3
وقال عالم الفلك محمود نجم بعد أن ودعه معلمه العجوز محمد علام: لا أدري كيف حدث ما حدث ولا متى ولا كم استغرق من الوقت. كل ما أذكره أنني بكيت كما لم أبك في حياتي، واحترقت كالنيزك الذي يهوي في غيبوبة الخلاء قبل أن يرتطم بالأرض ويتفحم. لا أدري أيضا كيف أمكن أن يظهر أمامي وجهك الأبيض المستدير كأنه: وجه بدر أطل على بئري المظلم ومد إلي من ضوئه الناعم العذب حبل النجاة فطفوت على السطح وفتحت عيني وتنفست وتكلمت وضحكت أيضا معك، ربما هتفت باسمك المطمور في أغوار الشعور وما تحت الشعور فسمعته زوجتي الوفية وسألت عنك حتى وجدتك.
وربما تذكرت في ساعات محنتي أنني نطقت باسمك كثيرا ورويت لها أحاديثنا الطويلة ونحن نجرب حظنا مع المنظار العتيق ونطل منه على حقول السماء المتلألئة بآلاف الزهور ونحلم بالعمل في مرصد حلوان وبالتحليق أيضا مع سفن الفضاء.
لقد وقعت المفاجأة ورأيتك أمامي، بل تمت المعجزة وألقيت رأسي المدوي كخلية النحل على صدرك وأطلقت الدموع من محبسها كما أطلقت النكات والصيحات!
من كان يصدق أنني سألقاك أو أنك ستنتشلني من الغرق بعد هذه السنين؟ هل كان من الممكن أن أتصورك حيا ترزق بعد أن علمت بهجرك للتعليم وانشغالك بلقمة العيش وضياعك وسط الزحام وإحباط أحلامك وسقوطها في وحل الركود واليأس والاستسلام؟ وها أنت تنتزع الضحكة من فمي الفاغر من الدهشة وأنا أتخيلك تراقب وجوه العجول والثيران والأبقار والأغنام بدلا من رصد الكواكب والنجوم والأفلاك، وتتحدث عن ثروتك وأملاكك ومأدبتك العامرة في الإفطار والغداء والعشاء، وأحدثك عن ليالينا مع المنظار العتيق وحكاياتك عن إيكاروس وعباس بن فرناس وموسيقى الأفلاك التي سمعها فيثاغورس وأشعار شكسبير عن غناء الكواكب كأنها جوقة الملائكة التي تصدح بألحان التناغم الكوني وتتغنى بها أرواح النجوم في السماء، ويمنعنا من سماعها الثوب الترابي الذي يطوق نفوسنا حتى تغيب في التراب. •••
وضحكت ضحكت كثيرا - حتى دقت زوجتي الباب وأطلت برأسها الصغير وشعرها القصير ورأتني وسمعتني فاختلجت قسمات وجهها بالفرح الغامر وأغلقت الباب بسرعة وهي تعتذر! - أقول ضحكت كثيرا عندما ذكرتني بالعلقة الساخنة أمام زملائي التلاميذ وتحت بصر الناظر السمين القصير العابس الوجه على الدوام. ضحكت على بكاء الصبي النحيل وصراخه من لسعات السوط الذي ضربته به لتوقظه من سباته وعبثه الشيطاني، وكنت محقا في غضبك لأنهم جرجروك إلى المركز في عز الليل وصدعوا دماغك بالتحقيق في واقعة تافهة على الرغم من غرابتها وذهول الناس منها في البلد الصغير، لكن هل تصورت يا معلمي مدى الألم الذي كان يكمن وراءها؟ هل شعرت به من بعيد أو من قريب فأقبلت على رعايتي وتهذيبي وتدليلي أيضا كالأب الحنون؟ أجل كان ألما لا يطاق ولا يوصف؛ فالصبي الطائش الذي لطخ جدران البلد بالحرفين اللعينين كما تصفهما كان يحمل، كما يقال، عبئا تنوء به الجبال، ويحس أنه منبوذ ومرفوض من العالم والناس والأرض والسماء والماضي والحاضر والمستقبل، وكان يرى أمه كل يوم وهي تذبل وتنكمش على نفسها وتنزوي واضعة يدها على قلبها في ركن قصي من البيت أو في حجرة مظلمة، وبدأ يدرك قسوة أبيه عليها وتجهمه وعبوسه كلما أبصرها أمامه وكلما حاولت أن ترضيه، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يمر بباب حجرتهما فيسمعه وهو يسبها ويلعنها ويتوعدها بنار جهنم، وأمي تبكي وتدعو الله ليل نهار أن يريحها من وجهه وتحتضنني أحيانا وتهتف دامعة: ماذا ستفعل بعدي يا مسكين؟ وحضرت من المدرسة عصر يوم ممطر فسمعت صراخ أختي الكبيرة وبكاء أخي الأزهري الذي وصل قبل أيام من عاصمة المركز بعد أن اشتد عليها المرض وطلبت من أختي أن تكتب له ليكون بجانبها ويتلو الآيات الكريمة على رأسها ويغمض عينيها بيديه ويوسدها المقر الأخير. لم أكن قد رأيت ميتا قبل ذلك ولا جربت التغيير الذي يطرأ على البيت وأهله وأثاثه ورائحته عندما يموت فيه إنسان ويجهز للسفر الطويل ويتوافد المعزون وتنوح النساء ويتعالى صوت المقرئ ليلا في الصوان، وكان أبي وأخي حريصين على إبعادي عن البيت فسلماني للجيران، ولما شعرت بخروج النعش للصلاة عليها في الجامع تسللت وراء المعزين، وبقيت وحيدا كالقط المحتضر مستندا إلى جدار بعيد وأنا أفكر في معنى الموت ومعنى أن تذهب أمي ولا تعود. لا أذكر إن كنت قد فهمت شيئا أو لم أفهم. كل ما يحضرني الآن أنني بكيت وأخفيت بكائي عن الجميع، واستطعت أن أختصر الطريق وأسبق موكب الجنازة إلى المقبرة وأزحف خفية كالكلب الضال حتى وصلت إلى المكان الذي تجمعوا فيه. كان أصدقاء أخي يسندونه عن يمين ويسار، وأبي في الخلف تتمتم شفتاه وتتحرك باستمرار، وأيدي الرجال تشد على يده في طابور طويل، وحانت لحظة الدفن والتفت الأجساد حول القبر وعلت الأصوات بالتكبير والدعاء، ووجدوني وسطهم كأنما خرجت من فجوة تحت أقدامهم. رحت أزاحم وأزيح الكتل المتراصة لأجد منفذا منها، وسددت فوهة التربة بجسدي المرتجف الضئيل وأنا أصرخ: لا، لا، لا. جذبني القارئ والتربي مع أحد المعزين الذين لا أعرفهم بعيدا عن الفم الأسود المفتوح، وأسرع أخي يحتضنني ويمسح رأسي المشتعل بالغضب والهياج وهو يردد: استغفر الله العظيم، قل إنا لله وإنا إليه راجعون، قل، قل ... صرخت فيه: لا، لا. صحت بالوجوه التي التفت حولي: لا، لا. رفعت رأسي للسماء وأنا أتشنج مرتجفا: لا، لا. انحنيت على الأرض وجرفت حفنة من التراب ونثرتها على وجهي وعلى الوجوه التي كانت تحدق بي وتحملق في بعيون مسترخية كابية كعيون الغربان وأخذت أصيح: لا يا أبي لا، لا يا أمي لا ... لم أدر ماذا جرى لي بعد ذلك إلا عندما أفقت على سريري وأخي بجانبي يمسك بيدي ويربت بحنان على صدري وهو يقول: وحد الله، أنت عاقل وهذا أمر الله. عاودتني نوبة البكاء والصراخ فصحت في غضب : لا، لا. وأطل وجه أبي المتجهم وهو يردد وحد الله فعلا صياحي كأنه إصبع اتهام غارق في الدم: لا، لا، لا. •••
لم تكد تمر الأربعون على وفاة أمي حتى سمعت أن أبي يستعد للزواج. لم أصدق أبدا حتى فوجئت ذات صباح بسيارة تقف أمام باب البيت وتنزل منها امرأة ضخمة بيضاء الجبهة والذراعين تلف جسدها في ملاءة سوداء وتغطي عينيها وأسفل وجهها بحجاب أسود. أخذني أخي من يدي وهمس في أذني: هذه زوجة أبيك على سنة الله ورسوله، هي في مقام أمك. صرخت فيه لا، وجريت خارجا إلى الشارع وأنا أصيح لا، لا، لا. ومرت أيام وأنا أهذي بصراخي في كل مكان. كان العالم هو السجن الذي يضيق علي، والبلد هي قبري الكبير الذي أعيش فيه وحيدا كما ترقد أمي وحيدة في قبرها الصغير، ومع أن زوجة أبي كانت امرأة طيبة ولم تقصر لحظة في إرضائي إلا أنني كنت أشعر مع الأيام بأن أنفاسي تختنق في القبر الواسع الكبير، ولزمت الصمت في البيت والمدرسة حتى تصور الجميع أنني فقدت القدرة على الكلام، لكنني كنت قد فكرت في طريقة أخرى للصراخ، وهكذا اهتديت إلى تلطيخ الجدران بالحرفين اللعينين وتمنيت لو أستطيع أن أكتبهما على جدران الكون الشاسع الرهيب، وهكذا عثر النجار والحلاق والفلاح ذات ليلة علي وسلموني للمركز، وتدخلت أنت لإخراجي منه وتعهدت بأن تضمنني وتوقع علي العقاب. •••
هل تعلم أن سكين الألم غارت في قلبي منذ ذلك الحين على الرغم من عطفك علي ومن أمسياتنا التي قضيناها أمام المنظار؟ لقد حفرت اللا على جدران قلبي وراحت خطوطها تكبر وتمتد وتتعاظم حتى انطبعت على كل شيء. خيل إلي أنني أكبر أيضا وأتعاظم وأتضخم كمارد أو شيطان يتلفع في عباءة كبيرة سوداء ويحرك ذراعيه ويديه الهائلتين وهو يختم الحرفين بالسواد على كل شيء في الأرض والسماء، ولم يستطع كلامك عن أنغام الكواكب وتناغم الأكوان أن يغير من موقف النفي المطلق لكل شيء على الإطلاق. كنت أستمع إليك باهتمام وأتطلع من فتحة المنظار إلى كواكب ونجوم وطريق لبني متعرج ومختنق بالضباب في سماء رفضتها كما رفضت الأرض بما فيها بلدتي التي تحولت كما قلت لك إلى قبر صغير داخل القبر الكبير. لا أدري كم سنة لبثت على هذه الحال ولا إلى متى بقيت سجين الفكرة المتسلطة. فلا بد من الاعتراف بأن زهرة التي لم أذكر لك اسمها أبدا هي التي أخرجتني من السجن الكبير.
زهرة! زهرة! لماذا ظهرت لي بعد كل هذه السنين؟ لماذا خرجت من تربتك المجهولة في مقابر الصدقات وعبرت أمام عيني وأنت مشتعلة بالنار وشعرك وثيابك ولحمك يحترق؟ ألم نتفق أن تصبحي زهرة متوهجة في السماء تضيء لي طريق العالم المظلم حتى ألقاك وأتوهج بجوارك إلى الأبد؟ لماذا اخترت هذا الوقت وهذا المكان بالذات؟ أكنت يا حبيبتي تنتظرين عودتي لترمي علي نظرتك المنداة بالحنان والوعود برغم النار التي تلتهمك شيئا فشيئا؟ آه! لماذا ظهرت لي بعد كل هذه السنين؟
اعذرني يا معلمي العزيز - تقول رجعت النوبة القاتلة؟ لا لا، فقد ظهر وجهك الطيب الحبيب ومسح الدموع ومر كالبلسم على الجرح القديم، لكن الجرح الغائر في طبقات الماضي يمكن أن يتحرك فتنز منه الدماء، فاسمح له أن ينزف قليلا ولا تخف علي من الجنون أو الانتحار. •••
Неизвестная страница