Ахваль аль-Мухтадар
أحوال المحتضر
Издатель
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Номер издания
السنة ٣٦ العدد ١٢٤
Год публикации
١٤٢٤هـ.
Жанры
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد..
فإن معرفة الاحتضار ودراسة أحوال المحتضر، الثابتة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، من أصول الإيمان عند أهل السنة والجماعة، التي بمعرفتها والإيمان بها يحصل صلاح الباطن المترتب عليه صلاح الظاهر واستقامة السلوك، وقد لحظت خلو المكتبة الإسلامية من كتاب يحقق أحوال المحتضر، فيثبت ما ثبت في النصوص الشرعية، ويترك ما لم يثبت في مصدري التلقي، فلم تفرد - حسب علمي - أحوال المحتضر، مع أهميتها العقدية والشرعية، في كتابة مستقلة محققة، وإنما وجدت منثورة في بعض الكتب التي تحدثت عن الموت واليوم الآخر، ودون تحقيق وتمحيص، يثبت ما أثبته الشارع من تلك الأحوال، ويستبعد ما يذكره بعض الوعاظ والقصاص من الأمور التي ليس لها سند من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ؛ ولذا عقدت العزم على جمع مسائل هذا الأمر العظيم، وتحقيقها، إسهامًا في نشر عقيدة أهل السنة والجماعة، وزيادة في نشر العلم الشرعي، وعظة وعبرة لأولي الألباب.
وقد بدأت هذا البحث بمقدمة ذكرت فيها أهمية الموضوع وأسباب اختياره إجمالًا، ثم كتبت تمهيدًا عرفت فيه بألفاظ الاحتضار والموت والوفاة، وبينت فيه أن الموت حق لازم لكل مخلوق.
وبعد ذلك قسّمت البحث إلى عشرة مباحث.
تحدثت في المبحث الأول عن سكرات الموت وغمراته، وجعلته في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في تعريف السكرات والغمرات.
المطلب الثاني: في الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت وأقوال بعض أهل العلم في ذلك.
1 / 69
المطلب الثالث: بيان أن سكرات الموت تحصل لكل المخلوقات، وأنها تختلف في درجة الإحساس بها.
المبحث الثاني: تحدثت فيه عن وصف حال توفي الملائكة الكفار.
المبحث الثالث: كتبت فيه عن حضور الملائكة مع ملك الموت لقبض الروح وتبشيرهم المحتضر، وفيه ثلاثة مطالب.
المطلب الأول: ذكرت فيه أن مع ملك الموت ملائكة يعاونونه في قبض الروح.
المطلب الثاني: بيان بشارة الملائكة المؤمن برضوان الله ورحمته، وفرحه بذلك.
المطلب الثالث: بيان بشارة الملائكة الكافر بالعذاب.
المبحث الرابع: تحدثت فيه عن انقطاع التوبة بحضور الموت.
المبحث الخامس: بينت فيه أن العبد يطلب الرجعة إلى الدنيا عند الاحتضار.
المبحث السادس: تكلمت فيه عن حضور الشيطان عند العبد لإغوائه عند الاحتضار.
المبحث السابع: ذكرت فيه مشروعية تلقين المحتضر: لا إله إلا الله وقول الخير عنده.
المبحث الثامن: تحدثت فيه عن وجوب إحسان الظن بالله تعالى وبخاصة عند الموت.
المبحث التاسع: تحدثت فيه عن تخيير الأنبياء بين الحياة والموت.
المبحث العاشر: بينت فيه أن الأعمال بالخواتيم، وفيه ثلاثة مطالب.
المطلب الأول: الأدلة على أن الأعمال بالخواتيم.
المطلب الثاني: حسن الخاتمة وأبرز علاماتها.
المطلب الثالث: سوء الخاتمة وأبرز أسبابها.
ثم ختمت هذا البحث بخاتمة ذكرت فيها خلاصته وأهم فوائده إجمالًا.
أسال الله إخلاص النية وصلاح العمل
1 / 70
التمهيد
١- تعريف الاحتضار ـ الموت - الوفاة.
٢- الموت حق لازم لكل مخلوق.
تعريف الاحتضار:
الحضور: نقيض المغيب والغيبة، يقال: حَضَر الرجل يَحْضُرُ حُضُورًا وحِضَارة، ويعدّى فيقال: حَضَرَه، يَحْضُرُهُ، وأحْضَرَ الشيء وأَحْضَرَه إياه، وكان ذلك بِحَضْرَةِ فلان وحِضْرَته وحُضْرَتِهِ، وحَضَرِه ومَحْضَرِه، وكلّمته بِحَضْرَةِ فُلان وبمَحْضَرٍ منه، أي بمشهد منه.
وحَضْرَةُ الرجل: قُرْبه وفِناؤه، والحَضْرة: قرب الشيء، يقال: أُكْرِم فلانُ بِحَضْرة فلان وبمَحْضَرِه، ويقال: حَضَرَت الصَلاة.
ورجل حَضِرٌ وحَضُرٌ: يتحيّن طعام الناس حتى يَحْضُرَه، تقول العرب: اللبن مُحْتضِرٌ ومَحْضُوْرٌ فَغَطِّه: أي كثير الآفة، يعني يحتضره الجنّ والدواب وغيرها.
وقوله تعالى: ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ ١ أي: أعوذ بك من حضور الشياطين في شيء من أمري٢.
وحضره الهمُّ واحْتضره وتَحَضّرَه إذا نزل به.
وحُضِر المريض واحْتُضِرَ إذا نزل به الموت٣.
نخلص مما سبق إلى أن الاحتضار هو حضور الموت ونزوله بالعبد.
_________
١ سورة (المؤمنون)، الآية ٩٨.
٢ انظر تفسير القرآن العظيم ٣/٢٤٧.
٣ انظر لسان العرب ١/٦٥٨، ٦٥٩.
1 / 71
يستوفي مُدَد آجالهم في الدنيا، وقيل يستوفي تمام عددهم إلى يوم القيامة١.
الموت حق لازم لكل مخلوق:
حضور الموت ووقوعه حق لازم لكل مخلوق؛ لقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ٢، وقوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ﴾ ٣ وقوله سبحانه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ ٤، وخاطب الله تعالى محمدًا ﷺ بقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ ٥، وقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ ٦، وعن ابن عباس ﵄ أن النبي ﷺ قال”أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون”٧.
وللموت وقت محدود عند الله تعالى لا يستطيع أحد من المخلوقات مجاوزته، فإنه مدركه لا محالة، وملاقيه أين كان، قال تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ ٨، وقال جل وعلا: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ ٩، وقال سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا
_________
١ انظر لسان العرب ٣/٩٦٠، ٩٦١.
٢ سورة القصص، الآية ٨٨.
٣ سورة الرحمن، الآيتان ٢٦ وَ٢٧.
٤ سورة آل عمران، الآية ١٨٥.
٥ سورة الزمر، الآية ٣٠.
٦ سورة الأنبياء، الآية ٣٤.
٧ رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب (٧) ح ٧٣٨٣.
٨ سورة آل عمران، الآية ١٤٥.
٩ سورة النساء، الآية ٧٧.
1 / 72
يستوفي مُدَد آجالهم في الدنيا، وقيل يستوفي تمام عددهم إلى يوم القيامة١.
_________
١ انظر لسان العرب ٣/٩٦٠، ٩٦١.
الموت حق لازم لكل مخلوق: حضور الموت ووقوعه حق لازم لكل مخلوق؛ لقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ٢، وقوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ﴾ ٣ وقوله سبحانه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ ٤، وخاطب الله تعالى محمدًا ﷺ بقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ ٥، وقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ ٦، وعن ابن عباس ﵄ أن النبي ﷺ قال”أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون”٧. وللموت وقت محدود عند الله تعالى لا يستطيع أحد من المخلوقات مجاوزته، فإنه مدركه لا محالة، وملاقيه أين كان، قال تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ ٨، وقال جل وعلا: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ ٩، وقال سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ _________ ١ انظر لسان العرب ٣/٩٦٠، ٩٦١. ٢ سورة القصص، الآية ٨٨. ٣ سورة الرحمن، الآيتان ٢٦ وَ٢٧. ٤ سورة آل عمران، الآية ١٨٥. ٥ سورة الزمر، الآية ٣٠. ٦ سورة الأنبياء، الآية ٣٤. ٧ رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب (٧) ح ٧٣٨٣. ٨ سورة آل عمران، الآية ١٤٥. ٩ سورة النساء، الآية ٧٧.
الموت حق لازم لكل مخلوق: حضور الموت ووقوعه حق لازم لكل مخلوق؛ لقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ٢، وقوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ﴾ ٣ وقوله سبحانه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ ٤، وخاطب الله تعالى محمدًا ﷺ بقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ ٥، وقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ ٦، وعن ابن عباس ﵄ أن النبي ﷺ قال”أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون”٧. وللموت وقت محدود عند الله تعالى لا يستطيع أحد من المخلوقات مجاوزته، فإنه مدركه لا محالة، وملاقيه أين كان، قال تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ ٨، وقال جل وعلا: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ ٩، وقال سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ _________ ١ انظر لسان العرب ٣/٩٦٠، ٩٦١. ٢ سورة القصص، الآية ٨٨. ٣ سورة الرحمن، الآيتان ٢٦ وَ٢٧. ٤ سورة آل عمران، الآية ١٨٥. ٥ سورة الزمر، الآية ٣٠. ٦ سورة الأنبياء، الآية ٣٤. ٧ رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب (٧) ح ٧٣٨٣. ٨ سورة آل عمران، الآية ١٤٥. ٩ سورة النساء، الآية ٧٧.
1 / 73
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ ١، وقال: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم﴾ ٢، ونحو ذلك من الآيات.
نعم إن كل نفس ميتة، والسعيد الفائز من زحزح عن النار وأدخل الجنة، وأنت يا عبد الله “في وقت بين الوقتين، وهو في الحقيقة عمرك، وهو وقتك الحاضر بين ما مضى وما يستقبل، فالذي مضى تصلحه بالتوبة والندم والاستغفار، وذلك شيء لا تعب عليك فيه ولا نصب، ولا معاناة عمل شاق، وإنما هو عمل قلب، وتمتنع فيما يستقبل من الذنوب، وامتناعك ترك وراحة، ليس هو عملًا بالجوارح يشق عليك معاناته، وإنما هو عزم ونية جازمة، تريح بدنك وقلبك وسرك، فما مضى تصلحه بالتوبة، وما يستقبل تصلحه بالامتناع والعزم والنية، وليس للجوارح في هذين نصب ولا تعب، ولكن الشأن في عمرك وهو وقتك الذي بين الوقتين؛ فإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك، وإن حفظته مع إصلاح الوقتين اللذين قبله وبعده بما ذكر نجوت وفزت بالراحة واللذة والنعيم، وحفظه أشق من إصلاح ما قبله وما بعده، فإن حفظه أن تلزم نفسك بما هو أولى بها وأنفع لها وأعظم تحصيلًا لسعادتها، وفي هذا تفاوت الناس أعظم التفاوت، فهي والله أيامك الخالية التي تجمع فيها الزاد لمعادك، إما إلى الجنة وإما إلى النار؛ فإن اتخذت إليها سبيلًا إلى ربك بلغت السعادة العظمى، والفوز الأكبر في هذه المدة اليسيرة، التي لا نسبة لها إلى الأبد، وإن آثرت الشهوات والراحات واللهو واللعب، انقضت عنك بسرعة، وأعقبتك الألم العظيم الدائم، الذي مقاساته ومعاناته أشق وأصعب وأدوم من معاناة الصبر عن محارم الله، والصبر على طاعته، ومخالفة الهوى لأجله”٣
_________
١ سورة الأعراف، الآية ٣٤.
٢ سورة الجمعة، الآية ٨.
٣ كتاب الفوائد ص١١٦، ١١٧
1 / 74
المبحث الأول: سكرات الموت وغمراته
المطلب الأول: تعريف السكرات والغمرات
أولا. تعريف السكرات:
السكرات جمع سَكْرة، مأخوذة من الفعل سَكِرَ يَسْكَرُ سُكْرًا وسُكُرًا وسَكْرًا وسَكِرًا وسَكَرَانًا فهو سَكِرٌ وسَكْرانُ، والأنثى سَكِرَةٌ وسَكْرَى وسَكْرَانةٌ، والجمع سُكَارَى وسَكَارَى وسَكْرَى.
والسَّكْرَانُ: خلاف الصاحي، والسُّكْرُ: نقيض الصَّحْوِ، وقولهم: ذهب بين الصحوة والسكرة إنما هو بين أن يعقل ولا يعقل.
وسكرة الموت: شدّته، وسكرة الميت غشيته التي تدل الإنسان على أنه ميّت١. قال الراغب الأصفهاني ت ٥٠٢؟:
“السكر حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل في الشراب المسكر، ويطلق في الغضب والعشق والألم والنعاس، والغشي الناشئ عن الألم وهو المراد هنا”٢.
فالمراد بالسكرات، إذن، شدائد الموت وأهواله وكربه التي تصيب المحتضر، بسبب نزع الروح.
ثانيا. تعريف الغمرات
الغمرات جمع غَمْرَة، وهي الشدة، وغَمْرةُ كل شيء: مُنْهَمَكه وشدّته، كغمرة الهم والموت ونحوهما، وغَمَراتُ الحرب والموت وغِمَارُها: شدائدها.
وأصل الغَمْر: الماء الكثير، يقال: ماء غَمْر، أي: كثيرٌ مُغرِّق بيّن الغُمورة،
_________
١ انظر لسان العرب ٢/١٧٠، ١٧١.
٢ انظر مفردات القرآن ص٢٣٦، وفتح الباري شرح صحيح البخاري ١١/٣٦٢.
1 / 75
وغَمَره الماء يَغْمُرُهُ غَمْرًا واغتمره: علاه وغطاه، ومنه قيل للرجل: غَمَرَه القوم يَغْمُرونه إذا علوه شرفًا، وجيش يغتمر كل شيء: يغطيه ويستغرقه١.
قال الطبري ت٣١٠؟: “والغمرات جمع غمرة، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه، وأصله الشيء الذي يغمر الأشياء، فيغطيها”٢.
وغمرات الموت سكراته التي تغمر المحتضر، أي تغطي عقله وتستره، فيصاب بالغمرة والإغماء٣.
_________
١ انظر لسان العرب ٢/١٠١٣، ١٠١٤.
٢ جامع البيان في تفسير القرآن ٧/١٨٢، ١٨٣.
٣ انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص٦٧٨.
المطلب الثاني: الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت أولا: الأدلة من كتاب الله تعالى: ذكر الله ﷾ في كتابه الكريم، القرآن العظيم، سكرات الموت وشدائده في أكثر من آية، منها: ١- قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ ١. قال الطبري في تفسير هذه الآية: “يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ ولو ترى يا محمد حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين ...، فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت، ونزل بهم أمر الله، وحان فناء آجالهم ...، والغمرات جمع غمرة، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه”٢، ثم روى عن ابن عباس في قوله _________ ١ سورة الأنعام، الآية ٩٣ ٢ جامع البيان في تفسير القرآن ٧/١٨٢.
المطلب الثاني: الأدلة من الكتاب والسنة على سكرات الموت أولا: الأدلة من كتاب الله تعالى: ذكر الله ﷾ في كتابه الكريم، القرآن العظيم، سكرات الموت وشدائده في أكثر من آية، منها: ١- قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ ١. قال الطبري في تفسير هذه الآية: “يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ ولو ترى يا محمد حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين ...، فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت، ونزل بهم أمر الله، وحان فناء آجالهم ...، والغمرات جمع غمرة، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه”٢، ثم روى عن ابن عباس في قوله _________ ١ سورة الأنعام، الآية ٩٣ ٢ جامع البيان في تفسير القرآن ٧/١٨٢.
1 / 76
تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ . أنه قال: سكرات الموت١.
يقول السعدي ت ١٣٧٦؟:
“ولما ذم الظالمين ذكر ما أعد لهم من العقوبة حال الاحتضار، ويوم القيامة فقال: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ أي: شدائده وأهواله الفظيعة، وكربه الشنيعة، لرأيت أمرًا هائلًا، وحالة لا يقدر الواصف أن يصفها، ﴿وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب ... ”٢.
٢- قوله تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ ٣.
٣- وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ ٤.
فقوله تعالى في الآية الأولى ﴿رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْت﴾ يعني ينظرون إليك يا محمد ﷺ تدور أعينهم خوفًا من القتل وفرارًا منه كالذي يغشى عليه من الموت، أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت النازل به وما يعانيه من سكرات وكرب٥.
_________
١ المصدر السابق ص١٨٣.
٢ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص٢٢٧.
٣ سورة الأحزاب، الآيتان ١٨، ١٩.
٤ سورة محمد، الآيتان ٢٠، ٢١.
٥ انظر جامع البيان في تفسير القرآن ٢١/٨٩.
1 / 77
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ت٧٢٨هـ: “من شدة الرعب الذي في قلوبهم يشبهون المغمى عليه وقت النزع؛ فإنه يخاف ويذهل عقله، ويشخص بصره، ولا يطرف، فكذلك هؤلاء؛ لأنهم يخافون القتل”١.
٤- قوله تعالى ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ ٢.
والمراد بسكرة الموت شدته وغمرته وغلبته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله، ومعنى (بالحق) أي من أمر الآخرة، فتبينه الإنسان حتى تثبته وعرفه، بمعنى أنه عند الموت يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث، والوعد والوعيد، وقيل الحق هو الموت، فيكون المعنى: وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت، كما قرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ ”٣.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “.. ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ أي جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب، وهو الحق الذي أخبرت به الرسل، ليس مراده أنها جاءت بالحق الذي هو الموت؛ فإن هذا مشهور لم ينازع فيه، ولم يقل أحد: إن الموت باطل حتى يقال جاءت بالحق”٤.
٥- قوله تعالى: ﴿فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ. فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ٥. هذا دليل على سكرات الموت٦؛ فإن الله ﷾ يقول: مهلًا إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجسادكم، أيها الناس، حلاقيكم، ومن حضرهم
_________
١ مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ٢٨/٤٥٦.
٢ سورة ق، الآية ١٩.
٣ انظر جامع البيان في تفسير القرآن ٢٦/١٠٠، ١٠١، وفتح القدير ٥/٧٥.
٤ مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ٤/٢٦٥.
٥ سورة الواقعة، الآية ٨٣- ٨٧.
٦ انظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ١/٤١.
1 / 78
منكم من أهليهم حينئذ إليهم ينظر، ونحن أقرب إليه بالعلم والقدرة والرؤية منكم، ورسلنا الذي يقبضون روحه أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فلولا إن كنتم غير مربوبين ومملوكين وغير مجزيين ترجعون تلك النفوس التي بلغت الحلقوم عند سكرات الموت إلى مقرها الذي كانت فيه، إن كنتم صادقين بأنكم غير مربوبين ولا مجزيين، ولن ترجعونها فبطل زعمكم١.
قال ابن كثير ت٧٧٤هـ في تفسير هذه الآيات:
يقول تعالى ﴿فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ﴾ أي الروح ﴿الْحُلْقُومَ﴾ أي الحلق، وذلك حين الاحتضار، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ. وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾؛ ولهذا قال ههنا ﴿وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ﴾ أي إلى المحتضر، وما يكابده من سكرات الموت ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ﴾ أي بملائكتنا ﴿وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾ أي ولكن لا ترونهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ ٢، وقوله تعالى: ﴿فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ معناه فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرها من الجسد، إن كنتم غير مدينين”٣.
٦- وقد روى ابن كثير ت٧٧٤هـ عن جماعة من السلف أن المراد بقوله تعالى ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾ ٤: الملائكة حين تنْزع أرواح بني آدم، فمنهم من تؤخذ روحه بعسر، فتغرق في نزعها، ومنهم من
_________
١ انظر جامع البيان في تفسير القرآن ٢٧/١٢٠، ١٢١، ومعالم التزيل ٤/٢٩٠، ٢٩١.
٢ سورة الأنعام، الآيتان ٦١، ٦٢.
٣ تفسير القرآن العظيم ٤/٣٠١.
٤ سورة النازعات، الآيتان ١ وَ٢.
1 / 79
تؤخذ روحه بسهولة، وكأنما حلته من نشاط١.
وقال ابن تيمية ت٧٢٨هـ: “وأما ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ فهي الملائكة القابضة للأرواح، وهذا يتضمن الجزاء، وهو من أعظم المقسم عليه”٢.
وقال البغوي ت٥١٦هـ: “ ... ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾: يعني الملائكة تنْزع أرواح الكفار من أجسادهم، كما يغرق النازع في القوس، فيبلغ بها غاية المدّ، وقال ابن مسعود: ينْزعها ملك الموت من تحت كل شعرة ومن الأظافر وأصول القدمين، ويرددها في جسده بعدما ينْزعها حتى إذا كادت تخرج ردها في جسده بعدما ينْزعها، فهذا عمله بالكفار ...، ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾ هي الملائكة تنشط نفس المؤمن، أي تحل حلًا رفيقًا فتقبضها، كما ينشط العقال من يد البعير، أي يحل برفق”٣، وروي في تفسيرها غير ذلك٤.
٧- قوله تعالى ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ. وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ. وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ ٥.
دلت هذه الآية على سكرة الموت؛ فقوله ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ﴾ أي النفس
﴿التَّرَاقِيَ﴾ فحشرج بها عند سكرات الموت، والتراقي جمع الترقوة، وهي العظام بين ثغرة النحر والعاتق، فدل ذلك على الإشراف على الموت، ﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ أي: قال من حضره هل من طبيب يرقيه ويداويه، فيشفيه برقيته أو دوائه، ﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾ أي أيقن الذي بلغت روحه التراقي أنه مفارق الدنيا، حيث تتابعت عليه الشدائد، فلا يخرج من كرب إلا جاءه أشد منه، واجتمع فيه
_________
١ انظر تفسير القرآن العظيم ٤/٤٦٨.
٢ مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ١٣/٣٢٠.
٣ معالم التنزيل ٤/٤٤١.
٤ انظر جامع البيان في تفسير القرآن ٣٠/١٨- ٢٠، ومعالم التنزيل ٤/٤٤١، ٤٤٢.
٥ سورة القيامة، الآية ٢٦- ٣٠.
1 / 80
الحياة والموت، والتفت ساقاه١.
يقول السعدي في تفسير هذه الآيات:
“يعظ تعالى عباده بذكر المحتضر حال السياق، وأنه إذا بلغت روحه التراقي، وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر، فحينئذ يشتد الكرب، ويطلب كل وسيلة وسبب يظن أن يحصل به الشفاء والراحة؛ ولهذا قال ﴿وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ﴾ أي: من يرقيه، من الرقية؛ لأنهم انقطعت آمالهم من الأسباب العادية، فتعلقوا بالأسباب الإلهية، ولكن القضاء والقدر إذا حتم وجاء فلا مرد له، ﴿وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾ للدنيا، ﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾، أي: اجتمعت الشدائد، والتفت، وعظم الأمر، وصعب الكرب، وأريد أن تخرج الروح من البدن، الذي ألفته، ولم تزل معه، فتساق إلى الله تعالى؛ ليجازيها بأعمالها ويقررها بفعلها، فهذا الزجر الذي ذكره الله يسوق القلوب إلى ما فيه نجاتها، ويزجرها عما فيه هلاكها، ولكن المعاند الذي لا تنفع فيه الآيات لا يزال مستمرًا على غيه وكفره وعناده”٢
ثانيا: الأدلة على سكرات الموت من السنة والأثر:
ثبتت أحاديث عن الرسول ﷺ تدل على أن للموت سكرات، ومن ذلك:
١- ما أخرجه البخاري بسنده عن عائشة ﵂ أنّ رسول الله ﷺ كانت بين يديه رَكْوَة٣، أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: “لا إله إلا الله، إن للموت سكرات، ثم نصب
_________
١ انظر معالم التنزيل ٤/٤٢٤، ٤٢٥ وجامع البيان في تفسير القرآن ٢٩/١٢١.
٢ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص٨٣٣.
٣ الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء، والجمع رِكاء، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص٣٧٥.
1 / 81
يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قبض ومالت يده”١.
٢- وعن أنس ﵁ قال: لما ثقل النبي ﷺ جعل يتغشاه فقالت فاطمة: واكرب أباه، فقال لها: “ليس على أبيك كرب بعد اليوم”، فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، فلما دفن قالت فاطمة ﵍: يا أنس أطابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله ﷺ التراب٢
٣- ما أخرجه البخاري بسنده عن عائشة ﵂ قالت: ”مات النبي ﷺ وإنه لبين حاقنتي وذاقنتي٣، فلا أكره شدة الموت لأحد أبدًا بعد النبي ﷺ “ ٤.
٤- ما رواه الترمذي بسنده عن عائشة ﵂ قالت”ما أغبط أحدًا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله ﷺ “٥.
قال أبو حامد الغزالي ت٥٠٥هـ: “اعلم أنه لو لم يكن بين يدي العبد المسكين كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها لكان جديرًا بأن يتنغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته، وحقيقًا بأن يطول فيه فكره، ويعظم له استعداده، لا سيما وهو في كل نفس بصدده ...، واعلم أن شدة الألم في سكرات الموت لا يعرفها بالحقيقة إلا من ذاقها، ومن لم
_________
١ أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب سكرات الموت ح٦٥١٠، وفي كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ ووفاته ح٤٤٤٩.
٢ رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ ووفاته ح٤٤٤٦.
٣ الذاقنة: الذقن، وقيل طرف الحلقوم، وقيل ما يناله الذقن من الصدر، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص٣٢٨.
٤ رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ ووفاته ح ٤٤٦٢.
٥ رواه الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في التشديد عند الموت ح٩٧٩، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي ١/٥٠٢ ح٩٧٩.
1 / 82
يذقها فإنما يعرفها إما بالقياس إلى الآلام التي أدركها، وإما بالاستدلال بأحوال الناس في النَزع على شدة ما هم فيه.
فأما القياس: الذي يشهد له فهو أن كل عضو لا روح فيه فلا يحس بالألم، فإذا كان فيه الروح فالمدرك للألم هو الروح، فمهما أصاب العضو، جرح أو حريق سرى الأثر إلى الروح، فبقدر ما يسري إلى الروح يتألم، يتفرق على اللحم والدم وسائر الأجزاء، فلا يصيب الروح إلا بعض الألم؛ فإن كان من الآلام ما يباشر نفس الروح ولا يلاقي غيره فما أعظم ذلك الألم وما أشده، والنَزع عبارة عن مؤلم نزل بنفس الروح فاستغرق جميع أجزائه، حتى لم يبق جزء من أجزاء الروح المنتشر في أعماق البدن إلا وقد حل به الألم ...، فألم النَزع يهجم على نفس الروح ويستغرق جميع أجزائه؛ فإنه المنْزوع المجذوب من كل عرق من العروق، وعصب من الأعصاب، وجزء من الأجزاء، ومفصل من المفاصل، ومن أصل كل شعرة وبشرة من العرق إلى القدم، ... فلا تسل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ولو كان المجذوب عرقًا واحدًا لكان ألمه عظيمًا، فكيف والمجذوب نفس الروح المتألم، لا من عرق واحد، بل من جميع العروق، ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجيًا، فتبرد أولًا قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ولكل عضو سكرة بعد سكرة، وكربة بعد كربة، حتى يبلغ بها إلى الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها”١.
أخرج ابن أبي الدنيا عن شداد ابن أوس ﵁ قال: “الموت أفظع هول في الدنيا والآخرة على المؤمنين، والموت أشد من نشر بالمناشير، وقرض بالمقاريض، وغلي في القدور، ولو أن الميت نُشر٢ فأخبر أهل الدنيا بألم
_________
١ كتاب الموت: ص٦٥- ٦٧ ونقله ابن الجوزي في: الثبات عند الممات ص٦١- ٦٣.
(٢) النشر: البعث والإحياء، انظر لسان العرب ٣/٦٣٥.
1 / 83
الموت، ما انتفعوا بعيش، ولا لذوا بنوم”١.
وأخرج ابن سعد ت ٢٣٠هـ عن عوانة بن الحكم قال: كان عمرو بن العاص يقول: عجبًا لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فلما نزل به قال له ابنه عبد الله: يا أبتِ إنك كنت تقول: عجبًا لمن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه؟ فصف لنا الموت قال”يا بنيّ الموت أجل من أن يوصف، ولكن سأصف لك منه شيئًا، أجدني كأن على عنقي جبال رضوى، وأجدني كأن في جوفي الشوك، وأجدني كأن نفسي تخرج من ثقب إبرة”٢.
_________
(١) انظر كتاب الموت ص٦٩.
(٢) طبقات ابن سعد ٤/٢٦٠، وانظر سير أعلام النبلاء ٣/٧٥، وفتح الباري شرح صحيح البخاري ٨/٣٤٦.
المطلب الثالث: سكرات الموت تحصل لكل المخلوقات كل المخلوقات تجد سكرات الموت ويشهد لهذا عموم قوله تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ ١، وقوله ﷺ “إن للموت سكرات”٢، لكن تختلف المخلوقات في درجة إحساسها بالسكرات٣. فالعبد المؤمن تخرج روحه بسهولة ويسر، ودليل ذلك ما ورد في حديث البراء ابن عازب أن الرسول ﷺ قال عن وفاة المؤمن: “ثم يجيء ملك الموت ﵇ حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة [وفي رواية: (٣) سورة آل عمران، الآية ١٨٥. _________ (٤) سبق تخريجه في ص: ٨٢. (٥) انظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ١/٥٠، ٥١.
المطلب الثالث: سكرات الموت تحصل لكل المخلوقات كل المخلوقات تجد سكرات الموت ويشهد لهذا عموم قوله تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ ١، وقوله ﷺ “إن للموت سكرات”٢، لكن تختلف المخلوقات في درجة إحساسها بالسكرات٣. فالعبد المؤمن تخرج روحه بسهولة ويسر، ودليل ذلك ما ورد في حديث البراء ابن عازب أن الرسول ﷺ قال عن وفاة المؤمن: “ثم يجيء ملك الموت ﵇ حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة [وفي رواية: (٣) سورة آل عمران، الآية ١٨٥. _________ (٤) سبق تخريجه في ص: ٨٢. (٥) انظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ١/٥٠، ٥١.
1 / 84
المطمئنة] اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء١، فيأخذها ... ”٢.
أما الكافر فإن روحه تخرج بشدة وصعوبة يتعذب بها، لقوله ﷺ في حديثه عن وفاة الكافر [وفي رواية الفاجر]: “ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود٣ الكثير الشعب من الصوف المبلول، فتقطع معها العروق والعصب”٤.
هذا بالجملة وإلا فإنه قد تشتد السكرات على بعض الصالحين؛ لتكفير ذنوبهم، ولرفع درجاتهم، كما حصل للرسول ﷺ حيث عانى من شدة سكرات الموت، كما في صحيح البخاري في الحديث السابق ذكره٥.
قال ابن حجر: “وفي الحديث " لا إله إلا الله إن للموت سكرات ": أن شدة الموت لا تدل على نقص في المرتبة، بل هي للمؤمن إما زيادة في حسناته، وإما تكفير لسيئاته”٦.
وقد ترجم ابن ماجه ت٢٧٥؟ في سننه بعنوان: “باب ما جاء في المؤمن
_________
(١) السقاء هو ظرف الماء من الجلد، ويجمع على أسقية، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص٤٣٦.
(٢) الحديث رواه أحمد ٤/٢٨٧٦ وَ٢٩٥ وَ٢٩٦ وأبو داود، كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر ح ٤٧٥٣.
(٣) السفود: حديدة ذات شعب معقفة، يشوى بها اللحم، انظر لسان العرب ٢/١٥٤.
(٤) سبق تخريجه.
(٥) عند الإحالة ص: ٨٢.
(٦) فتح الباري شرح صحيح الباري ١١/٣٦٣.
1 / 85
يؤجر في النَزْع”، وساق تحته قوله ﷺ: “المؤمن يموت بعرق الجبين” ١، كما قد جاء في حديث آخر قوله ﷺ: “الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم مس القرصة” ٢.
وهذا يدل على أن الأصل تخفيف نزع روح المؤمن، إلا أنها قد تشدّد على من أراد الله ﷾ من المؤمنين؛ تكفيرًا لسيئاتهم، أو رفعًا لدرجاتهم؛ قال القرطبي في معرض حديثه عن سكرات الموت: قال القرطبي: (قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء والمرسلين والأولياء فما لنا عن ذكره مشغولين؟ وعن الاستعداد له متخلفين؟ قالوا وما جرى على الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من شدائد الموت وسكراته فله فائدتان:
أحدهما: أن يعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن، وقد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة ولا قلقًا، ويرى سهولة خروج روحه، فيغلب على ظنه سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه، فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم شدة ألمه مع كرامتهم على الله تعالى، وتهوينه على بعضهم قطع الخلق بشدة الموت الذي يعانيه ويقاسيه الميت مطلقًا لإخبار الصادقين عنه، ما خلا الشهيد قتيل الكفار....
الثانية: ربما خطر لبعض الناس أن هؤلاء أحباب الله وأنبياؤه ورسله، فكيف يقاسون هذه الشدائد العظيمة؟ وهو سبحانه قادر أن يخفف عنهم أجمعين. فالجواب: أن “أشد الناس بلاءً في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل” ٣
_________
(١) رواه ابن ماجه في كتاب الجنائز، باب ما جاء في المؤمن يؤجر في النزع ح١٤٥٢ وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه ١/٢٤٥ح ١١٨٨.
(٢) رواه ابن ماجه، كتاب الجهاد، باب فضل الشهادة في سبيل الله ح ٢٨٠٨ وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ح٩٦٠ وصحيح سنن ابن ماجه ٢/١٣٠ح ٢٢٦٠.
(٣) طرف من حديث رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء ح ٢٣٩٨ ورواه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء ح٤٠٢٣ وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه ٢/٣٧١ ح٣٢٤٩.
1 / 86
كما قال نبينا ﵇ ... فأحب الله أن يبتليهم تكميلًا لفضائلهم لديه، ورفعة لدرجاتهم عنده، وليس ذلك في حقهم نقصًا ولا عذابًا، بل هو.. كمال رفعة، مع رضاهم بجميل ما يجري الله عليهم، فأراد الحق سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد، مع إمكان التخفيف والتهوين عليهم، ليرفع منازلهم، ويعظم أجورهم قبل موتهم، كما ابتلى إبراهيم بالنار، وموسى بالخوف والأسفار وعيسى بالصحارى والقفار، ونبينا محمدًا ﷺ بالفقر في الدنيا ومقاتلة الكفار، كل ذلك لرفعة في أحوالهم وكمال في درجاتهم.
ولا يفهم من هذا أن الله شدد عليهم أكثر مما شدد على العصاة المخلطين؛ فإن ذلك عقوبة لهم، ومؤاخذة على إجرامهم، فلا نسبة بينه وبين هذا) ١.
فشدة السكرات تخفف من الذنوب، وكل ما يصيب الإنسان من مرض أو شدة أو هم أو غم حتى الشوكة تصيبه فإنها كفارة لذنوبه، ثم إن صبر واحتسب كان له مع التكفير أجر ذلك الصبر الذي قابل به هذه المصيبة التي لحقت به، ولا فرق في ذلك بين ما يكون عند الموت، وما يكون قبله، فالمصائب كفارات لذنوب المؤمن٢، وقد أخبر الرسول ﷺ بأنه: “ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلاحط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها” ٣، وكذلك قوله ﷺ: “من يرد الله به خيرًا يصب منه” ٤ وقوله ﷺ: “ما يصيب المؤمن من
_________
(١) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ١/٤٨- ٥٠.
(٢) انظر فتاوى الشيخ محمد صالح العثيمين ٢/٩٨٩.
(٣) رواه البخاري، كتاب المرضى والطب، باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأول فالأول ح٥٦٤٨. ورواه مسلم، كتناب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ونحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها ح٢٥٧١.
(٤) رواه البخاري، كتاب المرضى والطب، باب ما جاء في كفارة المرض وقول الله تعالى ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ ح٥٦٤٥.
1 / 87
وصب١ ولا نصب٢ ولا سقم ولا حزن حتى الهمّ يهمّه إلا كفر به من سيئاته” ٣، وفي رواية قال ﷺ: “ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه” ٤.
_________
(١) الوصب: دوام المرض ولزومه، وقد يطلق الوصب على التعب وفتور البدن، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص٩٧٤.
(٢) النصب: التعب، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر ص٩١٨، وفتح الباري شرح صحيح البخاري ١٠/١٠٦.
(٣) رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ونحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها ح٢٥٧٣.
(٤) رواه البخاري، كتاب المرضى والطب، باب ما جاء في كفارة المرض وقول الله تعالى: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ ح٥٦٤٢.
1 / 88