الرسالة التاسعة والثمانون
20 ديسمبر
أحمد لصديقي مشورته الخالصة الكيسة عما يجب أن أفعل، نعم. لقد ألححت علي بصدق أن أغادر مكاني توا، ولكن نصحك لي بالعودة مباشرة إلى جواركم لا أستحسنه بوجه ما، وأرى أن جولة في طريقي الخيالي ذات تأثير أفضل على أفكاري المشتتة، خصوصا ونحن ننتظر الآن الجليد، وبالتالي طرقا حسنة. وإن صداقتك لتسحرني حين تقترح مجيئك إلى هنا للبحث عني. على أنني أرجوك أن تؤخر عزمك نحو عشرة أيام أو أسبوعين، وألا تبدأ في سفرتك حتى تصلك رسالة أخرى مني، يجب ألا تتعجل في قطف الثمار قبل نضجها، وأسبوعان كما تعلم سواء قبل أو بعد لهما تأثير مادي. اطلب إلى أمي أن تذكرني في صلواتها، وأكد لها أنني آسف للأسى الذي جلبته لها دون قصد مني. وا حسرتاه يا صديقي! لقد قدر لي أن أرسل الشقاء حيث أرغب كل الرغبة في منح السعادة.
الوداع يا أعز الأصدقاء، ولتغدق عليك أبدا كل النعم التي أنت بها جدير، ولست أرغب لك في أكثر من ذلك. الوداع.
وفي اليوم الذي خط فيه فرتر هذه الرسالة الأخيرة - يوم الأحد السابق للميلاد - زار شارلوت في ظلمة المساء، فوجدها منفردة منهمكة كعادتها السنوية في تهييء هدايا الميلاد لأخواتها وإخوتها، فبدأ حديثه بملاحظات عن تحولات الفصل البسيطة، وعن السرور والرضى الذي توحيه لنفوس الأطفال. وقالت شارلوت: «حسن، لك هدية أنت أيضا إذا سلكت مسلكا حسنا.» قالت ذلك وهي تخفي بابتسامة رصينة اهتمامها العميق بأمره. فأجاب فرتر على الفور: «ماذا تعنين بالمسلك الحسن يا عزيزتي شارلوت؟» فقالت: «الخميس القابل سيكون ليلة عيد الميلاد، وسيكون أبي والأطفال هنا جميعا. فتعال أنت أيضا، وسيعطى كل هديته. ولكن لا تأت قبل ليلة عيد الميلاد.» فظللت محيا فرتر دهشة فجائية وكاد يجيب، ولكن شارلوت منعته بقولها: «حقا، يجب أن تكون كذلك. أريد أن يكون، كلا بل أطلب ذلك منك منة خاصة؛ لأن هناك أسبابا قوية، قوية جدا.» ثم أضافت بصوت أرفق ونظرة ملؤها الفتنة، قائلة برفق: «صدقني إنني أطلب هذه المنة لراحة كلينا وهدوئنا. آه يا فرتر! يجب ألا نستمر في حالنا هذه، تعال إذا فاستعد حياتك الأولى، وتغلب على هذا الارتباط المنكود، هذه العاطفة التي لا أجرؤ إلا على العطف عليها.» فأحنى فرتر رأسه وتأوه، ورأت شارلوت غمه، فأخذته بيدها: «صبرا يا فرتر، كن مذعنا ولا تستسلم إلى هذا الضلال الذي لا ينتهي إلا بهلاكك. ألست متزوجة؟ فلم تفكر بي إذا؛ حقا إنني أخشى أن ينهمك فرتر في هيام لا يجدي لأنني متزوجة.» فنظر إليها نظرة استياء عميق وخوف قائلا: «حقا، أيكون هذا فكر شارلوت الخاص؟» وانطلق يتمشى مسرعا جيئة وذهابا في الغرفة، ثم وقف فجأة وصاح: «كلا، لا يمكن ذلك، بل هي الأفكار العقيمة، أفكار «ألبرت» الحانق.» فأكدت له شارلوت بكل ما استطاعت من لطف في ذلك الموقف أن حبه الجامح قد أعماه عن الحقيقة، وأن هذه هي أفكارها، أفكار شخص يحترم فضائله المحبوبة، أفكار من يعنى بصالحه، ويتأثر جد التأثر أن يراه مستسلما لعاطفة قتالة. ثم قالت: «تعال استجمع نفسك، وفكر في كصديقة ودودة وحسب. تأمل كيف يتألم العالم حين يحتجب عنه رجل بعبقريتك ومواهبك. عد إلى الدوائر الزاهية، وابحث عن مهبط آخر لحبك، شخص يستحق هذا الحب، حر يستطيع أن يقابلك بمثله، وأنا الكفيلة لك بأنك ستجد هذا الشخص، والتجربة جديرة على الأقل بعنايتك، والسفرة دون ريب ستهدئ من ذهنك المضطرب. ولست بآيسة من التقائك بامرأة جديرة بك. ثم عد ثانية نقتسم هذا السكون البيتي، فتخرج السعادة من الصداقة الاجتماعية.» فقال فرتر بابتسامة معنوية: «يا عزيزتي شارلوت، يجب أن يطبع هذا الخطاب لفائدة المتحذلقين والأخلاقيين، أسألك رفقا لمدة وجيزة، وثقي بعد ذلك أنه سينتهي كل شيء.» فقالت: «ولكن لا تدعني أراك يا فرتر قبل ليل الخميس.» وكان على وشك أن يجيب، ولكن ألبرت دخل فجأة، فلقي فرتر بتحية باردة، وتمشى هذا جيئة وذهابا في الغرفة بارتباك ظاهر، وتحدثوا عن موضوعات مختلفة ولكنها نسيت سريعا. واستفسر ألبرت من شارلوت عن بعض طلبات طفيفة كان قد سألها إنفاذها ولقيها مهملة، فنطق بلوم شديد جرح فرتر في أعماق قلبه، وأراد الانصراف، فلم يدر كيف يفعل، وبقي في حالته المشوشة حتى زهاء الساعة الثامنة، وفي كل هذا الوقت كان هياجه وحدته يتزايدان، وأخيرا هيأ ألبرت المائدة فاستأذن فرتر في الانصراف، ولم يدعه ألبرت إلى العشاء إلا بدعوة باردة.
وعاد فرتر إلى منزله بغم عميق يمشي على مهل، فتناول الشمعة من الخادم، وصعد إلى غرفته صامتا وحيدا، وسمع بعدئذ يبكي مر البكاء ويتكلم بجد، ويسير في غرفته. وأخيرا ارتمى على فراشه دون أن يخلع ملابسه، واجترأ الخادم في الدخول إليه الساعة الحادية عشرة فسمح له بمساعدته في خلع حذائه، ولكنه طلب منه ألا يدخل حتى يقرع الجرس.
ووجدت الرسالة الآتية مختومة في مكتبه بعد موته، وقد كتبت صباح الاثنين 21 ديسمبر، فسلمت إلى شارلوت حسب العنوان الذي عليها، وها هي في حالتها المختلفة التي يظهر أنها كتبت بها.
الرسالة التسعون
شارلوت العزيزة
لقد قضي الأمر، وصممت على الموت، وها أنا أخبرك بذلك بملء الهدوء والتروي دون أي تهيج فجائي، أي غضب مشتعل.
Неизвестная страница