الأبناء.
كأن كلمة «حمل الله» بطلت من قاموس الجميل، فمسيحه بطل مغلوب على أمره، ويا ويل الدنيا من الخالدين المغلوبين، فلغبتهم انتصار وانكسارهم ظفر.
إن الوهاد الأزلية التي خلقها الجميل في جسم مسيحه المسجى تظل علينا منها آلاف المواعظ، وفي رؤيتها غناء عن سماع تلك. السيد غلب وذاق حتى الموت موت الصليب، ولكن صرامة شفتيه تعبر لنا حلمه بالغلبة والانتصار، ولكنه في كل حال حلم مفرط في الآلام تحاول الأمومة المفجوعة بالشباب تفسيره فتحار فيه. تنحني العذراء مريم أم يسوع فوقه مفتشة بألف عين عن الحياة الضائعة فلا تجدها، وتحاول أن تبثها فيه من عينيها فلا تفلح، كأني بها لم تصدق أنه مات ... - صبرا يا سيدتنا، إن حبة الحنطة إن لم تمت لا تعش هكذا قال ابنك، وستأتيك المجدلية بالخير بعد غد.
ليس للمقاييس قيمة في نظر الجميل فهو يرسم كأنه يخربش، ويصور كأنه يدهن، ريشته مكنسة، وهندازه ذوقه، وبركاره عيناه، ومن بين منفرجهما تخرج الخطوط متناسقة متوازية، ونكتة فنه أنه من ذوي الوزارتين، يتذوق الأدب إلى حد بعيد، ويكتب كأديب مثقف، ولا غرو فالأدب والتصوير أخوان. بل هما كتاب الجمال والحق في مجلدين.
ولنعد أيضا إلى يسوع واحة الفن الخالدة. مات السيد فكان وليمة أزلية أين منها الأرغفة السبعة ... صار جسده مأكلا حقا، ودمه مشربا حقا ... أما الفن وهو من أبناء المعاني، فكان قنوعا فجعل مأدبته ذكرى حياته، وخصوصا مأساة موته حديث الإنسانية الخالد. ولقيصر الجميل، خصوصا، مرعى خصيب في حقل يسوع، فصديقنا رضع حب المخلص مع حليب أمه. فتلك الأم التقية الصالحة تحوط ابنها باسم الصليب المقدس كل ليلة، ولا يهنأ لها نوم إن لم تفعل، فقد تخشى على وحيدها من التوابع والزوابع وهي لا تدري أن قيصرها زوبعة. أما جدوده الجميليون فلم تشب دمهم المسيحي شائبة، وهذا ما ورثه عنهم فتاهم فهو لا يتخيل ابن الله إلا كما رسموه له، أو كما رآه فيهم فيجيء مسيحه لبنانيا يجمع إلى السذاجة تلك القوة الصارمة التي تخلق منه رجلا غير عبراني، عضلات مفتولة تدل على أنه نبت عند مغارة أفقا أو نبع قاديشا ...
أفتش عن العظمة في يسوع فلا أجدها في الإله بل في الإنسان منه، والفن تمجيد للإنسان؛ وكي نمجد الله يمثله لنا الفن بصورة الإنسان، ثم يخلع عليه ما يخلع من خير سيماء الناس، ويستنبط من يستنبط من المثل العليا، والفنان بل كل ذي رسالة خالد ومخلد بما يعبر عنه.
دع الإبداع الوسط الذي يملأ الأسواق، فالخلق في الفن خير من الواقع، فليكن وكدنا الخلق البديع. إن فن التصوير عندنا رسما كان أو نحتا، سار في طريق الجديد، وقد يكون أفلح أكثر من الأدب لندرة الفنانين وكثرة المتأدبين، وبلية الأدباء هؤلاء الذين لا يعدون العشرة فيلقون جيفهم على قارعة الطريق.
قلت: إن الفن التصوير قد شمر وعدا وإن استراح فتحت عين الشمس. من كان قبل اليوم ينفق الوقت والمال ليصور رجلا أو مشهدا عاديين لا معنى لهما في نظر الأرستقراطيين؟ فالأدب الشعبي استيقظ ثم مات مع الجاحظ، إلى أن بعث منذ أعوام، والتصوير خرج عندنا منذ سنين من عتمة الكنائس والقصور إلى الأكواخ والغابات والجداول يحمد الله على الحرية والنور.
Неизвестная страница