14

Конец света

آخر الدنيا

Жанры

قال هذا لنفسه وهو يسحب الغطاء فوقه، وكأنما يكيل الضربة القاضية وينهي المعركة التي دارت وطالت في خياله.

ولكنه ما كاد يسحب الغطاء حتى دق شيء ... ومن كثرة تفكيره في المكنة خيل إليه أنها بالتأكيد هي التي تدق، بل ذراع واحدة فقط من عشرات أذرعها هي التي تدق باستمرار، وكأنما علقت وتكتب: لا لا لا لا.

وبسرعة ثمانين كلمة في الدقيقة - وهي السرعة التي طالما حلم أحمد أن يكتب بها - مضت أذرع الآلة ترتفع وتنخفض وتتداخل في الظلام، وتكتب وترد عليه في تكتكة منتظمة: أنت واهم ... من قال إنك تملك حق التصرف؟ أنت مثلي تماما، وحريتك في التصرف كحريتي والدليل موجود. الخطاب المشهود الذي كنت تكتبه لشركة الأسمنت، ووجدت أن كلمة «شؤون» مكتوبة خطأ والهمزة موضوعة فوق الواو، وذهبت إلى الريس عبد اللطيف فرحا تريه الخطأ، وظننت أنه سيكافئك لفطنتك ونباهتك. أتذكر نظراته التي التهمك بها وهو يقول: اسمع يا حضرة، أنت هنا مش على كيفك يا حضرة. اللي مكتوب قدامك، انقله زي ما هو يا حضرة. غلط مش غلط ملكش دعوة يا حضرة. إيه حتعدل ع الشركة. الشركة عايزة الهمزة على الواو تبقى الواو يا حضرة. عايزاها طايرة في الهوا تبقى طايرة في الهوا. فاهم يا حضرة؟ اتفضل على شغلك واعرف مركزك كويس. إنت هنا كاتب يعني تكتب، يعني تفعل ما تؤمر به. إنت عارف المكنة؟ إنت زي المكنة ... فاهم يا حضرة؟

الريس عبد اللطيف ذو الصدر المقفع إذن هو الذي أوحى إليه بالخاطر، وظل الخاطر كالقنبلة الزمنية في عقله، حتى فجره الأرق اللعين في تلك الليلة الليلاء.

في نفس الوقت، الذي اكتشف فيه أحمد رشوان السبب، كانت أشياء كثيرة أخرى قد حدثت داخل عقله، وحدثت كلها معا وبسرعة مذهلة. فأولا كان قد آمن إيمانا لا شك فيه أنه في نظر الشركة مكنة لا أكثر ولا أقل، وأن الريس عبد اللطيف على حق، والمكنة على حق، وهو وحده المخطئ الواهم الذي كان يظن نفسه شيئا آخر غير هذا، شيئا اسمه الإنسان. وفي لحظة خاطفة تصور أحمد نفسه بأنفه الذي يعتد به كثيرا، بالكتب التي كان يقرؤها أثناء دراسته، ويتيه على زملائه بقراءتها وإدراك حقائق عن الكون والحياة لا يدركونها، بكفاحه الرهيب من أجل الشهادة، بالشهادة، بحياته وكل أحلامه، بكل هذا مجرد مكنة، آلة، حتى أقل من الآلة التي يكتب عليها!

للحظة خاطفة تصور أحمد هذا، ولكنها كانت كافية لأن تملأه بالغضب. وغضب أحمد رشوان لأمثال هذه الأشياء ... غضب يعرفه عنه كل أصدقائه وزملائه. إذن كانت المسألة مسألة مبدأ وحق. ركبه الغضب، وأبى أن يتزحزح عن موقفه قيد أنملة. حدث مرة في أثناء امتحان المحاسبة أن وقف أستاذ المادة في وسط خيمة الامتحان، ولبخ في حق الطلبة، واتهمهم بأنهم سفلة وأوغاد (إذ كان الطلبة قد أحدثوا ضجة بعد توزيع الأسئلة لصعوبتها). فما كان من رشوان إلا أن ترك الإجابة، وانتصب واقفا يحتج على الأستاذ. وغضب الأستاذ وأصر على طرد رشوان من اللجنة، وتقديمه لمجلس تأديب. ولكنه تحت إلحاح المدرسين زملائه، اكتفى بأن قال إنه على استعداد للصفح عنه لو اعتذر عن تصرفه علنا أمام الطلبة. ورفض رشوان رفضا باتا أن يعتذر، وفضل أن يغادر اللجنة ويرسب في المحاسبة على أن يهين كرامته.

كان لا يمكن أن يمر خاطر كهذا على أحمد رشوان مرور الكرام إذن، فالأصول أنه إنسان، وخلافا لكل الأصول أن يكون مجرد مكنة. وعليه أن يثبت لنفسه وللناس أنه إنسان، وأن ثمة فرقا كبيرا بينه وبين المكنة، عليه أن يثبت هذا أو يهلك دونه. •••

وفي صباح اليوم التالي، كان أحمد رشوان يأخذ طريقه إلى مقر الشركة في شارع سليمان، وكأنه في طريقه إلى ساحة معركة أو لجنة امتحان. كان قد سهر كثيرا، وكان عصبيا وعلى وجهه تصميم خطير. لم يكن لديه أية فكرة عما يمكن أن يفعله، ولكنه كان مصمما على أن يثبت لنفسه على الأقل أنه إنسان، إنسان حقيقي، وليس مجرد آلة كاتبة.

دخل المبنى وألقى تحيات الصباح وتلقى التحيات، وبوجه غير صبوح صبح على الريس عبد اللطيف، وتناول منه «الشغل» بلا ذيول شكر طويلة كما تعود أن يفعل.

وذهب إلى الحجرة التي يعمل فيها هو وزملاؤه. كان أكثرهم قد سبقوه، وبين حفيف التحيات ونكات الصباح الخفيفة الطائرة جلس. وبينما كان يرفع الغطاء عن المكنة، لم يستطع أن يمنع نفسه من إلقاء نظرة متشككة عليها، ومط شفتيه حتى التصقت شفته العليا بأرنبة أنفه المدببة، وذلك أنه وجدها فعلا كتلة من حديد ... حديد في حديد يلمع ... وحديد مطفأ، وبرودة وسكون ولا حياة. مكنة صماء بكماء، ذلك أمر لا شك فيه.

Неизвестная страница