ها نحن نمر بنفس الشارع ونرى نفس الفيلل والعمارات والمحلات المضاءة بأنوار النيون، ولا بد أن أحكي لك باختصار ما حدث. كنا جالسين أمام مسلسل في التليفزيون عندما دخل من الباب. لم يدرك أحد غيري مدى ذهوله وغيابه. عينان تائهتان، شعر مهوش، ملامح منطفئة كملامح عجوز يطارده شبح النهاية، واليأس والكمد الفظيع يطل من نظراته وإشاراته وصمته الذي لم يخرج منه. كنت متعودة على نوبات الاكتئاب التي تفاجئه وتفاجئني من حين إلى حين، ولا تتعجب إذا قلت إنها تفاجئنا في مناسبات الفرح والابتهاج أكثر من أي وقت آخر، ولكن ما وجدته أمامي كان شيئا مختلفا: كان الموت نفسه قد ألقى ظلاله السوداء عليه وأخذه في قبضته. سألته ضاحكة عن نزهته الليلية بين الأطلال. نظر إلي في غضب هائل حتى خيل إلي أنه يضمر لي كراهية قاتلة لم يفصح عنها وجهه الطيب قبل ذلك أبدا. وعندما اقتربت منه وعاتبته اعتذر بأنه متعب وليس له نفس للعشاء. أردت أن أغلق الباب لأنفرد به فردني بإشارة عصبية من يده وقال إنه يحس بمغص شديد ويريد أن ينام. تركته يفعل ما يريد وأكملت المسلسل وسط العائلة الصغيرة التي لم تبخل علينا بكرم ضيافتها، وعندما استبد بي القلق ونظرت إلى شقيقه حامد ولمحت على وجهه نفس القلق قمت أبحث عنه. لم يكن في غرفة النوم. طرقت باب الحمام فلم يرد إلا الصدى. أقبل حامد وزوجته وأخذا يضربان الباب بقوة حتى خفت أن ينكسر، وسمعنا من الداخل أصواتا مرتبكة ورنين علب صفيحية وصوت انكسار زجاج على الأرض، وفتح الباب أخيرا وأطل علينا الوجه الممتقع وعليه ابتسامة مغتصبة شاحبة. لا شيء، لا شيء، ألم تسمعوا عن أحد مصاب بالمغص؟ فتشت نظرتي المكان الضيق بسرعة. كل شيء في مكانه. أدوات الحلاقة وزجاجات الشامبو وعلب الدهان والمراهم مضطربة قليلا، لكن لا شيء يثير الريبة، والبشكير الأبيض الكبير ملوي وملقى في البانيو. هل يمكن أن يخطر على باله ...؟ لا لا، ما هذا يا دكتور؟ هل يمكن أن يؤثر مغص بسيط على بطل مثلك؟ نحن متنا من الجوع، تعال إكراما لخاطر الناس إن لم يكن لخاطري ...
أخذت أثرثر فصرخ في وجهي: أرجوك، أرجوك يا لطيفة ... ولم يكمل صيحته التي رنت في سمعي أغرب من أي صيحة سمعتها منه طوال عشرتنا. شد يده على بطنه ودخل حجرة النوم واستلقى على السرير دون أن يخلع ملابسه. •••
لن أطيل عليك، كان من الممكن أن يضيع من أيدينا لولا أن أسرع شقيقه مع ابنه الأكبر بإحضار الطبيب. ماذا أقول عن ارتباكي وذهولي؟ وكيف أصور يأسي وفزعي وخيبة أملي؟ والحيرة التي انقضت علي قبضتها الحديدية كيف أعبر لك عنها؟ لا تنزعجوا. حالة اكتئاب شديد سيزول بإذن الله. مصحوبة بحالة إحساس فظيع بالذنب. هل هذه أول مرة؟ لا لا، إن شاء الله يصبح على خير، المهم لا تتركوه وحده ... ثم همسا لي: أبعدي عنه علب الأسبرين في الحال. فتشي جيوبه وتخلصي منها، لاحظي عدم وجود حبال أو فوط حمام كبيرة في متناول يده، أرجوك، كل شيء ممكن، لا تبعدوا عيونكم عنه، النوبة يمكن أن تعاوده، أنا تحت تصرفكم في أي وقت، افتحوا عيونكم جيدا، كلها ساعات ويرجع لوعيه، البكاء الشديد وربما الهيجان محتمل، تصبحون على خير.
ولم نصبح على خير عشرة أيام. ظل غائبا عن الوعي حتى بعد أن تقيأ كل ما في بطنه، ومع أني لم أغفل عنه لحظة واحدة إلا أنه عاود الكرة بعد ذلك، لا أدري من أين حصل على الأقراص ولا أي شيء ابتلعه حتى رجعت إليه الغيبوبة مرة أخرى وأخذ يهذي ويبكي بكاء لا ينقطع، سبعة أيام بلياليها أشد علينا من السنين العجاف، ذاهل ومصمم على الموت كما لم أره من قبل، لسانه يهذي بكلام لا أعرفه، ترددت فيه كلمة زهرة أكثر من مرة، أرجوك يا مرصد حلوان، أرجوك يا أستاذ علام أن تساعدني، ساعدني أرجوك وأنقذ زوجي وتلميذك المحبوب . لماذا ربطت يداه وساقاه بالسرير؟ لأنه يمكن أن يرمي نفسه في أي لحظة، يمكن أن يغافلنا في أي لحظة، أنت الدواء للجرح الذي لا أعرفه، أسرع يا أستاذ قبل أن يضيع! هل تعلم مدى حجم المسئوليات التي تنتظره؟ هل تعرف أن ثلاثة اجتماعات في الجامعة والأكاديمية ومع الوزير نفسه يمكن أن يتغيب عنها؟ وأولاده الذين ينتظرون في القاهرة؟ هل يمكن أن يصدقوا؟ وأنا؟ ماذا أفعل وكيف أتصرف؟ أرجوك
أفعل يا ربي؟ أرجوك، أرجوك.
2
وقال مدرس العلوم والرياضة العجوز وهو يمسح بشدة على جبهته ليتذكر: دفعتني دفعا في الحنطور فلم أعرف ماذا أقول ولم أفهم شيئا مما يجري. لم أكن قد أفقت تماما من نوم القيلولة ولا فرغت من التهام طبق الفطائر والنقل والفواكه الذي اعتدت أن أتسلى به مع الشاي، وكوب الشاي ظل دافئا يتصاعد منه البخار ولم تمسه يدي المرتعشة بحكم السن والتخمة، وانحشرت بجسدي السمين وكرشي المتورم في الحنطور بجوارها، وملت بأذني ورأسي وكياني كله نحو فمها الذي يتفجر منه شلال الكلمات التي لا أسمع ولا أعي معظمها، حالة اكتئاب فظيعة، ورجل طريح الفراش تستنجد بي زوجته ولا يرد على خاطري إلا كالطيف الشاحب الذي يعبر في الحلم في صمت وهدوء. ماذا تنتظرين مني يا سيدتي ولست طبيبا ولا ساحرا ولا صاحب سلطة من أي نوع، والذاكرة - لو تعلمين - مدينة مهجورة تتصادم الأشباح في خرائبها. آه! ما أثقل عبء الشيخوخة بعد أن تعديت الستين وكدت أن أتم السبعين! وما أحوج الشيخ لراحة البال والجلوس على الكنبة الطرية في انتظار الزائر المحتوم دون طرق مزعج على الأبواب!
التقطت أذني الثقيلة اسمه فلم تستطع الحروف أن تحوله إلى صورة في ذهني. تمهلي يا سيدتي! فالأسماء التي ناديتها في حياتي مع التعليم مئات ومئات، ونفذت في سمعي كلمات العلقة الساخنة على القدمين في حوش المدرسة فعجزت كذلك عن تحديد شكل التلميذ أو صفته، وكيف أستطيع والأقدام التي كانت تشد إلى الفلقة أكثر من تحصى؟ وبدأت الغيوم تنزاح قليلا من سماء ذهني الراكد عندما التقطت كلمة المرصد والمنظار المكبر. تذكرت السطوح في بيتنا القديم والطموح الذي تخليت عنه وتخلى عني من زمن أقدم، ومع تدفق سيل الكلمات والدموع والنشيج من الشلال المتفجر لمعت صورة الولد الشقي الذي ضربته بالسوط ثم احتضنته ورعيته، واتضحت الصورة الضئيلة الباهتة وحركت مشاعري التي بدأت تهتز وتبرز من طبقات الأعماق المظلمة كالمياه الجوفية التي يحركها زلزال مفاجئ، وأحسست بنغزة في قلبي فقلت لنفسي: هي شكة قلب الأب الذي تعاوده ذكرى الابن الضائع الذي خرج من سنين طويلة من الباب ولم يرجع، فما بالي الآن أسمع أن النجم الصغير كما كنت أسميه قد رجع إلى بلده بعد أن سطع كوكبه في سماء الشهرة والعلم العالمي؟
أجل! أجل! ها هو ينفض تراب النسيان وأيام العمر الميتة ويخرج للنور كالخلد النشيط الذي أطل برأسه من الجحر واستقبل شمس الوطن ودفئه وصدر معلمه وأبيه الروحي! أجل هو محمود نجم الذي بدأت صرخاته يوم العلقة المشهود تنداح في بحيرتي الآسنة. لكم تألمت يا ولدي من اللسعات التي حفرت خيوطها الغائرة الدامية على قدميك الصغيرتين وساقيك وفخذك أيضا، ولكم تعبت حتى عالجت التقرحات وطهرتها من آثار الدم والقيح والصديد كما عالجت عقلك الطائش بالنصائح والمواعظ المكررة.
وعرفتك عن قرب وحاولت أن أكون المرفأ الذي يرسو قاربك على شاطئه لينجو من عنف الأمواج التي تعصف بهيكله، والحق أنها كانت عواصف عاتية، وأن قاربك قد تحداها في طيش لا يتوقع من
Неизвестная страница