فسر الشيخ بكلمات ابنته وانبسطت ملامحه ثم قال: إن سلمى روحية الميول والمذاهب، فهي ترى جميع الأشياء سابحة في عالم النفس.
وهكذا عاد فارس كرامة إلى محادثتي باهتمام كلي ورقة متناهية، كأنه وجد في سرا سحريا يرجعه على أجنحة الذكرى إلى ربيع أيامه الغابرة.
كان ذلك الشيخ يحدق بي مسترجعا أشباح شبابه وأنا أتأمله حالما بمستقبلي. كان ينظر إلي مثلما تخيم أغصان الشجرة العالية المملوءة بمآتي الفصول فوق غرسة صغيرة مفعمة بعزم هاجع وحياة عمياء. شجرة مسنة راسخة الأعراق قد اختبرت صيف العمر وشتاءه، ووقفت أمام عواصف الدهر وأنوائه. وغرسة ضعيفة لينة لم تر غير الربيع ولم ترتعش إلا بمرور نسيم الفجر.
أما سلمى فكانت ساكتة تنظر إلي تارة وطورا إلى أبيها، كأنها تقرأ في وجهينا أول فصل من رواية الحياة وآخر فصل منها.
قضى ذلك النهار متنهدا أنفاسه بين تلك الحدائق والبساتين، وغابت الشمس تاركة خيال قبلة صفراء على قمم لبنان المتعالية قبالة ذلك المنزل، وفارس كرامة يتلو علي أخباره فيذهلني، وأنا أترنم أمامه بأغاني شبيبتي فأطربه، وسلمى جالسة بقرب تلك النافذة تنظر إلينا بعينيها الحزينتين ولا تتحرك، وتسمع أحاديثنا ولا تتكلم، كأنها عرفت أن للجمال لغة سماوية تترفع عن الأصوات والمقاطع التي تحدثها الشفاه والألسنة، لغة خالدة تضم إليها جميع أنغام البشر، وتجعلها شعورا صامتا مثلما تجتذب البحيرة الهادئة أغاني السواقي إلى أعماقها وتجعلها سكوتا أبديا. إن الجمال سر تفهمه أرواحنا وتفرح به وتنمو بتأثيراته، أما أفكارنا فتقف أمامه محتارة محاولة تحديده وتجسيده بالألفاظ، ولكنها لا تستطيع. هو سيال خاف عن العين يتموج بين عواطف الناظر وحقيقة المنظور. الجمال الحقيقي هو أشعة تنبعث من قدس أقداس النفوس وتنير خارج الجسد، مثلما تنبثق الحياة من أعماق النواة وتكسب الزهرة لونا وعطرا، هو تفاهم كلي بين الرجل والمرأة يتم بلحظة، وبلحظة يولد ذلك الميل المترفع عن جميع الميول، ذلك الانعطاف الروحي الذي ندعوه حبا، فهل فهمت روحي روح سلمى في عشية النهار فجعلني التفاهم أراها أجمل امرأة أمام الشمس؟ أم هي سكرة الشبيبة التي تجعلنا نتخيل رسوما وأشباحا لا حقيقة لها؟ هل أعمتني الفتوة فتوهمت الأشعة في عيني سلمى، والحلاوة في ثغرها، والرقة في قدها ؟ أم هي تلك الأشعة وتلك الحلاوة وتلك الرقة التي فتحت عيني لتريني أفراح الحب وأحزانه؟ لا أدري، ولكنني أعلم أنني شعرت بعاطفة لم أشعر بها قبل تلك الساعة، عاطفة جديدة تمايلت حول قلبي بهدوء يشابه رفرفة الروح على وجه القمر قبل أن تبتدئ الدهور. ومن تلك العاطفة قد تولدت سعادتي وتعاستي مثلما ظهرت وتناسخت الكائنات بإرادة ذلك الروح.
هكذا انقضت تلك الساعة التي جمعتني بسلمى لأول مرة، وهكذا شاءت السماء وأعتقتني على حين غفلة من عبودية الحيرة والحداثة لتسيرني حرا في موكب المحبة، فالمحبة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم؛ لأنها ترفع النفس إلى مقام سام لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسوده نواميس الطبيعة وأحكامها.
ولما وقفت للانصراف اقترب مني فارس كرامة، وقال بصوت تعانقه رنة الإخلاص: الآن وقد عرفت الطريق إلى هذا المنزل يجب أن تأتي إليه شاعرا بالثقة التي تقودك إلى بيت أبيك، وأن تحسبني وسلمى كوالد وأخت لك، أليس كذلك يا سلمى؟
فأحنت سلمى رأسها إيجابا ثم نظرت إلي نظرة غريب ضائع وجد رفيقا يعرفه.
إن تلك الكلمات التي قالها لي فارس كرامة هي النغمة الأولى التي أوقفتني بجانب ابنته أمام عرش المحبة، هي استهلال الأغنية السماوية التي انتهت بالندب والرثاء، هي القوة التي شجعت روحينا فاقتربنا من النور والنار، هي الإناء الذي شربنا فيه الكوثر والعلقم.
وخرجت فشيعني الشيخ إلى أطراف الحديقة، فودعتهما وقلبي يخفق في داخلي مثلما ترتعش شفتا العطشان بملامسة حافة الكأس.
Неизвестная страница