الظاهر أن الدموع كانت لا تزال في عيني أو على خدي عندما سمعتهم يقتربون من الباب. ابنتي وحارستي فتحته عنوة فارتطم بباب السرير المعدني ودوت الفرقعة التي رجت زجاج النافذة وارتجت لها جدران حجرتي أو تربتي الضيقة المظلمة، وارتفع صياح ابنتي الذي نفذت سكاكينه الحادة في أذني، مع أنها تعلم تمام العلم أنني أسمع وأفهم: قومي كفاية نوم، حضرة الدكتور حضر بنفسه للكشف عليك.
ثم وهي تشد الستارة الثقيلة وتفتح الشيش على مصراعيه فتنهمر سيول الضوء الذي حرمت من رؤيته وإن لم أحرم من الإحساس بجناحه الكبير الشفاف يرف علي وفوقي وحولي كالروح تسري في كل مكان ولا يرى لها وجه ولا يسمع خطو: ابنك الدكتور حمادة الله يبارك له وصاه عليك. الرجل الطيب لم يتأخر، يالله اعملي لك همة، الدكتور مشاغله كتيرة.
جاء صوت الطبيب المطمئن الهادئ كأنه ترتيل شيخ يؤم المصلين: ألف سلامة يا حاجة، الصحة عال والحمد لله، أحسن من آخر مرة بكتير.
هللت ابنتي وحارستي وهي تضحك بصوت عال: مثل الحصان يا دكتور، تاكل الجمل مع الجمال، وتسمع وتفهم ولكن ...
قاطعها الطبيب وهو يفتح حقيبته ويستخرج بيده السماعة والأجهزة التي وضعها من قبل على صدري وظهري ومعصمي ودماغي: لكن الكلام مقطوع، المنطقة المسئولة كما قلت لكم فسدت خلاياها، ربما تساعد الأدوية في تنبيه الذاكرة، وربما ...
قالت ابنتي مسرعة: أحيانا تنطق كلمة أو كلمتين، وأحيانا أسمعها تتشهد على نفسها وتذكر اسم الله.
قال الطبيب وهو يمر بالسماعة على ظهري الذي كشفت عنه ابنتي بعنف وسرعة شديدين: وطبعا اسم الدكتور حمادة وحازم بيه.
ردت في أسف كأنها تكتم البكاء: لا والله يا دكتور، حتى اسم أولادها يغيب عنها. أذكرها به فتقول فجأة: وهل أنا تائهة عن أولادي؟
ويقول الطبيب وهو يواصل الفحص الدقيق: ثم تتوه من جديد وتعجز عن النطق بكلمة واحدة.
وترد ابنتي: تمام يا دكتور، كأنك معنا والله.
Неизвестная страница