قال بصوت آمر ندم عليه: لا أكل ولا غيره، هاتي أمي أولا تقعد معانا.
ضحكت أخته وهي تطوح ذراعيها في الهواء: عروسة تقول للبدر قم وأنا أقعد مطرحك، فكر أنت في حالك، مصيرها تفنى أجيال.
تراجع إلى مقعده وهو ينظر شزرا إلى أخيه وزوجته وأولاده المتحلقين حول سحر الصندوق الملعون، ودخلت حارستي علي فوجدتني جالسة على سريري وتعجبت لأن شفتي تتحركان فهتفت صائحة: أمكم رجعت تسبح وتذكر الله يا أولاد، قومي شوفي أولادك وادعي لهم، هاتي يدك، تعالي.
جرجرت لحمي وعظمي والسقف المائل الذي ينهار علي. فاتت على الحمام ورشت وجهي بالماء وجففته بالفوطة وسحبتني من يدي إلى الصالة، وقامت زوجة حازم من مطرحها وطبعت قبلة على خدي وساعدتني على الجلوس، ووضع حازم يده على كتفي وقبلني أيضا وصاح ضاحكا: عود في عين الحسود. ثم وهو يوجه كلامه إلى حمادة الذي أمسك بيدي: والله ورجعت خمسين سنة للوراء، حمادة يريد أيضا أن يقبلك ويقول لك شدي حيلك.
هللت أختهما وهي تتجه إلى المطبخ: دقيقة والشاي يجهز، قوموا اقعدوا على السفرة، طيب طيب، ممكن نفطر هنا، تعالي يا حكمت دقيقتين.
جلست وسطهم أسمع وأفهم ولا أنطق. أطراف الكلمات تتلوى وتتصادم وتتبعثر في ظلامي الأبدي وأعجز عن التلفظ باسمها. يشخطون في العيال ليهدئوا، يقلبون المعالق في الأكواب الزجاجية، يثرثرون كالعادة في كل شيء وأي شيء. في مذبحة الخليل والانفجار الأخير والمرأة التي قطعت زوجها ووضعته مع أبنائها في أكياس وفضائح الرشاوى والهروب من البلاد والفساد والفساد والفساد.
صوت حازم مرتفع وغاضب وهو يصيح بحمادة: يعني لا أمل على الإطلاق؟ معقول هذا يا مستشار اليائسين ؟ وحمادة يؤكد في غضب ويغلق الأبواب: قلت ألف مرة مستحيل، لماذا لا تذهب إلى لندن أو باريس؟ اصرف يا أخي من المال الحلال. يثور حازم ويسب ويلعن وصوته يرتعش برياح الغضب واليأس ويهدد أخاه: خسارة فيك الغربة والتعليم على حساب الدولة، فكرت أنك طبيب بحق وحقيق ... وحمادة يزعق نافد الصبر ويبدو أنه نهض كذلك واقفا وصاح قبل أن يفتح الباب ويرزعه وراءه: قلنا مستحيل مستحيل، هل أنا المسيح عيسى عليه السلام؟ سلام يا أمه، سلام يا نظيرة، إذا احتجت لشيء عندك التليفون، يالله يا أولاد، يالله.
آه يا أولادي، دائما مثل ناكر ونكير، دائما مثل الديوك، تحضران مع زوجاتكما كل يوم جمعة وتتكلمان وتتعاركان وتذهبان، مشغولان دائما يا أولادي والكل عني مشغول، هل يذكر أحد منكم تعبي وشقائي حتى تتربيا وتكملا التعليم؟ هل تذكران أباكما الطيب الصامت على الدوام؟ كان كل مناه أن يراكم تحت عينيه في الغيط والبيت ويغطيكم بالليل وأنتم نيام. حاربت وصممت ووقفت كالقطة التي تعشش على أولادها وتحميهم من الذئاب والكلاب، وضعت القرش على القرش والجنيه على الجنيه وبعت الحلقان والأساور والمباريم لكي تعلوا وتعلوا إلى النجوم، وفي بيتنا القديم كنا مستورين؛ بيتنا الذي جمعنا مع البقرة والجاموسة والحمارين والبط والأوز والحمام والدجاج والديك الأحمر السعيد، وصممتم على بيع البيت بعد وفاة أبيكم وجئتم تعيشون في غابة الأحجار والزحام والضوضاء والغبار والكرب العظيم. الله يبارك فيكم يا أولادي. يبارك فيكم ويسامحكم ويخفف عنكم حملي الثقيل. ما هذا الذي أسمعه؟ هل سمعت صياح الديك؟ كيف أقول لكم الديك يصيح والفجر يوشك على الطلوع. تاهت الحروف في الظلام ومن يقرب الدال من الكاف؟ وتهت على الصراط وأنت بعيد يا ولدي محمود، تعال يا حبيبي وخذ بيدي حتى لا أسقط في الجحيم. ألم تسمع يا ولدي صيحته، صيحة الديك الأحمر السعيد؟
4
لولا صيحة الديك في بيت الجيران لابتلعني الكابوس. لف ملاءته السوداء علي أثناء وجود الأولاد فأغمضت جفوني وغبت عنهم وعن نفسي. وحين فتحت عيني على ظلامي الأبدي كان لا يزال يلفني ويعصرني ويضغط على كل أعضائي، السكون يطوقني ولا أسمع صوتا من حولي، وابنتي وحارستي تجلس في الشرفة أو ربما أمام الصندوق الملعون الذي تطفح منه سيول الكلمات والدقات والضحكات والصرخات. القطة تأكل أولادها إذا جاعت أو خافت على ضعفهم من قسوة الحياة، أما أن يأكل الأولاد القطة فهذا هو الذي رأيته في الكابوس. كانوا ممددين من حولي وأفواههم الصغيرة النهمة تشفط من ضروعي التي التهبت حلماتها كالجمر ونزفت منها الدماء، والقطة تتلوى وتنفض جسدها ورأسها ويشلها العجز عن إبعادهم عنها. لم يشبعوا أبدا فراحوا ينشبون مخالبهم في بطنها وصدرها ويدفنون أفواههم الشرهة في الجروح المفتوحة. لم يشبعوا أيضا فبدءوا يجربون أسنانهم الصغيرة التي تحولت إلى أنياب حادة تنهش الجسد الذي ظل دافئا بعد أن فارقه السر الإلهي، وبرغم عماي رأيت القطة واقتربت من رأسها ونظرت كأني أنظر في مرآة وصرخت: هي رأسك يا عالية، وهذا هو شعرك وأنفك وفمك المفتوح من الألم، القطة هي أنت يا عالية والجسد المشوه الملوث بالدم والقروح هو جسدك. مع أنك يا عالية لا تبصرين ولا تدرين ولا تنطقين ولا تملكين الخروج من عتمة الكابوس. لولا صيحة الديك، نعم هي نفس الصيحة وإن لم يكن هو نفس الديك ... رنت كالجرس فبدد صليلها جيوش العتمة وطارد الفجر الذي طلع منه فلول الكابوس، ووجدتني فجأة أنزل من الحنطور وأدخل من باب البيت الذي ولدت فيه. كانت عيني قد رفت وقلبي قد انقبض خوفا على أمي التي رجعت من مصر قبل أسبوع. قلت أخطف رجلي وأطمئن عليها وعلى أبي فلا يعلم الموت من الحياة إلا علام الغيوب، ووالله لولا الحمل الثقيل ما تركتك يا أمي أبدا ولا تأخرت عن خدمتك ولا ابتعدت لحظة عن سريرك الذي ترقدين عليه.
Неизвестная страница