كانا قد استسلما لسلطان النوم كالخيول المجهدة التي تنعس وهي واقفة، وقبل أن يوغل الليل إلى منتصفه بقليل دوى على بلاط القاعة الساكنة الشاحبة الأضواء كعب الحذاء الميري للشاويش علام الذي اقترب منهما لاهث الأنفاس دون أن يوقظهما، لم يكن لديه وقت ولهذا مد يده وهز كتفي عبد الحق هزة شديدة ففتح عينيه وعرف وجه الشاويش وابتسم بصعوبة كأنه يغتفر له حركته المفاجئة من عشمه فيه: خير إن شاء الله يا علام. - أنتم فين؟ الدنيا مقلوبة عليك وأنت ولا هنا. - سعادة البيك العقيد سأل عني؟ - العقيد تعب وروح بيته، لكن النقيب حازم الله يستره ولأجل خاطرك. - شاب طيب وابن حلال، عمري ما قصدته في شيء ... - وهو منتظر ويريد أن ينصرف، اعمل لك همة، وتعال بسرعة لإتمام المحضر، ولا تنس الحرز والذي منه.
فتش عبد الحق عن الحقيبة السوداء التي كانت قد انزلقت من على حجره واستقرت تحت الكرسي، قبل أن يسوي شعره وملابسه سمع الشاويش يوبخ صالح على نومه وإهماله: وأنت يا حضرة، لو كنت في الجيش أو البوليس كنا علمناك النظام. - حصل خير يا شاويش علام، كفى الله الشر.
ضحك الشاويش برغم تعجله ولهفته قائلا: الاسم إسعاف وأنت محتاج لمن يسعفك، التليفونات هوستنا وأنت ولا هنا، تفضل العنوان، بسرعة على الزمالك.
قاطعه صالح هاتفا: الزمالك مرة واحدة؟
قال الشاويش: يالله شد حيلك، ولد وقع من البلكونة والحادث غامض.
قال صالح ولم يخف فرحته: غامض ولا واضح، المهم أنه في الزمالك، والله وفرجت يا أولاد ... خليك أنت يا عبد الحق مع الشعر والفقر، تركتكم بعافية، على فكرة يا شاويش ...
برطم علام كأنه ينخس حمارا بليدا: قلت لك يالله الولد زمانه غرقان في دمه.
قال صالح وهو يتهيأ للانصراف: يا ترى ابن الوزير و...
رد علام شاخطا فيه: كلهم في الجبس والحمد لله، يالله تحرك يا أخي.
جرى صالح مسرعا نحو الباب كغراب جائع يستعد للهبوط على صيده، بينما مشى عبد الحق إلى جانب الشاويش وشفتاه تتمتمان وتستغفران الله من كل ذنب عظيم. كانت يده تمسك بالحقيبة السوداء المنتفخة التي أصابها الجرب وتهرأت أطرافها وهو يسندها إلى صدره كأنه يحتضن طفلا محموما تورمت خدوده وبرزت عظام وجهه وضلوعه، بينما وردت عليه أثناء عبوره للقاعة الفسيحة إلى الممشى الطويل الناصع البياض لمحة من الحلم الذي طاف به للحظات لا يدري هل طالت أم قصرت. تراءت له طرقات الجبانة الكبيرة وشوارعها الضيقة ومقابرها الداكنة المتشابهة كالمتاهة التي راح يبحث فيها عن قبر جديد لم ينشف الأسمنت الطري الذي سد فوهته ولم يوضع عليه اسم ولا تاريخ ولا فرع صبار ولا ورقة خضراء واحدة. خيل إليه من التعب والدوخة أنه عثر على القبر الطازج وأسند عليه رأسه المتعب وراح يسأل ساكنه الجديد عن اسمه وعنوانه وهويته وصنعته، والأغرب من ذلك أن الميت رد عليه وأفهمه أنه شاعر يبحث عن نفسه التائهة في المدينة الضخمة التي لا تقل رعبا عن مدينة الموتى التي كلت قدماه من السعي بين أضرحتها وقبابها وشواهدها الصامتة، ويبدو أنه كان على وشك أن يتذكر بقية الحوار بينه وبين الشاعر الضائع المجهول حين تنبه إلى أنه قد وصل بالفعل مع صديقه الشاويش علام إلى الباب الذي سيدخلان منه على النقيب.
Неизвестная страница