١- (أبو هفان قال): دخل أبو نوّاس على يحيى بن خالد فقال له يحيى أنشدني بعض ما قلت، فأنشده:
إني أنا الرجل الحكيم بطبعه ... ويزيد في عامي حكاية من حكى
أتتبع الظرفاء أكتب عنهمو ... كيما أحدث من أحب فيضحكا
فقال يحيى إن زندك ليرى بأول قدحة فقال أبو نواس في معنى قول يحيى ارتجالا:
أما وزند أبي عليٍ إنّه ... زند إذا استوريت سهّل قدحكا
إن الإله لعلمه بعباده ... قد صاغ جدك للسماح ومزحكا
تأبى الصنائع همتي وقريحتي ... من أهلها وتعاف إلا مدحكا
٢- أبو هفان: وأخبرني أبو يوسف ابن الداية قال: كان أبان اللاحقي يحسد أبا نواس وكان انقطاعه إلى جعفر بن يحيى، فعرض جعفر على أبي نواس كلبة له وقال له: انعتها باسمها أولا، فقال: قد سميتها أم أبان. فغضب جعفر وقال: تعبث بنديمي وشاعري!! فهجاه أبو نواس بقوله:
أرى جعفرا يزداد لؤما ودقة ... إذا زاده الرحمن في سعة الرزق
وأعظم زهوا من ذباب كناسة ... وأبخل من كلب عقور على عرق
فلما قدم الفضل من خراسان سأله جعفر أن يجعل أبانا على عطاء الشعراء وتميز ما يهنأ به من الشعر ففعل، وأعطاهم على مراتبهم وطبقاتهم، فلما جاء أبو نواس لقبض جائزته أعطاه درهمين، فرفع أبو نواس يده فصفع أبانا وقال: سارق غلة أمه، قد بلغني أن أمك كسبت عشرة دراهم فخنتها، فضحك الفضل وقال لجعفر: مر أبانا ليصالحه.
٣- أبو هفان قال: حدثني عبدوس الوراق أن أبا نواس احتاج حاجة شديدة، وتاقت نفسه إلى الخمر فلم تمتد يده إلى ما يشتريه، فذكر أخا له شاعرا في بعض القرى التي تقرب من بغداد، فخرج قاصدا له، فلما ورد عليه وجده أسوأ حالا منه، وأظهر له عيلة، ووجد عنده شرابا وليس عنده ما ينتقل به عليه، فاعتذر إلى ابي نواس وكشف له حاله، فقال له أبو نواس: إنها تشرب على الريق وأنشأ:
اشرب على الخيري والريق ... إنا على بعد من السوق
لا تطلبن الخبز في دارنا ... فإنما ننفخ في البوق
ثم قال له أبو نواس: أما هاهنا من يمدح؟ قال: بلى، رجل من مضر إذا مدحته مدحني وإذا هجوته هجاني مثلا بمثل. فنظر في شعر المضري فإذا هو شعر متظرف متكلف فتناول القرطاس وكتب له:
قل لأبي مالك فتى مضر ... مقال لا مفحم ولا حصر
جئناك في ميت نكفنه ... ليس من الجن لا ولا البشر
بل هو ميت سلاحه خزف ... والجسم فان والروح من عكر
ليس لنا ما به نكفنه ... فكفن الميت يا أخا مضر
يا لك ميتا صلاة شيعته ... عليه عزف والنقر بالوتر
فلما قرأ المضري الشعر أقبل بحشمه وغلمانه نحوهم، فأقام عندهم يومه ينادمهم بعد أن حمل إليهم ما يقيمهم، وأمر لكل منهما بخمسة آلاف درهم.
٤- أبو هفان قال: حدثني سليمان بن نيبخت قال: مر أبو نواس في غداة يوم من أيام الربيع وقد طشت السماء ساعة، فلما طلع علي من الباب أنشأ:
ما مثل هذا اليوم في طيبه ... عطل من لهو ولا ضيعا
فما ترى فيه رماذا الذي ... تريد هذا اليوم أن تصنعا
هل لك أن نغدو على قهوة ... تسرع في المرء إذا أسرعا
ما وجد الناس ولا جربوا ... للهم شيئا مثلها مدفعا
قال: فقلت له: ما كان يساعدني على هذا اليوم غيرك. أقم فإن عندي ما يقيمك أياما عندي، فلما كان وقت العشاء وقد أخذته الخمرة فلم تدع فيه حركة إلا أزالتها عن جهتها أنشأ يقول:
باح لساني بمضمر السر ... وذاك أني أقول بالدهر
وليس بعد الممات فادحة ... وإنما الموت بيضة العقر.
قم قال لي: اكتم علي فالمجالس بالأمانة.
٥- أبو هفان قال: وخبرت أنّ أبا نواس مر على جارية بباب قصر واقفة مع صاحبة لها فتأوه أبو نواس. فقالت الجارية لصاحبتها: أظن الفتى ذا شجن. فأنشأ أبو نواس يقول:
منحت طرفي الأرض خوفا لأن ... أجعل طرفي عرضة للمحن
إذ كنت لا أنظر من حيث ما ... أنظر إلا نحو وجه حسن
يزرع في قلبي الهوى ثم لا ... يحصل في كفي غير الحزن
أفدي التي قال لأخت لها: ... إني أرى هذا الفتى ذا شجن
قلت: نعم ذو شجن عاشق ... قالت: لمن؟ قلت: لمن قال من
قال عساه لك إنا كما ... أنت له، قلت: اتفقنا إذن
1 / 1
٦- أبو هفان قال: حدثني عبد الله بن يعقوب بن داود بن المهدي قال: كنا عند سفيان بن عيينة بمكة فجاء ابن مناذر وكانا مجاورين جميعا فتحدثا ساعة، ثم قال سفيان: ظريفكم هذا أشعر الناس. قال: كأنك عنيت أبا نواس؛ قال: نعم. قال وفيم استظرفته؟ قال: في جميع شعره وفي هذه الأبيات خاصة:
يا رشأ أبصرت في مأتم ... يندب شجوا بين أتراب
أبرزه المأتم لي كارها ... برغم دايات وحجاب
يبكي فيذري الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب
لا زال موتا دأب أحبابه ... حتى أراه أبدا دابي
فقلت لا تبك قتيلا مضى ... وابك قتيلا لك بالباب
٧- أبو هفان قال: حدثني يوسف ابن الداية قال: كان محمد الأمين مستهترا بأبي نواس لا يصبر عنه ساعة ينشط للشرب، وكان يطلبه بعض الأحيان فلا يكاد يوجد، فتابع الأمين الشراب عدة أيام وأرسل من يستنبطه ويبحث الحانات ويطلبه في مظانه فلم يقدر عليه، فغضب غضبا شديدا، وكان بعض ندمائه يحسد أبا نواس على موضعه من الأمين، فوجد مساغا للقول وموضعا للكلام فسبه وتنقصه وقال: يا أمير المؤمنين هذا عيار شارب شواظ ينادم السفلة والسوقة وينتاب الحانات ويركب الفواحش، يرى ذلك غنما وإن في منادمته تشنعة على أمير المؤمنين، فلما أكثر في ذلك قال له محمد: ألغ هذا الكلام عنك فوالله ما ينبغي أن يكون نديم خليفة إلا مثله في أدبه وظرفه وعلمه وكمال خصاله، وما غضبي عليه إلا تأسفا على ما يفوتني منه. فلم تزل الرسل تتطلبه وتبحث عنه حتى وجدوه في عدة من أصحابه في حانة خمار يهودي، فجيء به إلى الأمين وقالوا: يا أمير المؤمنين، أخبرنا اليهودي أنه مقيم عنده في الحانة منذ شهر لا يفيق من السكر هو وأصحابه ساعة. فغضب الأمين وقال: لهممت أن أضرب عنقك. ثم حلف أنه إن شرب في حانة بعد هذه مع احد من الناس ليقتلنه وليضعن عليه الأبصار والعيون، ثم قال له: اخرج الآن إذا شئت واشرب. فخرج من عنده على هذه الحال ولم ينادمه، وصح عزم أبي نواس على ترك منادمة الناس والشراب في الحانات خوفا على نفسه وإشفاقا عليها. وجفاه الأمين وأطرحه مدّة ولم يسأل عنه حتى أصبح يوما فلما شرب ثلاثة أرطال وطابت نفسه وارتاحت ذكر أبا نواس وظرفه وطيب محادثته، وأن عنده في كل شيء نادرة، فأمر بإحضاره، فلما دخل عليه شكا عظم ما ناله من غضبه وإبعاده وسأله الصفح عنه واغتفار هفوته، فأمر فخلع عليه وأقعد في مجلسه الذي كان يقعد فيه لمنادمته ثم قال له الأمين: هيه، في منزل يهودي منتن أذفر متكئا على عد مزفت شهرا وأنا أطلبك بكل مكان فلا أقدر عليك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، من تمام العفو ألا يذكر الذنب، قال: فأنشدني ما قلت في مقامك هناك فأنشده:
وفتيان صدق قد صرفت مطيهم ... إلى بيت خمار نزلنا به ظهرا
فلما حكى الزنار أن ليس مسلما ... ظننا به خيرا فصيره شرا
فقلنا: على دين المسيح بن مريم ... فأعرض مزورا وقال لنا كفرا
ولكن يهودي بحبك ظاهرا ... ويضمر في المكنون منه لك الخترا
فقلان له ما الاسم؟ قال سموأل ... على أنني أكنى بعمر ولا عمرا
وما شرفتني كنية عربية ... ولا أكسبتني لا سناء ولا فخرا
ولكنها خفت وقلت حروفها ... وليست كأخرى إنما خلقت وقرا
فقلنا له ... عجبا بظرف لسانه
أجدت أبا عمرو فجود لنا الخمرا
فأدبر كالمزور يقسم طرفه ... لأوجهنا شطرا وأرجلنا شطرا
وقال لعمري لو أحطتم بعلمنا ... للمناكمو لكن سنوسعكم عذرا
فجاء بها زيتية ذهبية ... فلم نستطع دون السجود لها صبرا
خرجنا على أن المقام ثلاثة ... فطاب لنا حتى أقمنا بها شهرا
عصابة سوء لا ترى الدهر مثلهم ... وإن كنت منهم لا بريئا ولا صفرا
إذا ما أتى وقت الصلاة تراهموا ... يحثونها حتى تفوتهم سكرا
فاستحسنها الأمين وقال: يا غلام. اسق القوم ولا تسق أبا نواس، قال: يا أمير المؤمنين ولم؟ قال: لأنك تصف الغلام إذا ناولك الكأس بأنه قد سقاك كأسين كأسا بعينه وكأسا بيده وتذكر أنك جمشته فهات الآن ما عسى أن تقول إذا لم يسقك فأنشد:
أعاذل أعتبت الإمام وأعتبا ... وأعربت عما في الضمير وأعربا
1 / 2
فجوزها لساقيها أجزها فلم يكن ... ليأبى أمير المؤمنين وأشربا
إذا عب منها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا
ترى حيثما كانت من البيت مشرقا ... وما لم تكن فيه من البيت مغربا
يدور بها ساق أغن ترى له ... على مستدار الأذن صدغا معقربا
سقاهم ومناني بعينيه منية ... فكانت إلى قلبي ألذ وأطيبا
فقال له الأمين: ويحك، لم ينج منك على حال يا غلام، اسقه ثم خلع عليه عند انصرافه وأمر له بجائزة.
٨- أبو هفان قال: خبرت أن أبا نواس قدم عليه أقاربه فقالوا له: يا هذا إنه قد نفذ عمرك وتصرمت أيامك وساء عملك واقترب أجلك فلو تزوجت بعض أهلك، وما زالوا به حتى زوجوه قرابة له وكانت جميلة بارعة، فلما دخل بها أعرض عنها وخرج على غلمان كانوا يتعهدونه فدعاهم وألبسهم الأزر المفرجة والخلوقية، وخلا بهم يومهم ذلك فلما أمسى طلقها وأنشد:
لا أبتغي بالطمث مطمومة ... ولا أبيع الظبي بالأرنب
لا أدخل الجحر يدي طائعا ... أخشى من الحية والعقرب
٩- أبو هفان: أخبرني الجماز قال: قال لي الجند يسابوري: كنت أمضي مع أبي نواس إلى باب أسماء بنت المهدي وذلك أن الشعراء كانوا يجتمعون ببابها، فقال لي: امض بنا لنتعرف خبرا إن كان، فمضيت معه فإذا نحن بجارية قد طلعت من القصر عليها قباء ومنطقة وفي رجليها نعل، مهضومة، كاعب، ناهد، فأعجبته فكان يناغيها ويغازلها ويعبث بها، وينشدها أشعارا يعرض بها فيها ويعلمها أنه يحبها، وكان يجاذبها إذا خرجت فلا ينكر عليه ذلك أحد لعبثه بالناس جميعا، ولأنه لم يكن يعتد بالنساء ولا يعرف بعشقهن. فقال يوما آخر: امض بنا إلى باب أسماء فمضيت معه، فإذا نحن بالجارية قد خرجت عليها قباء وشي منسوج بالذهب، وعلى رأسها قلنسوة إبريسمي رقيقة منسوجة بالذهب، وعليها منطقة بزنار أخضر معرقة بالذهب قد غرقت في خصرها فما تكاد تبين إلا معاليقها من انهضامه. وفي رجليها نعل مدبجة الدروز، وبيدها عود خيزران ملون، فلما طلعت علينا صرت أنا وكل من حضر هناك ننظر إليها وإلى براعتها وجمالها، فالتفت إلي أبو نواس وقال: مثل هذه فاشتر يا نخاس، فقلت: هذه ما تصلح إلا للخليفة، ولا تصلح لمن دونه. فلبثت عندنا ساعة تمزح وتمرح وتتثنى في مشيتها، ثم وقفت في موضع قريب منا وتسمع كلامنا. ونظرت إلى أبي نواس نظرا دل على أن في قلبها شيئا فأنشد بديها:
لقد صبحت بالخير عين تصبحت ... بوجهك يا مكنون في كل شارق
مقرطفة ما شانها سحب ذيلها ... ولا نازعتها الريح فضل البنائق
تشارك في الصنع النساء وسلمت ... لمه صنوف الحلي غير المناطق
ومطمومة لم تتصل بذؤابة ... ولم تعتقد بالتاج فوق المفارق
كأن مخط الصدغ في صحن خدها ... بقية أنقاس بإصبع لائق
غذته بماء المسك حتى جرى لها ... إلى مستقر بين أذن وعاتق
غلام وإلا فالغلام شبيهها ... وريحان دنيا لذة للمعانق
خلابة زنديق ولحظة قينة ... بكل الذي تهوى ومنية عاشق
قال: فلما سمعت الشعر ضحكت وولت فإذا أحسن مؤخرا، فانصرفنا وفي قلبه عليها كمد قاتل، فلما كان بعد أيام بكر إلي أبو نواس وقال لي: أتدري ما كنت فيه أمس؟ قلت: لا، قال: كنت أمس بلا نديم إذ دخلت علي وصيفة أسماء من غير إذن فقالت: تقبل الطفيلية؟ قلت لها: يا سيدتي الحمد لله الذي ألان قلبك لعبدك ومن بقربك وسهل المتعذر من لقائك. فخبريني كيف خلصت إلي، فقالت: وجهت في رسالة لا يحملها غيري فكنت أهم إلي منها. فوضعت الشراب فتأبت وقالت: أبو نواس يكون عنده الأحمر صرفا؟ فقلت لها: مطبوخ صحيح وإن كان فيه إثم فأنا أتحمله عنك. قال: فشربت حتى طابت نفسها وعبثت بها فريعت وكانت بكرا فقالت: لا والله ما مسني رجل قط ولولا ما خلبتني به من ظرفك وأدبك وحلاوة شعرك ما فكرت في رجل أبدا، فحملت عليها في الشراب حتى مكنتني من نفسها فلما رأيت سعتها جعلتها غلاما، ولما انصرفت جئتك مبشرا وفي القلب منها مثل حد السنان، فقلت له: صف هذا في أبيات من شعرك. فقال: قد فعلت، وأنشدني:
وناهدة الثديين من خدم القصر ... مزرفنة الأصداغ مطمومة الشعر
غلامية في زيها برمكية ... مناطقها قد غبن في رقة الخصر
1 / 3
كلفت بما أبصرت من حسن وجهها ... زمانا، وما حب الكواعب من أمري
فما زلت بالأشعار في كل موقف ... أراوغها، والشعر من عقد السحر
إلى أن أجابت للوصال وأقبل ... على غير ميعاد إلي من العصر
فقلت لها أهلا ودارت كؤوسنا ... بمشمولة كالورس أو شعل الجمر
فقالت عساها الخمر إني بريئة ... إلى الله من حب الرجال مع الخمر
فقلت لها إن كان هذا محرما ... ففي عنقي يا ريم وزرك مع وزري
وطالبتها شيئا فقالت بعبرة: ... أموت إذن منه، ودمعتها تجري
فما زلت في رفق ونفسي تقول لي: ... جويرية بكر. كذا جزع البكر
فلما تفاوضنا توسطت لجّة ... غرقت بها يا قوم من لجج البحر
فلولا صياحي بالغلام وأنه ... توهقني بالحبل غصت إلى القعر
فآليت ألا أركب البحر غازيا ... حياتي ولا سافرت إلا على الظهر
١٠- أبو هفان: قال الخصيب بن عبد الحميد الدهقاني - وكان من أهل المداراة لأبي نواس وهو بمصر -: بلغني أنك لا تحسن أن تخطب - وكان أهل مصر قد شغبوا عليه - فاستشاط من ذلك وقال: والله لا خطبت إلا بشعر بديهة، ثم خرج من فوره ذلك يسحب أذياله حتى صعد المنبر فقال:
محضتكموا يا أهل مصر نصيحة ... ألا فخذوا من ناصح بنصيب
ولا تثبوا وثب السفاه فتركبوا ... على خطة حدباء غير ركوب
رماكم أمير المؤمنين بحية ... أكول لحيات البلاد شروب
فإن يك باقي إفك فرعون فيكمو ... فإن عصا موسى بكف خصيب
١١- قال أبو هفان: حدثني ابن الداية أن جمالا الكوفي كان غلاما جميل الوجه جيد الشعر وكان ينزل الكرخ. وقد كان وصف خمسين غلاما وصنفهم على طبقاتهم في شعره وكان على حداثة سنه يتشطر ويطلب الغلمان بماله وشعره. وكان موسرا ذا ثروة. وكان أبو نواس إذا أنشد شعر جمال استجاده واستحلاه. فبينا أبو نواس في صف الوراقين إذ بصر بغلام حسن الوجه بارع الجمال فوثب مبادرا نحوه فتعلق به القوم وقالوا: مهلا فإن هذا جمال الذي سمعت به، فقال: قاتله الله فما رأيت جمالا أظهر منه فمن يوصل إليه أبياتا حضرت؟ فقال بعضهم: أنا، فقال: فعجل في إيصالها وانظر ما يقول في جوابها، ثم كتب إليه:
يا واصف الخمسين لو تعدل ... لكان منهم اسمك الأول
وصفت خمسين وميزتهم ... وأنت انت الظبية المغزل
جمال، دعهم عنك ولا تطرهم ... أنت وربي منهمو أجمل
لا يبرح اللوطي من شهوة ... لحسن ردف كالنقا ينزل
فلما قرأ جمال الأبيات قال: ويلي عليه ابن الزانية الشارب الخمر - وكان جمال لا يشربها - قال له: والله لا هجوتك ولكنني أقتلك بخنجري هذا وهزه في يده فرجع الرسول إلى أبي نواس بمقالته فضحك ثم كتب إليه:
يا من عدا بالقتل ظلما لقد ... حالفت ذا الخنجر كفيكا
ما خنجر يقتلني سيدي ... أقتل من تقتير عينيكا
يا من دعا قلبي إلى حبه ... فقلت لبيك وسعديكا
هب لي ولا تبخل أيا سيدي ... سويعة ما بين فخذيكا
قال يوسف فما كان إلا بعد قليل حتى واصله وحادثه ودعاه إلى مجلسه وسكر معه.
١٢- أبو هفان: كان أبو نواس هجا ابن نيبخت وذكر أمه ورماه بالبخل ونسبه إلى الرفض أيام هارون الرشيد فلم يزل به إلى ان دس له شربة من سم فلم تعمل عملها إلا بعد أربعة أشهر، فلما اشتد وجعه وتمعطت لحيته وتغيرت حاله، دخل إليه غلام - لم يعده - لحبه إياه وكان يتعهده ويكتب أشعاره فقال له: يا أبا نواس كيف تجدك؟ قال: أجدني في الحق. فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما قدمت، ويا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ثم أنشد:
دب في البلاء سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضوا فعضوا
ليس تمضي من ساعة بي إلا ... نقصتني بمرها بي جزوا
لهف نفسي على ليالوأيا ... متمليتهن لعبا ولهوا
ذهبت جدتي بلذة نفسي ... وتذكرت طاعة الله نضوا
قد أسأنا كل الإساءة فالل ... هم صفحا عنا وغفرا وعفوا
قال: فلما فرغ من هذه الأبيات مات لساعته فخرج الغلام باكيا وهو يعول مجهشا:
مات البديع وماتت دولة الفطن ... واستدرج الموت روح الشعر في كفن
لله ما صنعت أيدي المنون به ... وما تضمنت الأكفان من حسن
1 / 4
من ذا يرد نزارا عند نخوتها ... أم من يدافع عن جرثومة اليمن
١٣- أبو هفان قال: حدثني الحسين بن أبي المنذر قال: اجتمعت مرة أنا وأبو نواس وعدة من أصحابنا عند عبيد بن أبي المنذر فشربنا يومنا وبتنا عنده ليلتنا، فقال لنا أبو نواس: هل لكم في أن ندلج إلى الكرخ فإن بها حانة لم أر مثلها قط في نظافتها وطيبها وحسن شرابها وأنا أشتهي أن أسكر فيها وأقيم بها أياما فساعدوني، قلنا: امض حيث شئت فإنا معك، فأدلجنا في نصف الليل فوافينا الموضع الذي وصف لنا على ما شاكل نعته واافق صفته فقرب لتاالشراب من ساعتنا ثم أصبحنا فوصلنا نهارنا شربا، ومع أبي نواس غلام قد أفسده على أبيه وغيبه عنه غير مرة وهو كان ساقينا، وأشرفنا حين أصبحنا على زهر ورياض وأشجار وأنهار وكروم لم أر مثله قط نزهة وحسنا، فذكرنا حسن ذلك الموضع الجنة وما أعد الله فيها لأهلها وعظم خطرها فذكرنا الذنوب التي تحجب عنها وتمنع منها وتعرض دونها وان ذلك بقدر مقدور وتفاوضنا ساعة في شيء من الإسلام وما نرجو من العفو والفوز وعظيم منة الله تعالى علينا في الهداية، وأبو نواس ساكت، فقلنا: مالك لا تتكلم؟ فالتفت إلي الذي أنشأ الكلام فقال:
يا ناظرا في الدين مال أمر ... لاقدر صح ولا جبر
ما صح عندي من جميع الذي ... تذكر إلا الموت والقبر
قال فامتعضنا من ذلك وأنكرناه واستفظعناه وقلنا: والله ما نقرك على هذا فقد والله أفرطت وجاوزت المقدار وصرت إلى أن تكذب بالمعاد وإنا لنخاف أن ينزل الله بنا قارعة أو تصيبنا جائحة إذا رضينا بقولك وأصغينا إليك ولم نعدلك، فإن رجعت وإلا هجرناك وفارقناك ويحك قد شخت وجاوزت الكمال وما أحد أبصر منك بتصاريف الكلام والأديان، وغير ذلك من فنون العلم، فقد كان ينبغي لك أن تستسمج هذا القول وتعافه. فقال: لا والله ما أدين غير الإسلام ولكن ربما نزا بي المجون حتى أتناول العظائم، وما أعلم أني مسؤول عنه ومعذب عليه ثم أنشأ:
أية نار قدح القادح ... وأي جد بلغ المازح
لله در الشيب من واعظ ... وناصح لو قبل الناصح
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومسلك الحق له واضح
فاعمد بعينيك إلى نسوة ... مهورهن العمل الصالح
لا يجتلي الحوراء من خدرها ... إلا الذي ميزانه راجح
من اتقى الله فذاك الذي ... سيق إليه المتجر الرابح
فاغد فما في الدين أغلوطة ... ورح لما أنت له رائح
ثم قال: هذا عمل إبليس أجرى هذا الكلام ليعارض فرحنا ويقدح في سرورنا بما يكدره، خذوا بنا في شأننا وألغوا هذا. فلم نزل نشرب هناك أياما، مرت في متشرب الحنة ومرة فيما يليها من البساتين والمتنزهات، فلما أزمعنا الانصراف بعد أيام كثيرة قال: امهلوا بنا قليلا ثم أنشأ يقول:
يارب مجلس فتيان لهوت به ... والليل مستخلس في ثوب ظلماء
نشتف صافية من صدر خابية ... تغشي عيون نداماها بلألاء
كأن منظرها والماء يقرعها ... ديباج غانية أو رقم وشاء
تستن في مرح من كف مصطبح ... من خمر عانة أو من خمر سوراء
كأن قهقهة الإبريق بينهما ... رجع المزامير أو ترجيع فأفاء
حتى إذا مزجت طارت جنادبها ... للمزج وامتعضت من سورة الماء
سألت تاجرها: كم ذا لعاصرها؟ ... فقال: قصر عن هاذاك إحصائي
نبيت أن أبا جدي توارثها ... من ذخر آدم أو من ذخر حواء
ما زال يمطل من ينتاب حانته ... حتى أتتني وكانت ذخر موتائي
ونحن وسط بساتين وتنفحنا ... ريح البنفسج مع ريح الخزاماء
يسعى بها خنث في لهوه دمث ... يستأمر العين في مسترجع الرائي
مقرطق وافر الأرداف ذو خنث ... إن ماس في راحتيه وشم حناء
قد رطل الشعر واوات ورددها ... فوق الجبين ورد الصدغ بالفاء
إني لأشرب من عينيه صافية ... صرفا وأشرب أخرى من ندامائي
عيناه تقسم ماء في مذاهبها ... وربما نفعت من سروة الداء
ولائم لامني فيه فقلت له ... إني وعيشك مشغول بمولائي
١٤- أبو هفان قال: حدثني سليمان بن أبي سهل قال:
1 / 5
سألت أبا نواس أن يجعل شربه عندي أياما متتابعة ضنانة ومنافسة على ما كان يفوتني منه. فأجابني إلى ذلك فأعددت له ما احتجت إليه من سماع وغيره وبدأنا في الشّرب. فلما كان آخر النهار جعل يشكو وجده بجارية قد فتنته ويصف أنه ما يهنؤه لذة ولا يسوغ له شراب ولا يصفو له عيش بسببها، فقلت: ويحك قد انتكست وصرت تتعشق النساء أيضا؟ قال: هو والله ما قلته لك، فقلت: سمها لي وعرفني خبرها لأعاونك عليها وأحتال لك فيها، فاستحيا مني وطوى خبرها عني وجعل يقول: لست تعرفها ولا أعرف أنا أيضا اسمها، فقلت: فصف لي خلقها فأبى. ثم أنشد يقول:
كفاك ما مر على رأسي ... من شاذن قطع أنفاسي
أكثر ما أبلغ من وصفها ... تحدُّثي عن قلبها القاسي
أغار أن أنعت منها الذي ... ينعته الناس من الناس
ولم أر العشاق قبلي رأوا ... بوصف من يهوون من باس
كل أحاديثي سوى نعتها ... منكشف مني لجلاسي
لا حبذا الشركة في حبها ... وحبذا الشركة في الكاس
قال: فلما رأيته لا يحب أن يعلمني خبرها، ويكشف لي خبرها تغافلت عنه فلما كان الليل وثملنا، نمنا ونام من كان بقي عندنا. أغفيت غفوة ثم انتبهت فإذا هو قاعد وحده فقلت: أبا علي مالي أراك ساهرا متململا لعلك فكرت فيما كنت شكوته؟ قال: إي والله ثم قال لي: اسمع أبياتا قلتها: قلت: هات. فأنشد:
رسم الكرى بين الجفون محيل ... عفى عليه بكا عليك طويل
يا ناظرا ما أقلعت نظراته ... حتى تشحط بينهن قتيل
أحللت من قلبي هواك محلة ... ما حلها المشروب والمأكول
بكمال صورتك التي في مثلها ... يتحير التشبيه والتمثيل
فوق القصير، والطويلة فوقها ... دون السمينة، دونها المهزول
قلت: قد ذكرت الآن قدها وأحسبني عرفتها. قال: هيهات، هيهات - يؤسيني بذلك من أن أعرفها - وقد كنت أراه يحد النظر إلى جارية لبعض أهلنا يقال لها نرجس ويتأملها وكانت تأتينا بالتحف في كل وقت من عند مولاتها، فقلت في نفسي: ما عنى غيرها ثم أمسكت عنه فلما كان في غد قلت للساقي: خذ على أبي نواس ففعل. فسكر سكرا ما رأيته سكر مثله فبينما هو في سكره إذ قال:
أحرف أربع سبين فؤادي ... لم أذق بعدهن طعم الرقاد
خفت إظهارهن خشة واشٍ ... واتقاء العدو والحساد
أشتهي النون من «نوار» وأهوى ... ثانيا من حروف إسم «مراد»
و«جنان» قد شفني مبتداها ... و«سعاد» فديت مباد سعاد
لا تراني أحب خلقا سواها ... أبدا ما بقيت حتى التنادي
قال: فاستيقنت أن نرجس حاجته فوجهت إلى مولاتها أسألها أن تبينيها فوهبتها لي. فلما أفاق أبو نواس اصطحبنا فقلت له بعد أن شربنا أرطالا: نحب أن نشرب اليوم مع حبيبتك. قال: خذ فيما يكون. قلت: يا غلام أحضر ذلك الرجل. فدخلت نرجس. فلما رآها بهت إليها. فقلت له: قد وهبتها لك، قال: وتملكها حتى تهبها؟ قلت: نعم.
فعلت البارحة كذا وكذا فاستيقنت أنها طلبتك فأردت شرائها لك فوهبتها لي مولاتها وهي لك. فو الله لقد رأيت وجهه أشرق وأنار، وقام فقبل رأسي ثم أقعدها إلى جانبه وجعل كلما شرب كأسا قبلها ثم أنشأ يقول:
مالي في الناس كلهم مثل ... مأتى خمري ونقلي القبل
قومي حتى إذا العيون هدت ... وحان نومي فعرسي ثعل
يا أيها الناس فاسمعوا عظتي ... فكل نفس وراءها أجل
ليحمد الله منكمو رجل ... ساعده في حبيبه الأمل
فلما أمسى قال: قد جدت بالمنى، والتمام الإذن في الانصراف. قلت: معافى ومصحوبا مكلوءا.
١٥-أبو هفان قال: حدثت أن صديقا لأبي نواس مات وكان يأنس به فوجد عليه وجدا شديدا واشتد غمه وقلقه وجزعه لفقده وشيع جنازته، فلما صلوا عليه وصيروه في حفرته وواروه في لحده خرج أبو نواس من قبره - وكان فيمن ألحده - فاستقبل الناس الذين شيعوا الجنازة بوجهه وقال بصوت شج وإجهاش:
يا بني النقص والعبر ... وبني الضعف والخور
وبني البعد في الطبا ... ع على القرب في الصور
والشخوص التي تبا ... ين في الطول والقصر
احتساء من الحرا ... م وحتما على لاضرر
أين من كان قبلكم ... من ذوي البأس والخطر
1 / 6
سائلوا عنهم المدا ... ئن واستبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحي ... ل وإنا لفي الأثر
من مضى عبرة لنا ... وغدا نحن معتبر
إن للموت لمحة ... تسبق اللمح بالبصر
وكأني بكم غدا ... في ثياب من المدر
قد نقلتم من القصو ... ر إلى ظلمة الحفر
حيث لا تضرب القبا ... ب عليكم ولا الحجر
حيث لا تظهرون من ... ها للهو ولا سمر
رحم الله مسلما ... ذكر الموت فادّكر
رحم الله مسلما ... خاف فاستشعر الحذر
١٦- أبو هفان فال: حدثنا أن جارية للقاسم بن هارون بارعة جميلة مرت بأبي نواس في كفها نرجس فجمشها أبو نواس وقال: ما أقبح الهجر بك. قالت: أقبح من هجري إفلاسك فأنشأ يقول:
قلت وقد مرت بنا ظبية ... رعبوبة في كفها نرجس
ما أقبح الهجر فجودي لنا ... منك بما تحيا به الأنفس
فاستضحكت عجبا وقال لنا: ... أقبح منه عاشق مفلس
١٧- حدثنا أبو هفان قال: حدثني يوسف بن الداية قال: كنت عند أبي نواس فقال لي: اسمع أبياتا حضرت، وأنشد:
وملحة بالعذ تحسب أنني ... بالجهل أوثر صحبه الشطار
بكرت علي تلومني ... وصرفت معرفتي إلى الإنكار
ورأيت إيثارى اللذاذة والهوى ... وتعجلي من طيب هذي الدار
أحري وأحزم من تنظر آجل ... علمي به رجم من الأخبار
ما جاءني أحد يخبر أنه ... في جنة مذ مات أو في نار
ومعقرب الصدغين يهتك لحظه ... عن كل مستور من الأستار
أحوى أغن مبتل ذي رونق ... حسن التنعم من بني بكار
ما زلت أسقيه وأشرب قرقفا ... ما افتضها بالماء غير نزار
كانت ... وآدم طينة معجونة
في دنها شمطاء ذات خمار
حتى إذا ذهب الزمان بدائها ... وتخلصت روحا من المسطار
عادت إلى لون كأن بكأسها ... منها جميع طوالع الأنوار
فلما بلغ قوله: «في جنة مذ مات أو في نار» قلت له: يا هذا إن لك أعداء ينتظرون منك السقطات فينتهزونها ليجدوا السبيل بها إلى الطعن عليك والقدح فيك إلى السلطان فاتقّ الله في نفسك ودع الإفراط والمجون فغنه مؤديك إلى خسارة الدنيا والآخرة إلا أن يقبل الله بك إلى الطريقة المثلى فإن كنت لم تظهر هذه الأبيات فتناسها واطوها. فقال لي: والله لا أكتمها خوفا. وإن قضي شيء كان. وقد كان سمعها غيري فأخبر بها الفضل بن الربيع وتأدى الخبر إلى الرشيد فما مضى إلا أسبوع حتى حبسه.
١٨- أبو هفان قال: حدثني بعض آل نيبخت أن آخر شعر قاله أبو نواس، أنا أتيناه بطبيب بجسه وينظر في علته فوصف لنا شيئا ثم غمز أخي فخرج معه فقال: لا تداووه فإنه لا يسلم من علته ولكن عللوه ومنوه البرء والسلامة. فأحس وأيقن، فلما عاد أخي إليه قال: بحياتي ما خبرك الطبيب؟ قال: لم يقل إلا خيرا، أمر أن تسقى من الدواء كذا وكذا وأخبر أن العلة قد نضجت وانحطت، فانشأ أبو نواس من فوره يقول:
سألتك بالمروءة والجوار ... وقرب الدار من بعد المزار
بما ناجاك إذ ولى سعيد ... فقد أوجست من هذا السرار
فقلت: خيرا، فقال هو والله الموت.
١٩-أبو هفان قال: حدثني يوسف ابن الداية قال: كنت عند أبي نواس يوما نتحدث إذ جاء غلام قد التحى فلما طلع من الباب قال لي أبو نواس: قم وأقعد على الباب ساعة حتى أناظر هذا في شيء، فقلت: ويحك هذا صاحب لحية، فقال لي: قم يا فضولي. فدرت دورة ثم رجعت إليه، فقال لي: تدري من هذا؟ قلت: لا والله غير أني أراه صاحب لحية قال: هذا غلام كنت أتعشقه قديما وكان معي فلما التحى صار من السراجين فربما جاءني في الأحايين فآخذه على طيبه الأول وقد كاد يمتنع على الساعة ولكن كانت لي الغلبة. ثم قام فاغتسل ورجع إلى موضعه ثم أنشأ يقول:
رأى بخديه نابتا زغبا ... فضن عني هناك بالقبل
وقال قد صرت يا فتى رجلا ... وذا قبيح أراه بالرجل
فقلت يا من زها بلحيته ... الآن والله طبت للعمل
ذا زعفران والمسك تربته ... يخرج من تحت صدغك الرجل
تراك لو قد خضبت من كبر ... وسحر هينيك فيك لم يحي
صبرت عن عض وجنتيك وعن ... مص رضاب بفيك كالعسل
1 / 7
فقمت أسعى إليه مبتدرا ... والقلب من سخطه على وجل
حتى اعتنقنا على الفراش وقد ... غيبت مهري الجموح في الكفل
٢٠- أبو هفان قال: حدثني يوسف البن الداية: ان أبا نواس كان محافظا على صلاته إلا أن يسكر. وكان بقضي ما يفوته منها حين يفيق من سكره.
٢١- أبو هفان: حدثني عمي محمد بن حرب قال: لما ولى هارون الرشيد إسماعيل بن صبيح بعد البرامكة ديوان الرسائل - وكان كاتبهم وكان يسعى بهم ويكسف عوراتهم - استخلف ابنه على بعض الدواوين وقال لأبي نواس لو دخلت إلى محمد فحدثته وأنشدته سرتني، ففعل، فكان له قوله أول ما لقيه:
قبلة منك نية من سواكا ... وهما في القياس عندي كذاكا
فإذا ما رأيت وجها صبيحًا ... كان حظي من نيه أن أراكا
برأ الله منك وجها بديعا ... قد أحل التعطيل والإشراكا
بأبي أنت من بديع ظريف ... بذّ حسن الوجوه حسن قفاكا
خلق الناس كي يسوسوا أمورا ... كلفوها وأنت كيما ت ...
فقال له أبوه: سبحان الله أول ما لقيت ابني لقيته بهذا!! قال: هكذا رزق مني وهو أحوج له. قال: فلامه إخوانه على ذلك فقال: لايلقى ولد ساع إلا بمثل هذا وإن كان أحسن منه تمام النعمة والعافية.
٢٢- أبو هفان: حدثني أبو عبد الله الحسين بن أبي المنذر:
1 / 8
أن أبا نواس كان يتعشق ابن فورك اللهبي، وكان حسن الوجه بارع الجمال مطواعا، يواتيه أنى شاء، وربما شرب معه في الحانات، فافتقدناه أياما كثيرة فسألنا عنه جميع إخوانه وطلبناه في مظانه فلم نعرف له خبرا بتة، واشتد لذلك غمنا فقلت في نفسي ليس حق أبي نواس علي الحق الذي أضيعه فلا أرعاه، والله لأجتهدن في طلبه والبحث عنه والفحص عن خبره أنى توجه ولو بمشقة علي شديدة، وأشفقت أن يكون قد نيل منه، أو اغتيل بسوء من جهة من كان يبغيه، فقلت لأخي عبيد - وعنده من أصحابه عدة -: هل تساعدني على طلب أبي نواس حيثما كان؟ فقالوا: نعم نحن نسبقك إلى هذا ونساعدك بأجمعنا، فقلت له: الرأي أن نبدأ بباطرنجي فإني سمعته قبل افتقادي إياه يذكرها ولا أحسبه تعداها، فلما خرجنا نحوها لقينا بعض المكاريين مع قوم قد حملوهم منها فقلنا له: هل تعرف أبا نواس؟ فقال: ومن لا يعرفه؟ إني لأحسب حماري هذا يعرفه. وهل يخفى القمر؟ قلنا: فهل رأيته؟ قال: نعم رأيته خارجا من باطرنجي في حية الحمام الشارع على الطريق وهو سكران لا يعقل وقد اجتمع عليه الصبيان يعطعطون به ويضحكون منه، فقلنا: إنا لله، هلك والله إن لم ندركه، فأسرعنا نحوه فوافيناه قد أخرج من الحية وهو مطروح على وجهه لا يتحرك ولا ينبض له عرق ولا يعقل سكرا، فسألناه عن خبره وأين كان يشرب في أيامه، فقال: في هذه الحانة فحملنا إليها، وسألنا الخمار عن قصته، فقال: كان يشرب عندي مع غلام جاء معه من أهل بغداد حسن الوجه يقال له ابن فورك، وحرص الغلام على الانصراف غير مرة وهو يمنعه وأقاما اثني عشر يوما، كل ذلك يمنعه من الانصراف ويرغب إليه في المقام، فلما كان هذا اليوم سكر أبو نواس هذا السكر المفرط فقام الغلام كأنه يريد حاجة فراوغه وشخص متوجها نحو بغداد فرارا منه، فلما أبطأ عليه خرج وهو يتثنى سكرا، لا تقله رجلاه ولا ينطلق لسانه للجواب، وذلك أنه ما نام منذ ثلاث ليال يشرب دائما ويغالب النبيذ، فمنعته من الخروج فلم يصغ إلي، وضربته الريح وهزته على ما كان منه من السكر. فلمنا الخمار وعنفناه وقلنا: ألا اتبعته أو وجهت من يراعيه ويحفظه؟ قال: قد فعلت، وأنا أخرجته من الحية وقد كنت على حمله إلى ههنا. فانتظرنا أبا نواس إلى أن أفاق فلما عاد إليه عازب عقله وصحا من سكره ملنا عليه ميلة واحدة وقلنا له: ويحك أما تستحي أما ترعوي أما تخاف الله وتراقبه؛ أما تأنف لنفسك من هذه المساقط الدنية في الأماكن الخسيسة، مع طلب الخليفة إياك وتشوقه إليك ونزاعه إلى قربك وأثرتك عنده وعند الأشراف؟ فإلى كم يكون هذا الإغراق والإفراط فيما يسخط الله عليك، ويذهب بدينك ويثلم دنياك، ويذهب بقدرك وأدبك؟ كل يوم مع غلام وقحبة، وفي حانة منبطحا سكرانا، وقد جعلت ما يجب عليك من الصلاة وراء ظهرك استهانة بوعد الله ووعيده، مع الذي لا يؤمن من حضور أجلك ومعافضتك على أسوأ حالاتك؛ ويوشك من أدام الشرب أن ينقص اعتداله ويفسد مزاجه، وتصل سوره إلى كبده فيقدح ذلك في صحته، ويعرضها للاستحالة عن جهتها، ثم تقيم مع غلام قد خرجت لحيته وتشوهت خلقته بضعة عشر يوما حتى صرت ضحكة وأحدوثة ولعبة للصبيان والنسوان. فقطع علينا الكلام ثم انشأ يقول مجهشا مسترجعا بصوت شج:
يا بني حمالة الحطب ... حربي من ظبيكم حربي
حرب في القلب برح بي ... ألهبته مقلة اللهبي
ما أحل الله ما صنعت ... عينه تلك العشية بي
فتنت أسبابها كبدي ... بسهام للردى صيب
لم يجرني البيت منه وقد ... عذت بالأركان والحجب
صيغ هذا الخلق من حمأ ... وبراه الله من ذهب
عجبا ... لم يثنه حرج
دون قتلي
عف عن سلبي
1 / 9
فقلنا له: اتق الله يا هذا في نفسك، فقد نلت من رخاء العيش وليانه ما في دونه كفاية ومقنع وارتداع، أما ترى الشيب لامعا في رأسك؟ وأكثرنا عليه من هذا الكلام وقطعناه عذلا وتأنيبا وهو مطرق إطراق الخجل ينكت الأرض ويتأمل نفسه وما قد تلوث به وصار جيفة، فقلت في نفسي: لعل ما نرى من حاله أن يحدث له ندما وإقلاعا عن سيء أفعاله. وإن لم تسمح نفسه بالتوبة في هذا الوقت فليست فيه حيلة ولا موضع للعتاب أبدا فلما أتينا على آخر كلامنا قال: بقي لكم من العذل والتوبيخ شيء؟ قلنا: لن ينجع فيك العتاب وإن أكثرنا ووصلنا بعضه ببعض. قال: قد سمعت قولكم ونصيحتكم فاسمعوا الجواب عنه - ونحن نظن أنه يحتج عن نفسه ويعتذر عن فعله - فقلنا: هات. فأنشأ يقول:
..من لقيت من البشر ... واعذر أخاك إذا فجر
وأخلع عذارك في الهوى ... مثل الخليع المشتهر
واسحب ذيولك في الصبا ... ودع العوازل في سقر
لا يمنعنك زاجر ... عمن هويت إذا زجر
فاشرب معتقة الخمو ... ر ولا تعف عن السكر
واسكر لتضحي شهرة ... متلوثا وسط القذر
ودع القراة لأهلها ... فهم: الكراب على البقر
إن التنسك عندنا ... والزهد من إحدى الكبر
لا تحقرن لطيفة ... صغرت ولا ذات كبر
ممن تبرج للزنا ... والحور بات الخدر
والمرد لا تدعنّهم ... أهل التصفق والطرر
ممن إذا جمشته ... أبدى الشتيمة أو نخر
مثل ابن فورك في الدلا ... ل وذي التبختر والخفر
قالوا التحى فمحا محا ... سن وجهه نبت الشعر
فأجبتهم لا يسبقن ... في الدور سيلكمو المطر
الآن طاب وإنما ... ذاك البهار على الشجر
تلك اللحية روضة ... خضراء تنبت في الزهر
لولا سواد في القمر ... والله ما حسن القمر
يا عاذلي على هوى ... هذا دوينكمو الحجر
رضوا به أسنانكم ... وكلوا التراب مع المدر
لا لا غدرت بمن هوي ... ت إلى الممات وإن غدر
والله لا جنبته ... مني الوصال وإن هجر
فلما أتى على آخرها بهتنا وبقينا ننظر إليه تعجبا. فقال: مالكم لا تتكلمون؟ قلنا: وما يغني معك إطالة القول وقد ذهب كل شيء قلنا جفاء. قال: وتشكون في ذلك؟ أنتم والله عندي حمقى. أنا أنازع إلى هذه السكرة وأشتهيها حتى تهيأت لي الآن وأرجو ألا أعدم أخواتها. قوموا بنا إلى الحمام. فنهضنا معه حتى تنظف ونزعت أنا وعدة من أصحابي ثيابا فاضلة كانت علينا فلبسها ووهب ثيابه الملونة للخمار. ثم قلنا: قد تنظفت فامض بنا، فقال لنا: سبحان الله نجتمع في هذا الموضع وننصرف منه ولم نشرب فيه؟ هذا والله من سقوط الهمة وسوء الاختيار. اقعدوا، فقعدنا والتفت إلى الخمار وقال له: أحب أن تلذذ أصحابنا، قال له: بماذا؟ قال: لا يغرنك عن عزلهم وتأنيبهم إياي فإنهم يركبون المغمصة فاطلب لنا غلاما مليحا، وقد سمعت البارحة غناء وزمرا فأحضرناه فخرج الخمار فما كان إلا ساعة حتى جاءنا بغلام لم نر مثله قط وكراعات كن هناك من بغداد فأقمنا بها يوما وغده والثالث ثم اجمعنا على الانصراف عنها فأنشأ يقول:
سلاف دن، كشمس دجن ... كدمع جفن، كخمر عدن
طبيخ شمس، كلون ورس ... ربيب فرس، حليف سجن
رأيت علجا، بباطرنجا ... لها توجى فلم يثن
حتى تبدت، وقد تصدت ... لنا وملت، حلول دن
فاحت بريح، كريح شيح ... يوم صبوح، وغيم دجن
يسقيك ساق، على اشتياق ... إلى التلاقي، بماء مزن
يدير طرفا، يعير حتفا ... إذا تكفى، من التثني
على غناء، وصوت ناء ... دواء داء، من التجني
ولثم خد، كطعم شهد ... من ذات قد، وهي تغني
غناء دل، وضرب طبل ... ورمي نبل، بطرف جني
يا من لحاني، على القيان ... اللهو شاني، فلا تلمني
أطلت عذلا، فقلت من لا ... يريد إلا، السلو عني
أسخنت عينا، تراك زينا ... فأين أين، الفرار مني
هتكت ستري، فباح سري ... وعيل صبري، لطول حزني
٢٣- أبو هفان قال: حدثت عن كامل الثقفي أنه قال: بلغني أن رجلا من متلصصة البصرة وسراقها قال:
1 / 10
ماكان أحوجني يوما إلى رجل ... في وسطه ألف دينار على فرس
في كفه حربة يفري النفوس بها ... وسيفه كلهيب النار في الغلس
فإن رجعت ولم أظفر بمهجته ... وقد خضبت ظباة الصارم الضرس
فلا هنيت بعيش وابتليت بما ... يكون فيه خروج الروح والنفس
فبلغ قوله هذا أبا نواس فأنشأ يقول:
ماكان أحوجني يوما إلى خنث ... تجري ملاحته في الروح والنفس
في كفه قهوة تشفي النفوس إلى ... سحر بعينيه للألباب مختلس
فإن رجعت ولم أظفر بتكته ... وقد رويت من الصهباء كالقبس
فلا هنيت بعيش وابتليت بما ... يكون فيه صدود الشادن الأنس
هذا ألذ وأشهى من منى رجل ... في وسطه ألف دينار على فرس
٢٤- أبو هفان: حدثت ان أبا نواس بعث غلاما يقال له إسحق إلى عمرو الوراق يستهديه قرانة نبيذ فحبس الغلام ساعة ثم بعث إليه بقنينة فلما وافاه كتب إليه أبو نواس:
بعثت أستهديك قرانة ... فجدت يا عمرو بقنينة
وبعد ذا إن غلامي أني ... به انكسار وبه لينة
تخبرني وجنته انه ... قد طعن السكين في التينة
فابعث بأخرى تلك مهر له ... لا يعتدي في كفه طينة
قال: فضحك عمرو ونقل إليه جميع ما يحتاجه من النبيذ وصار إليه معتذرا مما كتب إليه به.
٢٥- أبو هفان قال: حدثني يوسف ابن الداية: أن أبا نواس خرج إلى الخصيب بن عبد الحميد وهو يومئذ بمصر وكان بها ثلاثة غلمان أحداث أقران حسان الوجوه كأنهم الطواويس أصحاب ظرف وأدب ومروءة وأحوال جميلة ولم يكن أحد بمصر يتقدمهم صباحة وملاحة وكمالا، وكان أحدهم من ولد شبث بن ربعي التميمي والآخران أخوان من أولاد الدهاقين فلما رآهم أبو نواس أعجبه ما رأى من حسنهم وجمالهم فاحتال في التخلص إليهم بكل حيلة فأعياه ذلك فلما صرح به اليأس عن الوصول سمع بعضهم يقول للآخرين، إذا كان يوم الأحد اصطحبنا. فلم يزل يتوقع ذلك اليوم، فلما كان بكر ولبس جبة صوف وحلق رأسه وشيئا من لحيته وأخذ كرزنا له وترصدهم في السوق كأنه حمال فلما أقبلوا عليه تبعهم إلى الموضع الذي يبتاعون منه حوائجهم فخف بين أيديهم وقال: أنا حمال، فقالوا: دونك، فحمل لهم، فلما صار إلى مستقرهم وضع عنه الكرزن وفرغ كل شيء كان معه ثم تخفف لهم في جمع حطب فأجج نارا وطبخ لهم قددا فعجبوا من طيبها وقالوا له: أطباخ أنت؟ قال: لم أزل قديما، ثم نظر إلى قناني لهم وأقداح علاها الغبار فبادر وأخذها ثم اعتزل ناحية فجلاها ونظفها وكنس مجلسهم وأصلح ركواتهم ونضد رياحينهم وحسر عن ذراعيه يسقيهم ويغنيهم وينشدهم تارة وينقر لهم طنبورا أخرى فأعجبوا به لما رأوا من تقدمه في كل شيء فقالوا له: يا حمال أقم عندنا اليوم، فقال: أنا عبدكم وخادمكم وقد ترون ما بي من العري وسوء الحال وإن كسوتموني خلقا من أطماركم استوجبتم من الله ﷿ الثواب، ومني الشكر والدعاء وواريتم مني ما ترون - وإنما أراد ان يستغويهم ويلبس عليهم الحال لئلا يفطنوا به في مقامه عندهم - فقالوا له: نفعل وكرامة ونحسن إليك ونكرم مثواك فطب نفسا. فقعد معهم فلما تغدوا صب على أيديهم الماء وسقاهم الخمر قبل ذلك على الغمر ثلاثة ثلاثةً وتمثل لهم بهذا البيت وهو له:
ثلاثة على الغمر ... تترك الوجه كالقمر
1 / 11
ثم قام إلى دن شراب مطين فبزله ثم سكب منه وسقى القوم، فلم يزل يشرب ويسقيهم وهو في خلال ذلك يطربهم ويلهيهم، ونظروا إلى رأسه محلوقا فأقبلوا يطرقون له وهو يحتملهم على ذلك لما أضمره لهم من المكيدة والمخاتلة. وهمه أن يسكرهم وينومهم فلم يزل بهم حتى جنهم الليل وكلما مال بهم السكر هزهم وألهاهم وسقاهم حتى جاوز بهم المقدار فخروا نياما لا يعقلون سكرا واستعد للقاء فلما علم أنه قد أمكنته الفرصة قام إليهم فقضى وطره ... وقال: والله لأنتقمن لقمحدوتي من خصاكم فلما خسر وأعيا..... ولم يبق فيه حركة تساكر ونام كهيئتهم على وجهه........... كفعله بهم فلما انتبه لهم ورأى حاله أنكرها واتهم أبا نواس وقال: هذا عمل الحمال وفعله وانتبه الثاني والثالث فإذا أحوالهم كحاله فامتعضوا لذلك وقالوا: ما كان ليدخل علينا داخل في هذا الموضع، وإن هذا لفعل الحمال - وهو قد تناوم وتساكر لاستماع كلامهم - فنظروا إليه فإذا هو على مثل حالتهم محلول السروايل مبلول الإست فقالوا ما هذا إلا فعل شيطان وأنبهوه فانتبه وتغضب واستشاط وقال لهم: أخزاكم الله، تفعلون بشيخ مثلي هذا الفعل أما تتقون الله أما تستحون من شيبتي والله لأشكونكم إلى العالم. فقالوا له: اتق الله فإن ذلك قد فعل بنا جميعا، فسكن ثم قال: إن كان الأمر كما تزعمون فإن لي بكم أسوة حسنة، فقال بعضهم لبعض: ليس الرأي أن يشيع هذا الخبر وإلا كان فضيحة علينا، وأبو نواس في البلد، وإن سمع بهذا الخبر فأين المهرب من هجائه فقام كل واحد فاغتسل ثم قال لهم أبو نواس: يا فتيان (كل) واحد منا قد جعل البارحة عروسا فاصطحبوا وباكروا اللذة كمباكرة العروس، قالوا: صدقت فتغذوا ووضعوا الشراب فلما دارت الراح في رؤوسهم قام أبو نواس فخرج ولبس ثيابا سرية من خلع الخصيب وتطيب ثم رجع إليهم. فلما دخل عليهم من الباب قالوا: يا هذا من أنت؟ ثال: أنا الحمال الذي صيرتكم البارحة عرائس، قالوا: أنت والله أبو نواس؟ قال: أنا والله أبو نواس فكيف رأيتم، فصفق كل واحد يده على جبهته وجعل ينكت الأرض استحياء وتخاجلا، فقال لهم: قد وقع الأمر الآن موقعه وأنا أشرب فإن ساعدتموني وتممتم يومكم كان ذلك أوفق لكم فشربوا على كره منهم وحياء شديد فلما أمسى وانصرف أنشأ يقول:
وفتية كالدمى قد اجتمعوا ... مثل الدنانير حين تنتقد
قد ساقني الحين نحوهم فإذا ... همو يقولون إن دنا الأحد
فباكروا الراح واقطعوه بها ... فصرت للموضع الذي عمدوا
علي كرزن ومشملة ... وميهة حبالها مسد
عمدا فبكرت وارتصدتهمو ... حتى أتوا غدوة وما انفردوا
قمت إليهم فقلت أحملها ... فإن عندي لحملها القدد
حبل وثيق وميهة وأنا ... بحملها عالم ومرتشد
قالوا فخذها فأنت أنت لها ... سوف نكافيك بالذي نجد
فظلت أعدوا كأنني جمل ... ينوء للموضع الذي قصدوا
فصرت رشاشهم وكانسهم ... وصرت طباخهم وبي رمد
إذا الأباريق والزجاج بها ... نظرت فيها المغرد الصرد
فثرت نحو الزجاج أغسله ... حتى تلالا كأنه البرد
فأعجب المرد خفتي لهمو ... وليس في خفتي لهم رشد
قالوا لي اقعد وهات صب لنا ... وبادر الليل قبل نفتقد
فلقت إذ ذاك هامة وضعت ... على ضئيل كأنه وتد
فمر يهوي كأنه رجل ... تسيل منه الدماء مفتصد
ما زلت أسقيهمو مشعشعة ... يحذر من وقع كأسها الجسد
حتى رأيت الرؤوس مائلة ... ولم يكن في رقابها أود
واعتقلت ألسن وأسوقة ... فممسك رأسه ومعتمد
قمت وبي رعدة ... ... وكل من دب فهو مرتعد
. . . . . . .
يا ليلة بت أجني ثمر ال ... لذلات معنا النواعم الخرد
من ذا إلى ذا وقد أمرت بأن ... أعفج هذا وكل من أجد
كأنهم أنجم لبهجتهم ... أو المصابيح حين تتقد
حتى إذا مللت عفجهمو ... وكل ... فما به جلد
حتى إذا المجلس استوى بهمو ... غادرتهم والكؤوس تطرد
صرت إلى منزلي فأبت وقد ... زينت نفسي وحلني العدد؟
على قوهية وأردية ... من نسج مصر وكلها جدد
فقيل من أنت قلت صاحبكم ... لا عقل يرجى لكم ولا قود
1 / 12
أنا الذي ... بأجمعكم ... قالوا نواس فقلت بل لبد
ثم تغنيت وامقا فرحا ... يا ليت سلمى وفت بما تعد
ماذا لقيت من الظباء الخرد ... قد أفسدوني بعد طول تعبدي
يتراوحون على كل عشية ... في رازفي تارة ومورد
فإذا سألت الحور عن أسمائهم ... لم تعد بين محمد أو أحمد
فكأن آباء الظباء تعاقدوا ... بآلية معقودة بتأكد
أن لا يسموا الحور من أبنائهم ... إلا بأحمد مرة ومحمد
ثم تم بعد ذلك على نسكه حتى مات ٢٧- أبو هفان قال: حدثني يوسف ابن الداية قال: أخبرني أبو نواس أنه صار يوما إلى العباسية فبصر بغلامين من أبناء التجار نظيفين حسنين مليحين يتباذلان فلما بصرا بأبي نواس قاما فقال لهما: عودا إلى ما كنتما فيه فعادا فأخذ أرديتهما فتأبطها.. فقال له أحدهما. أحب أن تقول فينا شعرا وتمدح أجودنا وتهجو الآخر وتذمه فتأملهما فإذا هما كفرسي رهان ليس فيهما عيب ولا لأحدهما فضل على الآخر فقال:
كلاكما رخيم ... مهفهف هضيم
كلاكما حباه ... بمقلتيه الريم
هذا زمان فيه ال_بذال يستقيم
فالرأي أن تعيشوا ... والعيش لا يدوم
وأنتموا صغار ... وربكم رحيم
وذا البذل شيء ... صاحبه مرحوم
. . . . .
ولا أراه ذنبا=أنا به زعيم
. . . .
٢٨- أبو هفان: حدثني يوسف البن الداية: أنه اجتمع مع أبي نواس في منزل بعض الخمارين فقال له بعضهم: إن رأيت أن تصف مجلسنا بآية من كتاب الله تعالى فافعل. فأنشأ يقول:
وفتية في مجلس ريحانهم ... وجوههم قد عدموا الثقيلا
دانية عليهمو ظلالها ... ذللت قطوفها تذليلا
٢٩- أبو هفان قال: حدثني أبو دعامة: ان صديقا لأبي نواس شرب دواء فاتته هدايا إخوانه وأصحابه من كل جهة غير أبي نواس فإنه استبطأ هديته. فصار أبو نواس إلى باب الطاق فلم يزل يتصفح وجوه المرد ويتأملهم ويعترضهم، حتى وقع اختياره على غلام رضيه ملاحة وصباحة.. فانثنى معه قاصدا نجو منزل صديقه حتى إذا دنا من باب داره إذا جماعة قعود على بابه فلما بصر بهم الغلام ند عنه ونفر فكتب أبو نواس إلى صديقه:
يا واحد المكرمات والمنن ... أعقبك الله صحة البدن
خرجت أبتاع طرفة لك لا ... أنظر في رخصها وفي الثمن
من بين ورد وبين سوسنة ... وبين ريحانة على فنن
فقل ظبي منعم غنج ... أحسن من كل منظر حسن
أحلى واشهى إلى الفؤاد وإن ... أغرم صحبي مالا وأغرمني
حتى إذا صرت عند بابكمو ... شق شباك الهوى فأفلتني
فلا تلمني ولم قلاطبة ... قد لزموا الباب يا فتى اليمن
٣٠- أبو هفان قال: حدثني ابن أبي خلصة: أنه لما حضرت أبا نواس الوفاة قيل له: قل: لا إله إلا الله، فأنشأ يقول:
أمثلي يروح بالحادثات ... ويخشى تصاريف هذا الزمن
أذلني الله ذل الهوان ... وأدخلني في حر أمي إذن
أنهنه دهري إذا نابني ... بشرب المدام ووجه حسن
وأستغفر الله من ذا وذا ... فإن هو لم يعف عني فمن
٣١- أبو هفان: حدثني ابن ما شاء الله: أن أبا نواس دخل على محمد الأمين فقال: قد قلت فيك أبياتا يا أمير المؤمنين ولست بمنشدكها حتى تنزل عن السرير وأجلس أنا عليه فقال له: قد تجاسرت، فوالله لئن أحسنت لأحسنن إليك، ولئن أسأت لأمثلن بك. فنزل عن السرير وأجلسه فأنشأ يقول:
ضياء الشمس والقمر المنير ... إذا طلعا كأنهما الأمير
فإن يك أشبها شيئا قليلا ... فقد أخطاهما منه كثير
لان الشمس تغرب حين تمسي ... وأن البدر ينقص إذ يسير
ونور محمد أبدا تمام ... على وضح المحجة مستنير
فقال الأمين: علي بسفط فيه در فجيء به. فلم يزل يحشو فاه حتى صاح: القتيل القتيل يا أمير المؤمنين.
٣٢- أبو هفان قال: حدثني سليمان بن ابي سهل: أن الرشيد قال يوما لأبي نواس - وعنده الفضل بن يحيى وبكر البرمكي -: اهجنا يا أبا نواس، وكان الرشيد مستهترا بخادم له اسمه كوثر فأنشأ يقول:
أضاع الإمامة فسق الإمام ... وغش الوزير وجهل المشير
ففضل وزير وبكر مشير ... وما ذان إلا طريق الغرور
1 / 13
ومن يظهر الفسق يمقت به ... وتنفر عنه بنات الصدور
فلو يستعفان هذا بذا ... لظلا بعرضة خطب يسير
فامتعض من هذا الرشيد وقال: والله لولا ما جنيت على نفسي من استدعاء ما كنت بنجوة لأسقيت الأرض من دمك.
٣٣- أبو هفان قال: حدثني أبو دعامة: أن الرشيد كان يوما يلاعب الفضل بن الربيع بالشطرنج إذ ولع بهذا المثل «وحي مقمور بدرد» فجعل يردده ثم قال للفضل أترى أحدا من الناس قال في هذا شعرا؟ فقال: إن كان أحد يفهم هذا فأبو نواس، قال: وأين الفاسق؟ قال في حبس أمير المؤمنين، فأمر بإحضاره فأحضر يرسف في قيوده فوقف بين يديه فصعد فيه البصر ثم قال: أما آن لك أن تتوب عن خمرتك يا ملعون؟ قال: تبت على يد أمير المؤمنين ولست بعائد لشربها ما طرد الليل النهار، قال فهل قيل في «وحي مقمور بدرد» شعر؟ قال: نعم بعض الأعراب يقول:
ليتني في بيت ورد ... منقعا في آب زرد
فألاعبها بنرد ... بين خيري وورد
وأجاهرها بفرد ... وحي مقمور بدرد
قال: صدقت، ثم التفت إلى الفضل فقال: ما كان ليفهم هذا غيره، ثم قال: إن رغبت في البقاء وأحببت الإخلاص فقل شعرا قوافيه زائية - وبين يديه جارية تسمى جوهر فأخذ بيدها وأنشد:
جوهر يا سيدتي ... جودي برب العزز
علي إني خلع ... وفيك بعض الكزز
تركت قلبي خفقا ... كخفق قلب الخزز
يتبعه أكلب غلما ... ن طياب حزز
ألزني الله بكم ... «جوهر» أقوى اللزز
قال: أحسنت والله، وكان الرشيد طيب النفس فوهب له الجارية وأمر بإطلاقه وأجزل صلته وألحقه بمنادمته.
٣٤- أبو هفان: أنشدني سليمان سخطة لأبي نواس:
قد قلت إذ أجرى مدامعي الأسى ... واغتالني ظبي تحكم في الهوى
أدعو إلى الله العلي مكانه ... وإلى النبي محمد ظبيا عصى
يقول: أدعوه لأعطيه الدرهم وعليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
٣٥- أبو هفان قال: حدثني المعروف بابن أبي رياح صاحب الشرقية قال: حدثني الفضل بن القهرمان النخاس قال: دعوت أبا نواس إلى منزل صديق لي من النخاسين كانت عنده جارية نفيسة فذكرنا لها أبا نواس فخرجت إليه فجعلت تعابثه وهو منقبض عنها إلى أن قال له: ما اسمك؛ قال: فرفع رأسه إليها وقال:
اسمي لوجهك يا منى صفة ... فكفى بوجهك مخبرا باسمي
لا تفجعي أمي بواحدها ... لن تخلفي مثلي على أمي
٣٦- أبو هفان قال: حدثت أن أبا العتاهية قال: سبقني أبو نواس إلى ثلاثة أبيات رددت أنها لي بكل ما قلته من الشعر وهو قوله:
يا كبير الذنب عفو الل ... هـ من ذنبك أكبر
وقوله:
لو لم تكن لله متهما ... لم تمس محتاجا إلى أحد
وقوله:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
٣٧- أخبرنا إبراهيم بن الخصيب بن عبد الحميد قال: شرب أبو نواس عند أبي يوما بحمص من شراب حسن فأكثر له الساقي من المزج فقال: ما وجدت منذ اليوم كعم الشراب، فقال أبي: اسقه صرفا يا غلام، فسقاه، ثم وجبت العشاء فصلينا وهو قاعد، ثم صلينا العشاء الآخرة وهو قاعد لم يصل، فقال له أبي: الصلاة يا أبا علي، فقال: ليس على السكران صلاة، ثم قال لأبي:
واستبعدت مصرا وما بعدت ... أرض يحل بها أبو نصر
ولقد وصلت بك الرجاء ولي ... مندوحة لو شئت عن مصر
فقال له ابي: صرت إلى من يحبك ويوقرك ويودك ولكن لا تخدش وجه الحديث قم فصل فإني أخاف عليك العقوبة بتغافلك عنها فإن عذاب ربك أليم، فتضاحك ثم قال: ما عسيت أقول في رب غفور رحيم جواد متجاوز، ثم لع عذاب هالت مخافته الخلق فلم لم تبطل رحمته عذابه إن كنتم صادقين؟ ثم أنشأ يقول:
رب غفور رحيم ... له عذاب أليم
فاستفظع أبي ما جاء به ثم قام وتركه وقال: على هذا لعنة الله وعلى من يقعد معه في هذا المجلس ويواتيه على هذا الكلام.
1 / 14
ثم نام مكانه سكران، فلما كان جوف الليل قال: نفسي تحدثني أني تكلمت بعظيمة الليلة. فقلت: نعم قلت كذا وكذا ولم تصل، فقال: إنا لله، ادع لنا بماء فدعوت له فأسبغ الوضوء وصلى صلاة حسنة تامة ولم ينم باقي ليلته وجعل بستغفر الله ويدعو إلى لاصباح فلما أصبحنا حدثت ابي حديثه فقال: هذا أصلح من تماديه في الغي: فقال له أبي: إنك قلت البارحة كذا وكذا فقال بعد ما عاتبه أبي:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل طرفة ... ولا أن ما يخفى عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ... ذنوب على آثارهن ذنوب
٣٨- قال: واجتمع أبو داوود بن رزين الواسطي وأبو نواس والحسين الخليع وفضل الرقاشي وعمر والوراق والحسين بن الخياط في منزل عنان جارية الناطفي فتناشدوا إلى وقت الظهر فلما أرادوا الانصراف قالوا: أين نحن العشية؟ فكل قال: عندي، فقالت عنان جارية الناطفي: بالله إلا ما قلتم في هذا شعرا وتراضيتم بحكمي فيكم فأنشأ داود يقول:
قوموا إلى قصف لهو ... وظل بيت كنين
فيه من الورد والم ... رزنجوش والياسمين
وريح مسك ذكي ... يجيد الزرجون
وقينة ذات غنج ... وذات عقل رصين
تشدو بكل طريف ... من محكم ابن رزين
وقال أبو نواس:
لا بل إلى ثقاتي ... قوموا بنا بحياتي
قوموا نلذ جميعا ... بقول هاك وهات
وقال الخليع:
انا الخليع فقوموا ... إلى شراب الخليع
إلى شراب لذيذ ... وأكل جدي رضيع
ونيل أحوى رخيم ... بالخندريس صريع
في روضة جادهاص ... وب غاديات الربيع
قوموا ننال جميعا ... منال ملك رفيع
وقال الرقاشي:
لله در عقار ... حلت ببيت الرقاشي
عذراء ذات احمرار ... إني بها لا أحاشي
قوموا نداماي رووا ... مشاشكم ومشاشي
وناطحوني بأكوا ... سها نطاح الكباش
(فإن نكلت فحل ... لكم دمي ورياشي)
وقال (عمرو الوراق):
عوجوا إلى بيت عمرو ... إلى سماع وخمر
وما شجاه علينا ... يطاع في كل أمر
وبيسري رخيم ... يزهو يجيد ونحر
فذاك بر وإن شئ ... تمو أتينا ببحر
هذا وليس عليكم ... أولى ولا وقت عصر
وقال حسين الخياط:
قضت عنان علينا ... بأن نزور حسينا
وأن تقروا لديه ... باللهو والقصف عينا
فما رأينا كظرف الحس ... ين فيما رأينا
فقرب الله منه ... زينا وباعد شينا
قوموا وقولوا أجزنا ... ما قد قضيت علينا
فقالت عنان:
مهلا فديتك مهلا ... عنان أحرى وأولى
بأن تنالوا لديها ... أشهى النعيم وأحلى
فإن عندي حراما ... من النعيم وحلا
لا تطمعوا في سوائي ... من البرية كلا
يا خيرتي خبروني ... أجاز حكمي أم لا
فقالوا لها: قد أجزنا، وأقاموا عندها.
٣٩- أبو هفان قال: حدثني ابن أبي خاصة قال: حدثني إبراهيم بن الخصيب بن عبد الحميد قال: كان أبو نواس يشرب يوما عند أبي فامله السكر فلما كان في بعض الليل قام ليبول ثم بال وقعد على بوله وقال: والله لأقولن الليلة شعرا لم أقل مثله قط ثم أنشأ يقول:
يا شفيق الروح من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
فاسقني البكر التي اعتجزت ... بخمار الشيب في الرحم
ثمت انصات الشباب لها ... بعدما جازت مدى الهرم
فهي لليوم الذي بزلت ... وهي ترب الدهر في القدم
عتقت حتى لو اتصلت ... بلسان ناطق وفم
لاحتبت في البت مائلة ... ثم قصت قصة الأمم
فرعتها بالمزاح يد ... خلقت للكاس والقلم
في ندامى سادة نجب ... أخذوا اللذات من أمم
فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم
فعلت في البيت إذ مزجت ... مقل ما فعل الصبح في الظلم
فاهتدى ساري الظلام بها ... كاهتداء السفر بالعلم
قال إبراهيم ابن الخصيب: فابتدأ ينشد وأنا أكتب ما يقول على جص الحائط فلما كان من غد وأفاق قال: أحسبني قلت البارحة شعرا وقد أنسيته فأنشدته إياه فأحسن أبي جازتي وكتبه أبو نواس مني.
1 / 15
٤٠- أبو هفان قال: حدثني يوسف ابن الداية قال: كان محمد الأمين مستهترا بالشرب فاصبح يوما وأبو نواس عنده مع باقي ندمائه. فقال الأمين: يكال لنا ما نشربه اليوم حتى ننظر أجودنا شرابا وأسرعنا انتشاء. ولأجودنا شربا حكمه، فما زالوا يشربون إلى نصف الليل، ثم نام القوم سكرا وبقي محمد وأبو نواس وكوثر قعودا يشربون ثم نام محمد وكوثر وبقي أبو نواس وحده فلم ير له مساعدا فأغفى غفوة ثم انتبه وقرب الشراب وأشار إلى بعض الندماء يحركهم للقيام وينبههم واحدا واحدا فيشرب معه بعضهم، ويجد بعضهم سكران لا حراك له، فجاء إلى مرقد الأمين فصاح به وقال: يا أمير المؤمنين ضيعت فينا ما سننت من الإنصاف في رعيتك وأفردتني بالشرب، فأفاق الأمين من وسنه وقعد يشرب معه فقال له الأمين: ويلك لقد بخست نفسك لذة هي أعظم من اعتكافك على هذا الشرب. قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: النوم الذي به تصح تراكيب البدن وعليه يعتدل الجسد. فقال: يا سيدي لذة هذا الشراب تقوم مقام النوم، فشربا بقية ليلتهما ثم أراد محمد الأمين أن ينام بعدما أصبح فقال له أبو نواس: يا سيدي استمع مني أبياتا حضرت وأنشده:
وندمان يرى غبنا عليه ... بأن يلفي وليس به انتشاء
إذا نبهته من نوم سكر ... كفاه مرة منك النداء
فليس بقائل لك أصدر بي ... ولا مستخبر لك: ما تشاء؟
ولكن سقني ويقول أيضًا ... عليك الصرف إذ أعياك ماء
إذا ما أدركته الظهر حيا ... فلا عصر عليه ولا عشاء
يصلي هذه في وقت هذي ... وكل صلاته أبدا قضاء
وذاك محمد تفديه نفسي ... وحق له وقل له الفداء
فقال الأمين: أحسنت والله، يا كوثر، بحياتي أعطه لكل بيت ألف درهم قال أبو نواس: هذا حق الأبيات فأين حق غلبتكم في الشرب؟ فقال: احتكم ما شئت نجز حكمك. فقال: مثل حق الأبيات، قال: وتعمل بها ماذا؟ قال: أبكر في هذه الغداة الطيبة إلى الغزل فإني قد هويتها منذ أيام فأتنزه وأشرب وأرجع، قال: يا كوثر أنجز حكمه لا بارك الله فيها.
٤١- أبو هفان قال: حدثت أن أبا نواس وعلي بن الخليل مولى يزيد بن مزيد الشيباني وإسماعيل القراطيسي ورزين الكاتب اجتمعوا في سوق الكرخ فتذاكروا الأدب وتفننوا في أنواع العلم ووجوهه فلما اشتد الحر ومسهم الجوع قالوا: أين نحن اليوم؟ فكل قال: عندي، فقال علي بن الخليل - وكان أسنهم -: ليصف كل رجل ما عنده فأينا نزعت الأنفس إلى ما عنده صرنا إليه فابتدرهم أبو نواس فقال:
ألا قوموا أخلاي ... إلى حانوت خمار
إلى صهباء كالمسك ... لدى جونة عطار
وبستان به نخل ... لدى زهر وأشجار
وأطعمكم به لحما ... من الوحش والأطيار
ثم قال علي بن الخليل الكوفي:
لألا قوموا أخلاي ... إلى قصف بتمكين
إلى صهباء كالورس ... وأبكار من العين
وألحان بديعات ... بحذاق الحويسين
ثم قال إسماعيل القراطيسي:
ألا قوموا أخلاي ... إلى بيت القراطيسي
فقد هيا لكم خمرا ... وذاك الأمرد الطوسي
وقد هيا التي جاءت ... لنا من أرض بلقيس
وألوانا من الطير ... وألوانا من العيس
وقينات من الحور ... كأمثال الطواويس
فن.... يا قوم ... على رغم من ابليس
وقال رزين الكاتب:
ألا قوموا اخلاي ... لداري لا إلى غيري
فعندي مجلس حلو ... كثير الورد والخيري
وعندي من إذا غنى ... تهم الأرض بالسير
فحيوا بعضكم بعضا ... فما ذاك من ضير
فقالوا له: أربيت علينا قولا فنحن نصير إليك ولا نحتاج إلى أي.. واجتمعوا في منزله.
٤٢- أبو هفان قال: حدثني علي بن أبي خاصة قال:
1 / 16
دعاني أبو الخير فقلت له: من عندك؟ قال: أبو نواس، على أنه قد حظر على نفسه الشراب وفطمها عنه، ومغنية من أحسن البشر وجها وغناء مالها ببغداد شبيه ولا مدان، فصرت إليه فإذا أبو نواس قد جاء ومعه ذفافه العنسي صاحب خيل هارون الرشيد فتغدينا وقعدنا للشرب فقدمت أشربة لم أر مثلها صفاء ورقة فملت مع أبي الخير إلى أبي نواس فقلت له: إني لأحسب أن تكون ممن لا دنيا له ولا آخرة إنما كان ينبغي ن تفطم نفسك عن الشراب خوف الله تعالى واستدعاء لثوابه لا من خوف محمد، ويحك اشرب معنا ولا تجرع نفسك الفطام عن عادتها فإن ذلك أضر الأشياء بها فوالله لا اطلع على ذلك احد سوانا. فأبى واشمأز وقال: ليس إلى ذلك سبيل وأنشأ يقول:
أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شيما
نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى لي ملامه مستقيما
فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما
كثر حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها أو أن أشم النسيما
فكأني وما أحسن منها ... قعدي يزين التحكيما
كل عن حمله السلاح إلى الحر_ب فأوصى المطيق أن لا يقيما ثم قال: ومن محمد؟ ثم أراد أن يقول شيئا وأمسك فتركناه وأخرج أبو الخير الجارية التي عنده فطلعت علينا بوجه لم نر على حسن صورته وكمال بهجته وتمام اعتداله، فبقينا حيارى مبهوتين ننظر إليها تعجبا من براعتها فسلمت وجلست قريبا من أبي نواس فمازحته ساعة وداعبته وخرجت به من الجد إلى الهزل ثم أخذت العود فحركته فخلنا الصنوج والمعازف وجميع انواع الملاهي تقرع ثم إنها اندفعت بحلق كصوت المزمار رقة صوت وشجى نغمة فغنت صوتا اختلست به ألبابنا واستخفنا حتى تزاحفنا عن مواضعنا طربا وماج بعضنا في بعض حتى رأيت ركبة أبي نواس مع ركبتها ثم ثنت وثلتت ووضعت العود فعدنا إلى مواضعنا من المجلس وحثنا الكؤوس سرورا بها واستظرافا لها فقال أبو نواس:
وذات خد مورد ... موهية المتجرد
تأمل العين منها ... محاسنا ليس تنفد
فالحسن في كل جزء ... منها معا يتردد
فبعضه في انتهاء ... وبعضه يتولد
وكلما عدت طرفا ... يكون للعود أحمد
فاشرب على صوت ريم ... ريان غير مصرد
فقلنا: قد أمرتنا بالشراب على هذا الغناء أفلا تأمر نفسك؟ وقلت في نفسي: إن شرب أبو نواس يوما من الدهر ففي هذا اليوم، ثم قال هلا: يا مالكة الحسن، إن نشطت للترنم؟ قالت: إي والله وعزازة وحبا ثم تناولت العود فغنت:
إذا انت لم تعشق ولم تدر الهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام في ذو الشنان وفندا
فصاح أبو نواس صيحة ارتج لها البيت ثم قال: احسنت والله، لعن الله من راقب محمدا، علي برطل ولو أن فيه ضرب العنق، فبادر كل واحد منا إلى رطل فناوله إياه فشرب رطلا ثم قال: آخر، فناولناه حتى شرب ثلاثة أرطال فلما شربها انكببنا عليه فقبلنا رأسه وقامت الجارية فقبلت رأسه فقال ونحن حوله:
اسقني واسقي ذفافة ... يا أبا الخير سلافة
واسق رأس اللهو والظر ... ف على عين العيافة
قهوة ذات اختيال ... سلمت من كل آفة
إن يكن غيري قلاها ... لرجاء أو مخافة
هاتها خمرا ودعنا ... من أحاديث خرافة
ضاع بل ذل الذي عن ... ف فيها يا ذفافة
مثل ما ذلت وضاعت ... بعد هارون الخلافة
ثم قال: اكتموا فإني شربت وعصيته وهجوته وإلا كان آخر العهد بيننا. قلنا: لن نحتاج إلى التأكيد علينا في ذلك، قال: أديروا أرطالكم وحثواها، فشربنا في يومنا ذلك ما لم أر أحدا شربه، سرورا بالجارية وشربه معنا، وداومنا ليلتنا شربا حتى فرق بيننا الصبح المفرق ٤٣- أبو هفان قال: حدثني صديق لي يعرف بأبي عبد الله قال: حدثني الحسن بن حسان البرقي قال: حدثني يحيى الثقفي راوية أبي نواس ونديمه قال:
1 / 17
دخلنا على أبي نواس نعوده من علة كانت به فقلنا له: يا أبا نواس صف لنا الأشربة وأوجز فقد عرفنا موقعها منك وتمكنها من صدرك ومحنتها في طبيعتك. فقال: أما الماء فيعظم خطره بقدر تعذره، واما السويق فبلغة العجلان وتعلة المريض، وأما اللبن فشبع الغرثان وري الظمآن، وأما الدادي فكالبياض في الدثار، وكالترس في السعار، وأما العسل فنبيل المنظر سخيف المخبر، وعن الخمر فاسألوني: هي شقيقة الروح وصديقة النفس ممزوجها ينفخ وصرفها غير مأمون على إنهاك البدن وفساد مزاجه مع غرس يؤدي إلى العطب ويولد أسقاما تدثر النفس ثم أنشأ يقول:
لائمي في المدام غير نصيح ... لا تلمني على شقيقة روحي
لا تلمني على التي فتنتني ... وأرتني القبيح غير قبيح
قهوة تترك الصحيح سقيما ... وتعير السقيم ثوب الصحيح
إن بذلي لها لبذل جواد ... واقتنائي لها اقتناء شحيح
٤٤- أبو هفان قال: حدثت أن أبا نواس مر يوما بنهر المهدي فرأى جارية جميلة فانشأ يقول:
بينا أنا يوما على النهر ... أطلب ما يصلح الأمر
وقد تقرأت ولا عهد لي ... بالفسق منذ أكثر من شهر
أبصرت بيضاء عشارية ... ممشوقة طيبة النشر
فقلت بالله وآلائه ... ورب ياسين مع الحشر
من أين أقبلت فقالت أنا ... جارية من خدم القصر
ضللت من عشر جوار معي ... قطعنني من حدث الدهر
فقلت ما رأيك في منزل ... خال وفي قصف وفي خمر
وفي فتى ذي ملح شاعر ... يحسن ما شئت من الشعر
قالت معاذ الله من هذه ... بيت غريب لست أستجري
فخفت يأسا أنثني راجعا ... وأسكنت ما كان في صدري
وخافت الفوت فقالت بما ... أنزل ربي في ليلة القدر
أي فتى انت فقلت امرؤ ... ليس بذي خب ولا مكر
متى يصيب منفتقا سده ... وإن يصب ملتحما يفري
قالت وما تفسير ذا؟ قلت: من ... يعرفه عذب بالهجر
قالت وأبدت ساعة خجلا ... ترمقني بالنظر الشزر
لست أنا جارية خبة ... ولا كمن يكذب او يكري
واتفق القول فأجررتها ... فآل من عسر إلى يسر
صليت يا شاعر في الخسر ... أن كنت أدري عشر ما تدري
والله ما تطمع في قبلة ... ما عشت أو توفيني أجري
فقلت: ما شرطك؟ فاستصعبت ... واشترطت ما جاز عن قدري
فقلت إني رجل صانع ... أرزق من شهر إلى شهر
فساهليني وخذي كل ما ... يحضر عندي واقبلي عذري
فأبرزت يا قوم عن محبة ... ليست من السود ولا السمر
٤٥- أبو هفان قال: حدثني أبو يعقوب الخريمي الحمصي عن الفطين البصري عن السري بن الحكيم التميمي قال: حدثني بعض مشايخ مصر عن أبي نواس، وقال لي هاشم الكندي: إنه كان سبب هجائه لي لهذا، ذلك أني بغضته في الله وناصبته له وأبحته عرضي تقربا إلى الله ﷿ قال له:
أنت يا ابن القسيس والرهبان ... وأخا الجاثليق والمطران
غير شك أحقهم أن تفدي ... من جميع الأنام لا الغلمان
وقال: أقم معهم ليلة الميلاد وليلة الذبح فما زال يشمعل ثم غنى وطرب وترنم بهذه الأبيات:
يا دير حنة من ذات الأكيراج ... من يصح عنك فإني لست بالصاحي
يعتاده كل محفوف مفارقه ... من الدهان عليه سحق أمساح
لا يدلفون إلى ورد بآنية ... إلا اغترافا من الغدران بالراح
لم يبق منهم لرائيهم وإن حسنوا ... وقوع ما حذروه غير أشباح
٤٦- أبو هفان قال: حدثني الشاذكري قال: قال شعبة لأبي نواس: أنشدني أحسن طرائفك فأنشده:
حدثنا الخفاف عن وائل ... وخالد الحذاء عن جابر
وابن جريح عن سعيد وعن ... قتادة الفاضل عن عامر
ومسعر عن بعض أشياخه ... يرفعه الشيخ إلى جابر
قالوا جميعا: أي معشوقة ... علقها ذو خلق طاهر
فواصلته ثم دامت له ... على وصال الحافظ الذاكر
كانت له الجنة مبذولة ... يرتع في مرتعها الزاهر
وأي معشوق جفا عاشقا ... عذب قبل الحشر في قابر
وكانت النار له منزلا ... بعدا له من خائن غادر
وخمسة ليس له منزل ... وأشمط دب إلى زائر
1 / 18
وقاطع الدين على لذة ... وحابس للقدح الدائر
وشاطر ليس له غرفة ... يطير فيها مائتا طائر
فقال له شعبة: أحسنت والله يا فتى وما يؤنسني مجونك من صلاحك ما جتنبت من الكبائر. أنك لظريف أديب فلا تشن أدبك بالفسق والفواحش وأرجو مغفرة الله لك مع حسن اعتدالك وكمال طبعك.
٤٧- أبو هفان قال: حدثني ابن أبي خاصة ويوسف ابن الداية قالا: حججنا مع أبي نواس سنة تسعين ومائة فبينا هو في الطواف إذ بصر بمحمد بن إسماعيل بن صبيح وكان بارعا جميلا فأنشأ:
لم يتسنى السعي والطواف ولا ال ... ساعون لما ابتهلت وابتهلوا
٤٨- أبو هفان قال: حدثني محمد بن سعيد: أنه لقي أبا نواس قبل موته بجمعة وقد تأله وتقشف فقال له: يا أبا علي ما هذا إلى كم يكون الشذوذ عن الله والتهور في الضلالة؟ فقال: لا عدت والله في الضلالة ولا في معصية ما حملت عيني الماء وإن نفسي لتتقطع حسرات على ما فرطت من سوالف ذللي. فلما كانت الجمعة الأخرى قيل لنا: الحقوا جنازة أبي نواس.
٤٩- أبو هفان قال: حدثني يوسف ابن الداية قال: كان أبو نواس كتب إلى الحسين الخادم وهو محبوس أن يوصل له هذه الأبيات إلى الرشيد وهي:
بعفوك بل بجودك عذت لا بل ... بحقك يا أمير المؤمنينا
فلا يتعذرن علي عفو ... وسعت به جميع العالمينا
فإني لم أخنك بظهر غيب ... ولا حدثت نفسي أن أخونا
براك الله للإسلام عزا ... وحصنا دون بيضته حصينا
وقد أذللت أهل الشرك حتى ... تركتهمو وما يترمرمونا
تزورهمو بسيفك كل عام ... زيارة واصلين لقاطعينا
ولو شئت اكتننت إلى نعيم ... وقاسي الأمر دونك آخرونا
فشفع حسن وجهك في أسير ... يدين بحبك الرحمن دينا
إذا ما الهون حل بمستجير ... فليس لجار وجهك أن يهونا
قال الحسن الخادم فتوخيت وقتا كان أمير المؤمنين طيب النفس فيه فأوصلتها فقرأها وقال: لا والله أو يتوب وتصح توبته.
٥٠- أبو هفان قال: حدثني أبو عبد الله الحسين بن أبي المنذر قال: كان أبو عيسى بن أبي جعفر المنصور شديد المحبة لأبي نواس فلما حبسه الرشيد في شرب الخمر وفيما يذكره في شعره من العظائم كتب إلى أبي عيسى بهذه الأبيات يسأله أن يشهد له بالتوبة عند الرشيد قال:
بلغ الصوت فنادي ... يا أبا عيس الجوادا
كن عمادا يا ابن من كا ... ن غياثا وعمادا
وتدارك جسدا قد ما ... ت أو قد قيل كاد
قل له- إن قال: هل تا_ب-: نعم تاب وزادا
واضمن التوبة عني ... فإذا ما عدت عادا
قال فكلمه أبو عيسى فيه حتى أطلقه: ٥١- أبو هفان قال: حدثت أن أبا نواس كان يشرب مع الأمين فنشط الأمين للسباحة فلبس ثياب ملحم ولبس كوثر مثل ذلك ووقعل في البركة فنظر أبو نواس إلى بدن محمد فرأى شيئا لم ير مثله قط فلما كان من غد، غدوت لأسأله عن خبره معه فقال لي: ويلك رأيته فرأيت بلية لا توصف وفتنة لا تطاق ثم أنشأ يقول:
إني لصب ولا أقول بمن ... أخاف من لا يخاف من احد
إذا تفكرت في هواي له ... مسست رأسي هل طار عن جسدي
إني على ما ذكرت من فرق ... لآمل أن أناله بيدي
فقلت له: اتق الله في رأسك فإنه إن بلغته قتلك، فأمسك إنشادها وطواها عن الناس جميعا.
٥٢- أبو هفان قال: حدثني الحسن قال: قال لي أبو نواس: اخرج بنا إلى ناحية الكناسة لنتروح فخرجنا نحوها فطفنا ساعة وأبعدنا ثم رجعنا وقد كل وانحزل وانبهر فأنشأ يقول:
يا رب كم وإلى كم ... أمشي ويركب غير
ما إن رضيت بهذا ... يا رب منك لخير
ما أبتغي منك طرفا ... رضيت منط بعير
٥٣- أبو هفن قال: وحدثني العتبي: أن أبا نواس كان عند محمد بن زهير في يوم من أيام شهر رمضان يتحدث وكان محمد شديد المحبة له مغرما بقره فتذاكرا الشراب فقال: يا أبا علي كيف صبرك عنه بالنهار فقال: صبر ضعيف لا أحمده ولا أعده صبرا وإن كنت أستوفي ليلا ما يفوتني نهارا ولو أجد مساعدا نا فقدته وما فقدني في ليل ولا نهار ثم أنشأ يقول:
لو أن لي سكنا في الناس يسعدني ... لما انتظرت لشرب الراح إفطارا
الراح شيء عجيب أنت شاربه ... فاشرب وإن حملتك الراح أوزارا
1 / 19
يا من يلوم على حمراء صافية ... صر في الجنان ودعني أدخل النارا
٥٤- أبو هفان قال: حدثت أن أبا نواس كان يحب غلاما وكان الغلام يختلف إليه ثم إنه فقده أياما وطلبه فلم يقدر عليه فمر بمجلس منصور بن عمار وهو غاص بأهله ما بين قائم وقاعد وهو يتصفح وجوههم فرأى الغلام قاعدا وسط الحلقة وقد بدأ المنصور بصفة النفخة والصور ثم وصل ذلك بصفة الجنة والحور ثم بصفة النار وما أعد الله لأهلها من أليم العذاب والناس حوله يبكون ويزفرون ويصعقون ونظر إلى الغلام يبكي فبكى أبو نواس رحمة ورقة عليها فمر به صديق له فقال: يا أبا نواس متى صرت تشهد مجالس القصاص وتبكي؟ الحمد لله الذي أناب لك ووفقك فأنشأ يقول مجيبا له:
لم أبك في مجلس منصور ... شوقا إلى الجنة والحور
ولا لذكر النار من حرها ... أجل ولا النفخة في الصور
لكن بكائي لبكا شادن ... تقيه نفسي كل محذور
أحسن من مجلس منصور ... ضرب بدف أو بطنبور
٥٥- أبو هفان قال: حدثني يوسف ابن الداية: أن أبا نواس حضر يوما منادمة الأمين فأنشده فقال له محمد: قد قلت يا أبا نواس بيتا من شعر إن انت أجزته فلك ألف دينار وإلا أخذت منك ألفا. قال: ما هون يا أمير المؤمنين؟ قال: قد قلت:
رب يوم لهوت بلا مدام ... بل بشطرجنا يجيل رخاخا
قال فأطرق أبو نواس ساعة مفكرا حتى ظن أنه قد عجز وأفحم فقال: يا أمير المؤمنين أعد البيت ولك بيتان فأعاد عليه فأنشأ أبو نواس:
وسط بستان مجلس في جنان ... قد علونا مفارشا ونخاخا
إذ حوينا من الظباء غزالا ... طيبا لحمه يفوق المخاخا
قد نصبنا له الشباك زمانا ... ونصبنا مع الشباك فخاخا
ثم صدناه بعد خمس شهور ... عند نهر يسيح ماء سخاخا
لأمين متوج ذي جمال ... دام في الملك ساميا سمخاخا
فأمر له بخمسة آلاف دينار فقبضها وانصرف.
٥٦- أبو هفان قال: حدثني يوسف ابن الداية قال: كان أبو نواس قاعدا عندنا في سوق الرقيق وهو يعترض الجواري فاشترى عدة وباع عدة وكن حسان الوجوه آخذات بالألباب فقال له: يا أبا علي تترك مثل هؤلاء اللواتي يرغب فيهن وترغب في الغلمان؟ فأنشأ يقول مجيبا من ساعته: ٥٧-أبو هفان قال: حدثني محمد بن سعيد: إنه قيل لأبي نواس: إن أم لاربيع من مولدات اليمامة ةوأباه من مولدي المدينة، قال: إماء المدينة في نسائهم فنما الخبر إلى الربيع فلم يزل به حتى حبسه وطالبه بالزندقة وادعاها عليه وأراد أن يوجبها عليه بين يدي الرشيد فجمع له الفقهاء ودس إليهم الأموال وبعث إلى من كان يحسده من الشعراء فأحضرهم ثم قال له: ألست القائل:
يا أحمد المرتجى في كل نائبة ... قم سيدي نعص جبار السموات
قال: بلى. قال: يا أمبر المؤمنين، كافر. ثم اتفت إلى من حضر فقال لهم: ما تقولون يا معشر الفقهاء والشعراء؟ قالوا: صدق يا أمير المؤمنين. قال أبو نواس: يا أمير المؤمنين إن كانوا قالوا بعقولهم فسلحا وإن كانوا بآرائهم فقبحا لهم، أنى يكون زنديقا من يقر أن للسموات جبارا. قال الرشيد: صدقت، قم عني. فلم يزل الربيع يرصده بعد ذلك ويتطلب سقطاته ويشيع عوراته حتى قال:
ما جاءني أحد يخبر أنه ... في جنة مذمات أو في نار
فحبسه بهذا البيت وانطلق لسانه بالقول فيه وانحسر عن أبي نواس من كان يعاونه.
٥٨- أبو هفان عبد الله بن أحمد قال: أخبرني رواة أبي نواس وأصحابه منهم محمد بن حرب بن خلف بن مهزم - وهو عم أبي هفان - وسلمان سخطة واليؤيؤ والجماز البصريون ويوسف ابن الداية وعلي بن أبي خلصة وأبو دعامة البغداديون: أن أبا نواس ولد بال أهواز بالقرب من الجبل المقطوع سنة ست وثلاثين ومائة ومات ببغداد سنة خمس وتسعين ومائة فكان عمره تسعا وخمسين سنة ودفن في مقابر الشونيزي في تل اليهود ومات في بيت خمارة كان يألفها.
1 / 20