حين وصلت كانت العزبة لا تزال خالية إلا من النساء العجائز والأطفال، وقوبلت بعاصفة نباح هائلة من كلاب كثيرة هزيلة يكاد يقتلها الجوع، وظلت تطاردني حتى كدت أعود لولا الفلاحة الضخمة الملوثة الملابس بالطين، والتي ظهرت في الوقت المناسب لتحول بينها وبيني.
ثم تقودني لبيت «وردة» وتتطوع من تلقاء نفسها بتعليل زيارتي، فتسألني: إنت يا خويا من قرايبها بتوع المحطة؟
وكانت تقصد بالمحطة البندر حيث السكة الحديد، وحيث درج الناس على تسميته بالمحطة. وهي أيضا التي دقت الباب بيدها الملوثة، ونادت على وردة، وطلبت منها أن تفتح «للضيوف» ... وأجابها من الداخل صوت حافل بزغاريد أنثوية رقيقة، لكنها بندراوية راقية حلوة ... صوت بدا غريبا غير متوقع في ذلك المكان النائي الموغل في بعده عن كل ما يمت إلى الرقي والحلاوة بصلة ... وفتح الباب، ولومضة خاطفة لمحت أجمل وجه وقعت عليه عيناي، وجه أبيض يكاد من بياضه أن يصبح شفافا، ومن وسامة تقاطيعه أن يتحول إلى صورة من الصور التي نراها على علب الحلوى والملبس. وكان واضحا أنها انتهت توا من استحمامها، فشعرها كان قد صفف نصفه، ولا تزال قطرات الماء تتساقط من نصفه الآخر ... ومضة رأيتها بعدها تختفي بحركة غريزية وراء الباب، ثم تعود للظهور، وقد وضعت فوق رأسها جلبابا أخفى الشعر، وحاول فاشلا أن يخفي الوجه. ولم يتح لي أن أرى أكثر؛ فقد أسقطت رأسي في الحال فوق صدري خجلا، ولم أرفع عيني عن الأرض، وكدت آمر أذني ألا تسمع خاصة حين خرج صوت «وردة» مملوءا بزغاريده الخافتة الداخلية يرحب بي، ويطلب مني أن أتفضل، مع أنها لم تكن قد عرفت بعد من أنا ولماذا جئت.
ووجدت نفسي أزداد خجلا وتعثرا، وأنا أشرح لها بأقل الكلمات وأسرعها سبب مجيئي، وتحمر أذناي وتسخنان وأنا أذكر لها الأمارة. ولم يغير ما قلته شيئا من ترحيبها أو لهجتها، فمضت بنفس الروح ترحب بي، وتطلب مني أن أدخل وأجلس. وحين ترددت وجدتها تجذبني إلى الداخل بيد بضة لا تزال مبتلة بالماء وتقول: خش يا حبيبي ... دا بيتك ... اتفضل اسم الله عليك، اسم النبي حارسك.
ولم تترك يدي إلا حين أصبحت في حجرة داخلية كالمندرة، وإلا حين أمالت بيدها الأخرى «حصيرة» زاهية النقوش وفرشتها، ووضعت فوقها مسندين، وأصرت على أن أجلس على أحدهما، وأستند إلى الآخر.
ولم أكد أبدأ ألتقط أنفاسي حتى كانت عدة الشاي أمامنا، والشاي نفسه قد انتهى إعداده. وحتى كانت تناولني الكوب بنفس يدها التي بدت حمراء من كثرة بياضها ونعومتها، ثم تسألني عن رأيي فيه، وتقول إنها راعت أن تجعله خفيفا ليكون «شاي أفندية» يليق بي.
ومع رشفات الشاي الأولى بدأت أفيق، فحتى ذلك الوقت كانت مشغوليتها الشديدة في إكرامي والترحيب بي لم تدع لي فرصة أحدثها فيها عن سبب مجيئي بالتفصيل، أو حتى أذكر لها شيئا عن كنه علاقتي بزوجها الغريب. وكلما طال الوقت يزداد اهتمامها بي، وكلما زاد اهتمامها ازددت خجلا واضطرابا، حتى بدأت أفكر في وضع الشاي جانبا، وتهيئة نفسي لإعادة الرسالة عليها، ولكني فوجئت بها تقترب مني كثيرا وتقول: إنت مكسوف ليه يا حبيبي؟ ... هو ده مش زي بيتكم ولا احنا مش قد المقام؟ ما تنكسفش يا خويا اسم النبي حارسك وحاميك.
وأعقبت كلماتها الأخيرة بهدهدة حنونة علي، هدهدة كادت تأخذني معها تحت إبطها.
وكان لا بد أن ينتهي خجلي ولو للحظة وأرفع بصري إليها، إلى تلك التي تعاملني كصبي صغير أو طالب، بينما هي لا تكبرني إلا بأعوام أقل من أن تعد. وحتى لو كانت أكبر مني بكثير؛ فهي امرأة وأنا شاب غلظ صوتي وبرزت حنجرتي. ثم إنها ليست صغيرة فقط ولكنها حلوة بطريقة لا يتصورها العقل، بيضاء جميلة ملفوفة في فستانها الحرير المحبوك، وكل ما فيها ناضج فائر يكاد يمزق الفستان. وحتى لو كان لها جسد رجل، فيكفي ما في عينيها من سواد جميل، يشع رغبات مجنونة تكاد تنطق وتصيح ... ولا تجد في هذا كله حرجا من الطبطبة علي، وأخذي تحت إبطها، وإدارة وجهي ناحيتها كلما حاولت أن أغض الطرف أو أستدير. بل لا تجد حرجا في أن تعزم علي بالدخان والمعسل، وأي مكيف أريد. وأحيانا كثيرة تملس على شعري وتقول: الله ... شعرك أصفر وحلو زي شعر الإنجليز ... اسم النبي حارسك يا خويا وصاينك.
وتقول «أخويا» بطريقة يقشعر لها الجسد، بطريقة لا تمت إلى الأخوة بصلة.
Неизвестная страница