فيك ناغينا الهوى في مهده
ورضعناه فكنت المرضعا
قد يهون العمر إلا ساعة
وتهون الأرض إلا موضعا
أراك تضحك يا عزيز، ألم تكن هذه أحجارا من هرم المجد الذي تربعت عليه بفضلك أنت؟ ودوري في النسر الصغير؟ ألم تكن أنت الذي جعلت الناس يسمونني سارة برنار الشرق بعد أن تفوقت في تمثيله إلى حد الإعجاز؟ وهل يمكن أن أنسى المونولوج الذي كنت ألقيه كل ليلة وأنا أرتدي ثياب الإمبراطور الذي أطلقوا عليه لقب النسر الصغير؟ أتوجه كل ليلة إلى مقدمة المسرح وأقول بل أنشد وأنا أحرك ذراعي إلى أعلى وأسفل: إمبراطور أنا ... ما أبهج الليل! أنا في العشرين من عمري وأعتلي العرش. رباه! ما أجمل أن أكون في العشرين وأكون ابن نابليون الأول! أيها الشعب! لقد كذبوا عليك طويلا فلا تخف أن أكون غير أمين. وأنت أيتها الحرية! لا تخافي من أمير كان رهن السجون.
أسمعك تصفق إعجابا يا عزيز وتذكرني بآلاف المتفرجين الذين كانوا يحرقون أكفهم كل ليلة من شدة التصفيق. تقول إنني أبكي؟ ألا أبكي معك على نفسي وعليك؟ ألم توصني دائما بأن أقبض على الجمر كما كنت تفعل طوال عمرك: المسألة ليست جمع أموال يا فاطمة، لكنها رسالة عظمى يجب تأديتها مهما كانت التضحية. كم عاهدت نفسك وعلمتني أن أعاهد نفسي على ضرورة القيام بواجبنا الأسمى، واجبنا في تعريف الجمهور بالفن الحقيقي والمسرح العالمي كما أبدعه كبار الكتاب والشعراء من الإغريق وشكسبير وفيكتور هيجو وإدمون روستان وألكسندر دوما وغيرهم وغيرهم حتى أميرنا وأمير الشعراء شوقي بك. بقينا نقبض على الجمر حتى أفلسنا واضطررنا للتجول في المغرب العربي وبلاد الشام وفلسطين وفي الأقاليم؛ في الدلتا والصعيد، وكم شقيت أنت وقبلت أدوارا لا تليق بك في روايات الفودفيل وحتى في كازينو ببا عز الدين، وكم تعذبت لعذابك وأنا أحس أن الجمر الذي تقبض عليه يكاد أن يجعلنا جثثا متفحمة. هل تذكر يا عزيز ماذا قال لك الريحاني بعد أن تزوجنا وواصلنا أداء رسالتنا؟ أكاد الآن أسمع صوته الأجش وهو يقول لك بخفة ظل لا تنسى: ما ذنب فاطمة يا أخي لكي تلقي بها في أتون عبقريتك؟ لماذا لا تمثلون الكوميديات والفودفيل الذي برعت فيه أيام شبابك؟ ما ذنبها هذه البنت المسكينة؟
وها أنا أسمعك ترد عليه في غضب: هل تريد مني أن أكون مهرجا؟! ويقول لك الريحاني: ألم تفكر في الزمن وغدره؟ وأراك أمامي الآن وأنت تنظر إليه صامتا وتضم يدك اليمنى كما هي عادتك في مثل هذا الموقف بكل قوة وعصبية ... وقلبتنا الأيام - كما فعلت معنا أيام الشباب الباكر - ودارت بنا من مسرح إلى آخر ومن فرقة إلى أخرى، كنا قد انفصلنا بعد زواج قصير لكنك بقيت وفيا وملازما لي - تعلمني، وتلقنني، وتختار لي أعمالي الأخيرة وتتولى إخراجها. كسبنا الألوف وخسرنا الألوف، وعندما يئسنا تماما رحت أتابعك وأنت تتعذب وتتجول في الأقاليم ببعض المسرحيات الفكاهية أو تعيش على الترجمة والاقتباس والإخراج - واتجهت أنا، بعد أن اشتد عليك المرض، إلى السينما حتى لا أموت جوعا، وهل أذكرك بتجربتنا الأليمة مع الفرقة القومية؟ فصلوك منها بسبب الوشايات والصغائر، ثم استقلت أنا أيضا وأعيش الآن - لحسن الحظ أو نكده - على معاشي الهزيل منها. آه يا عزيز! يا من حميتني من ذلك المعجب المتيم الذي عرض على أمي مؤخر صداق بلغ أربعة آلاف جنيه، ووعدني بالعيش في قصر بالزمالك، أنقذتني منه فمشيت بجانبك وتبعت خطواتك وتمسكت بالفن الحقيقي والمعرفة الحقيقية، وكم تذكرت عبارتك التي ظللت ترددها حتى وأنت على فراش الموت. هل تتذكرها أم أذكرك بها؟ «إنني رجل كبير الأمل. لا أخشى أن يقتلني ذلك الخيال الذي تراه عيناي في كل ساعة. إني على ثقة من خروجي من كل ذلك صفر اليدين لا أملك أبيض ولا أسود، لكني أريد أن ترى عيناي - قبل أن يغمض الموت أجفاني - ذلك الخيال وقد تحقق، ولا يهمني بعد ذلك أن يراني الناس على فراش موتي فقيرا بائسا لا أملك ما أسد به رمقي ...» وتبتسم يا عزيز وأنت تضع يدك اليسرى - كما هي عادتك - على جبهتك ورأسك، وتضم يدك اليمني بشدة كأنها قبضة من حديد، ثم تقول: وخرجت يا فاطمة من الدنيا وأنا لا أملك أبيض ولا أسود ولا تحقق الخيال الذي كنت أراه في كل ساعة. لمست ركبتك ومسحت بيدي على رأسك وقلت: كم عز علي أن أتركك وتتركني بغير وداع. لكن ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ زوجتك السابقة وتلميذتك كانت مفلسة يطاردها شبح الجوع، تعذبت كثيرا في مرضك الأخير ... تبتسم مرة أخرى وتقول: كانت حلقة من سلسلة العذاب الطويلة. ما أهمية ذلك؟ المهم أن يدي هذه ظلت مضمومة كما عهدتها ولم تستسلم حتى اللحظة الأخيرة. ضمي يدك أنت أيضا يا فاطمة. أم تريدين أن أتركك وأذهب وأنت لم تتعلمي شيئا مما لقنتك إياه؟ الوداع، الوداع يا فاطمة. صحت بك: أرجوك يا عزيز، لا تتركني، أنا محتاجة إليك كما كنت على الدوام، لا تتركني فريسة لكلاب الغدر والشماتة والتجاهل تنهش لحمي حتى العظم. قلت وأنت تنهض من على الكنبة التي شهدت حديثنا وذكرياتنا: أنا الآن تراب وعظام في مقبرة التاريخ، ذكرى فكرة مدفونة في ضمير الماضي، عليك أنت وجيلك أن تنفضوا عنها الرماد وتحيوها في المستقبل. أليس كذلك يا فاطمة؟ أليس كذلك؟ لم ينفع الصياح والبكاء. صحوت وأنا أنادي عليك: أتوسل إليك يا عزيز، لا تتركني! لا تتركني وحدي مع العقارب والكلاب والثعالب والأفاعي. قلت وأنت تستدير وتمضي نحو الحائط وترجع إلى الصورة داخل الإطار: مثلي لا يترك ولا يذهب، والفكرة التي تحيا من الأزل إلى الأبد لا تذهب ولا تجيء، المهم ألا تتخلوا أنتم عنها، الوداع يا فاطمة، الوداع!
ووقفت أمام المرآة لا أصدق أنه كان حلما، هل يمكن أن يكون كل هذا الحضور مجرد حلم أو كابوس؟ رأيت في المرآة كم أصبحت شبحا، والتفت خلفي وتقدمت من صورتك وأنا أناجيك: كيف غافلتني يا عزيز ورجعت إلى ما كنت: مجرد رسم في إطار على حائط في غرفة بائسة في فندق حقير؟ هل يرضيك حالي الآن؟ أمشي في الشوارع فيشير إلي البوابون والمتسكعون والجالسون على أرصفة المقاهي وحتى الشحاذون والمتسولون؛ يشيرون في حزن أو في سخرية وكأنهم يقولون كلمات أسمعها واضحة: انظروا إلى ملكة التمثيل العربي! سارة برنار الشرق التي أصبحت شريدة ومجنونة. سبحانه مغير الأحوال! الدنيا انقلبت عليها وعلى المسرح وسبحانه، سبحان من يستطيع وحده أن يحيي العظام وهي رميم. والمرمطة يا عزيز بين مكاتب المحافظة بحثا عن شقة صغيرة تستر عظامي في آخر أيامي، والبهدلة بحثا عن الدواء غالي الثمن لصدري وعيني والصداع المزمن ... لا تتركني وحيدة يا عزيز. لم يبق لي الآن غيرك. زرني في الحلم أو في الكابوس. مد يدك المضمومة على الدوام وخذ بيدي. علمني كما فعلت طول العمر وواصل تعليمي وتلقيني. يا معلمي وأستاذي وزوجي واصل تعليمي وتلقيني. ماذا؟ ما هذا الصوت الذي أسمعه؟ هذا الصوت الأجش العميق الذي يهبط من أعلى ويحيط بي ويحاصرني ويمتد نغمه المخيف الحنون لينتشلني من السقوط في الهاوية؟ أيها الصوت! تكلم. كرر علي ما قلت بنبراتك الغامضة المحفوفة بالأسرار: يا ملكة التمثيل العربي! يا من كنت في حياتك كالإله رع للمصريين القدماء! تربعي على عرش أمجادك! اجلسي فوق هرم ماضيك الحاضر المتجدد بجهدك أنت والأجيال القادمة، المهم يا فاطمة ... أصرخ مستغيثة بالصوت وصاحبه: ماذا؟ ما هو المهم الآن؟ فيرتفع الصوت ويعلو ويلفني كسحابة ناعمة معطرة: المهم أن تضمي يدك أنت وأمثالك وتقبضي على الجمر! اقبضي عليه حتى النهاية يا فاطمة! أقول وأنا أترنح دائخة نحو الكنبة التي كنت تجلس عليها: نعم! نعم! سأقبض عليه! سأقبض عليه حتى النهاية!
1
الزرقاء تحتضر
Неизвестная страница