Ахсаху Аллах ва Насу
أحصاه الله ونسوه
Издатель
دار القاسم
Жанры
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
وبعد:
أقدم للقارئ الكريم الجزء السادس من سلسلة أين نحن من هؤلاء؟ تحت عنوان: "أحصاه الله ونسوه" الذي يتحدث عن آفات اللسان ومزالقه.
وقد بدأت بمداخل عن اللسان وعظم أمره، ثم آفة الغيبة وأتبعتها النميمة والكذب والاستهزاء.
وهي أمراض خبيثة تسري في جسد الأمة فتحصد الحسنات وتجلب السيئات وتضيع الأوقات .. بزلة واحدة تهدم الأسر وتفرق الأحبة وتقطع الأرحام .. وبكلمة واحدة ربما يهوى بها صاحبها في النار سبعين خريفًا.
وقد ساعد على تفشي هذه الآفات في المجتمع قلة الوازع الديني، وتيسر أسباب المعيشة وكثرة أوقات الفراغ، كما أن لسهولة الاتصالات الهاتفية سهم في ذلك.
حفظ الله ألسنتنا ونزه أسماعنا عن كل ما يعيب.
وجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم.
1 / 4
مدخل
إن اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة فإنه صغير جرمه، عظيم طاعته وجرمه، إذ لا يستبين الكفر، والإيمان إلا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والعصيان (١).
فهذا المخلوق الصغير يعبر الإنسان عن بغيته ويفصح عن مشاعره، به يطلب حاجته ويدافع عن نفسه ويعبر عن مكنون فؤاده، يحادث جليسه ويآنس رفيقه، به السقطة والدنو وبه تظهر الهمة والعلو.
واللسان: رحب الميدان ليس له مرد، ولا لمجاله منتهى وحد، له في الخير مجال رحب وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلقه عذبه اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى دار البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد. ألسنتهم ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله.
وعلم ما يحمد فيه إطلاق اللسان أو يذم غامض عزيز والعمل بمقتضاه على من عرفه ثقيل عسير، وأعصى الأعضاء على الإنسان اللسان، فإنه لا تعب في إطلاقه ولا مؤنة في تحريمه وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله والحذر من مصائده وحبائله،
_________
(١) الإحياء: ٣/ ١١٧.
1 / 5
وإنه أعظم آلة الشيطان في استغواء الإنسان (١).
إذا ترك له العنان يصول ويجول .. يتحدث عن فلان ويغتاب فلان، يستهزئ بهذا ويشتم هذا.
وقلة هم الذين أمسكوا بعنان ألسنتهم ووقفوا به عن ما لا يعنيهم.
فحد الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لم تأثم ولم تستضر به في حال ولا مال.
وينبغي لكل مكلف: أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام: إلا كلاما ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه، لإنه قد ينجز الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء (٢).
وفي اللسان آفتان عظيمتان: إن خلص من أحدهما لم يخلص من الأخرى، آفة الكلام وآفة السكوت.
وقد يكون كل منهما أعظم من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص لله، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته، فهم بين هذين النوعين، وأهل الوسط وهم أهل الصراط المستقيم، كفوا ألسنتهم عن الباطل وأطلقوها
_________
(١) الإحياء: ٣/ ١١٧.
(٢) رياض الصالحين (٤١٤).
1 / 6
فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة، فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلا عن أن تضره في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها.
ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به (١).
وكثرة آفات اللسان: من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والنفاق والفحش والمراء وتزكية النفس والخواص في الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان، وإيذاء الخلق وهتك العورات، فهذه آفات وهي سياقة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب.
ففي الخواص خطر وفي الصمت سلامة فذلك عظمت فضيلته، هذا مع ما فيه من جمع الهمم ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة (٢).
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية موضحًا حال الكثيرين:
_________
(١) الجواب الكافي (١٧٣).
(٢) الإحياء (٣/ ١٢١).
1 / 7
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل ليشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالًا، ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول (١).
_________
(١) الجواب الكافي (١٧١).
1 / 8
آفات اللسان
آفات اللسان كثيرة متنوعة، ولها في القلب حلاة ولها بواعث من الطبع، ولا نجاة من خطرها إلا بالصمت أو التحرز في الكلام.
ومن آفات اللسان ما يلي:
الآفة الأولى:
الكلام فيما لا يعني ... اعلم أن من عرف قدر زمانه، وأنه رأس ماله، لم ينفقه إلا في فائدة، وهذه المعرفة توجب حبس اللسان عن الكلام فيما لا يعني، لأن من ترك ذكر الله واشتغل فيما لا يعني كان كمن قدر على أخذ جوهرة، فأخذ عوضها بدرة وهذا خسران العمر.
الآفة الثانية:
الخوض في الباطل، وهو الكلام في المعاصي، كذكر مجالس الخمر، ومقامات الفساق، وقريب من ذلك الجدال والمراء، وهو كثرة الملاحاة للشخص لبيان غلطه وإفحامه، والباعث على ذلك الترفع فينبغي للإنسان أن ينكر المنكر من القول، ويبين الصواب فإن قبل منه وإلا ترك المماراة، هذا إذا كان معلقا بالدين، فإما إن كان في أمور الدنيا فلا وجه للمجادلة فيه.
الآفة الثالثة:
التقعر في الكلام، وذلك يكون بالتشدق، وتكلف السجع.
الآفة الرابعة:
الفحش والسب والبذاء.
1 / 9
الآفة الخامسة:
المزاح ... أما اليسير فلا ينهى عنه إذا كان صدقا.
الآفة السادسة:
السخرية والاستهزاء .. ومعنى السخرية الاحتقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه.
الآفة السابعة:
إفشاء السر وإخلاف الوعد والكذب في القول واليمين، وكل ذلك منهي عنه، إلا ما رخص فيه من الكذب لزوجته وفي الحرب فإن ذلك يباح
وضابطه: أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب، فهو فهي مباح إن كان ذلك المقصود مباحا، وإن كان المقصود واجبا فهو واجب، فينبغي أن يتحرز عن الكذب مهما أمكن.
الآفة الثامنة:
الغيبة، هي ذكر أخاك الغائب بما يكرهه إذا بلغه، سواء كان نقصًا في بدنه أو في نسبه أو في ثوبه (١).
الآفة التاسعة:
النميمة، وهي إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه.
وهناك آفات أخرى كثيرة لا يتسع المقام لذكرها .. وقد حذر
_________
(١) مختصر منهاج القاصدين ١٦٥ وما بعدها باختصار.
1 / 10
الله جل وعلا من تلك الآفات وأخبر أنها من الأعمال التي تحصى على ابن آدم ويحاسب عليها.
قال تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾
[ق: ١٨].
وقال جل وعلا: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: ٣٦].
ومن الأحاديث ما رواه أبو هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" رواه البخاري ومسلم.
وعنه ﷺ أنه قال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" رواه الترمذي وابن ماجه.
وحين سئل رسول الله ﷺ عن أكثر ما يدخل النار؟ قال: "الفم والفرج" وعندما سأل معاذ بن جبل رسول الله ﷺ عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار، أخبره النبي ﷺ برأسه وعموده وذروة سنامه، ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قال: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: "كف عليك هذا" فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" رواه الترمذي.
وانظر أخي الكريم إلى عظم الأمر وخطورة الكلمة فقد قال
1 / 11
رسول الله ﷺ: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب" متفق عليه.
وهذا أبو بكر ﵁ آخذا بطرف لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد (١).
والكلام أسيرك فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره، والله عند لسان كل قائل: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨] (٢).
وحين سئل الحسن يوما: كيف أصبحت يا أبا سعيد؟ قال: والله ما من انكسرت به سفينة في لجج البحر بأعظم مني مصيبة، قيل: ولم ذاك؟ قال: لأني من ذنوبي على يقين، ومن طاعني وقبول عملي على وجل، لا أدري ِأقبلت مني أم ضرب بها وجهي.
فقيل له: وأنت تقول ذلك يا أبا سعيد؟ فقال: ولم لا أقول ذلك، ما الذي يؤمنني من أن يكون الله ﷾ قد نظر إليَّ وأنا على بعض هناتي نظرة مقتني بها، فأغلق عني باب التوبة، وحال بيني وبين المغفرة، فأنا أعمل في غير معتمل (٣).
وعن ابن عباس ﵄ قال: ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا كتب عليه حتى أنينه في مرضه، فلما مرض الإمام أحمد
_________
(١) صفة الصفوة (١/ ٢٥٣).
(٢) الجواب الكافي (١٧٣)
(٣) الحسن البصري لابن الجوزي (١٢).
1 / 12
فقيل له: إن طاوسًا كان يكره أنين المرض، فتركه (١).
والكثير الآن لا يعد الكلام من العمل وما علم أنه يحصى عليه كل لفظ وقول وأنه غدا محاسب على كل كلمة وحديث.
قال عمر بن عبد العزيز: من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه (٢).
وأكد ذلك الإمام الأوزاعي بقوله: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير، ومن عرف أن منطقه من عمله قل كلامه (٣).
ولكثرة آفات اللسان والتهاون فيها وإطلاق الألسن في كل مكان وحديث، قال الحسن بن صالح: فتشنا الورع فلم نجده في شيء أقل منه في اللسان (٤).
وغالب آفة اللسان أذى للمسلم ونقص في قدره ورمي له بالتحقير والتصغير ...
والفضيل بن عياض يقول في ذلك: والله ما يحل لك أن تؤذي كلبا أو خنزيرًا بغير حق، فكيف تؤذي مسلما؟ ! (٥).
وفي حديث صادق ونصائح غالية هذا ابن عباس ﵄ يقول: خمس لهن أحب إليَّ من الدهم الموقوفة، لا تتكلم فيما
_________
(١) البداية والنهاية (٩/ ٢٧٢).
(٢) البداية والنهاية (٩/ ٢٢٥)
(٣) السير (٧/ ١١٧)
(٤) صفة الصفوة: (٣/ ١٥٤) حلية الأولياء (٧/ ٣٢).
(٥) السير (٨/ ٤٢٧).
1 / 13
لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا فإنه ربَّ متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت، ولا تمار حليما ولا سفيها فإن الحليم يقلبك والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، واعفه بما تحب أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالاجترام (١).
لعمرك ما للمرء كالرب حافظ ... ولا مثل عقل المرء للمرء واعظ
لسانك لا يلقيك في الغي لفظه ... فإنك مأخوذ بما أنت لافظ (٢)
قال عطاء بن رباح: إن من كان قبلكم كانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك التي لا بد منها، أتنكرون أن عليكم حافظين كراما كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره، وليس فيها شيء من أمر آخرته (٣).
هذه حالهم في ذلك الزمن وهم أهل الطاعة والذكر، مجالسهم خالية من الغيبة والنميمة والكذب والاستهزاء بل كانوا يطرزون مجالسهم بالبكاء والخشوع وإظهار الجزع، وكان عامة كلامهم مثل كلام أحدهم وهو ابن سيرين .. سبحان الله العظيم سبحان الله
_________
(١) الإحياء (٣/ ١٢٢) أمراض النفوس (٣٠).
(٢) الصمت: (٣٠٥).
(٣) السير (٥/ ٨٦) الإحياء (٣/ ١٢٣).
1 / 14
وبحمده.
هذا نموذج لمجالسهم العامرة بالخير .. وزيادة في الحرص كان عبد الله بن الخيار يقول في مجلسه: اللهم سلمنا، وسلم المؤمنين منا (١).
وكان عمر بن الخطاب يقول: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ومن كثرت ذنوبه كانت النار
أولى به (٢).
وللخوف من السقوط في النار ... ومن خوف شدة الحساب غدا.
أخي:
تعهد نفسك في ثلاثة مواضع: إذا علمت فاذكر نظر الله تعالى عليك وإذا تكلمت فانظر سمع الله إليك، وإذا سكت فانظر علم الله فيك (٣).
قال سلمة بن دينار: ينبغي للمؤمن أن يكون أشد حفظا للسانه منه لموضع قدمه (٤).
ولا يكون هذا الحفظ سهلا إلا بمراقبة الله جل وعلا في كل كلمة تخرج وفي كل حركة تظهر. والاقتصاد في الكلام من
_________
(١) تذكرة الحفاظ: (١/ ١٣٩).
(٢) جامع العلوم والحكم: (١٦١).
(٣) حلية الأولياء (٨/ ٧٥).
(٤) صفة الصفوة: ٢/ ٥٧.
1 / 15
علامات التيقظ والتنبه
قال ابن مسعود: إياكم وفضول الكلام حسب امرئ ما بلغ حاجته (١).
وحتى فضول الكلام الذي هو دون الضرر فإنه حسرات يوم القيامة لأن أزمنة في ما لا فائدة فيه حسرة وندامة ...
قال بعض السلف: يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكل ساعة، لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات.
من هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام فالسكوت عنه أفضل من التكلم به، اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة مما لا بد منه (٢).
وما أدري وإن أملت عمرًا ... لعلي حين أصبح لست أمسي
ألم تر أن كل صباح يوم ... وعمرك فيه أقصر من أمس (٣)
قال ابن عباس ﵄: يا لسان قل خير تغنم، أو اسكت عن شر تسلم (٤).
فإن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يحل بذروته ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء، وإن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيرجع وما معه من شيء، ويأتي الرجل
_________
(١) جامع العلوم والحكم: (١٦١).
(٢) جامع العلوم والحكم: (١٦١).
(٣) جامع العلوم والحكم: (٤٦٦).
(٤) كتاب الصمت (٦٦).
1 / 16
ولا يملك له ولا لنفسه ضرا ولا نفعا، فيقسم له بالله إنك لذيت ولذيت، فيرجع وماجني من حاجته بشيء ويسخط الله عليه (١).
فهذا الرجل عاد وقد أسخط الله جل وعلا بسبب لسانه الذي لم يتحفظ منه بل أطلقه بالإيمان الكاذب، هذا موقف واحد.
أما من تربع في مجلس ساعات طوال لم يسلم المسلمون من لسانه غيبة ونميمة وإفشاء سر وإشاعة فاحشة فإن ذلك محاسب عليه .. لا يرى عيبا إلا أشاعه ولا يسمع حديثا إلا تكلم به.
قال عبد الله بن مسعود، كفى بالمرء إثما، أن يحدث بكل ما سمع (٢).
أخي الكريم:
ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال لتكون من المحسنين:
أحدهما: إنك إن لم تنفعه فلا تضره.
والثانية: إن لم تسره فلا تغمه.
والثالثة: إن لم تمدحه فلا تذمه (٣).
فإن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس كما قال ذلك محمد بن سيرين (٤):
فإن عبت قوما بالذي فيك مثله ... فكيف يعيب الناس من هو أعور؟
_________
(١) الفوائد: ١٩٣.
(٢) تذكرة الحفاظ: ٣.
(٣) تنبيه الغافلين (١/ ١٧٨).
(٤) كتاب الصمت (١٠٤).
1 / 17
فذلك عند الله والناس أكبر (١)
وإن عبت قوما بالذي ليس فيهم
إن اتباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد فإن اتباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصدا، وطول الأمل ينسي الآخرة، ويصد عن الاستعداد لها (٢).
فمن طال أمله قل عمله ومن نسي الآخرة لم يحاسب نفسه ...
مجالسنا الطويلة بماذا نعمرها وبأي أمر نجملها وهي مجالس طويلة بعضها يمتد لساعات طوال.
قال الزهري: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب (٣).
وإذا لم تكن مجالس خير وذكر فإن الشيطان يحرك الألسن ويشفي الصدور، وقد ينزل إلى شهوات البطن والفرج وقد قال الأحنف بن قيس يحكي صفات الرجولة الحقة .. جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني أبغض الرجل يكون وصافا لفرجه وبطنه (٤).
ولو خطر في بال أحدنا أن يسجل ما يتحدث به في مجلس واحد .. لرأى كم من الأوراق يحتاج .. ولو حاسب نفسه لوجد الكثير من الزلات والسقطات.
وقد حدد الربيع بن خثيم الكلام بأنه لا خير فيه إلا في تسع.
_________
(١) منهاج القاصدين: (١٨٧).
(٢) الفوائد: (١٣٠).
(٣) الإحياء: (٣/ ٣٦٦).
(٤) السير (٤/ ٩٤).
1 / 18
تهليل وتكبر، وتسبيح وتحميد، وسؤالك من الخير، وتعوذك من الشر، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، وقراءتك القرآن (١).
أخي الكريم:
هل وقفنا بألسنتنا عند هذه الأمور التسعة، فأضحى التهليل والتكبير ملازما لنا، وأصبحنا والقرآن ربيع قلوبنا؟
أم أن نصيب الدنيا في ألسنتنا هو الغالب وذكر الله وقراءة القرآن هو النادر .. ونحن في منحدر من الدنيا وإقبال على الآخرة؟
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درج الجنان بها فوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدمًا ... منها إلى الدنيا بذنب واحد (٢)
عن سفيان قال: طول الصمت مفتاح العبادة (٣).
فإن في طول الصمت تفكرًا وكفًا عن ما لا ينبغي، واستفادة من الأوقات .. ومحاسبة للزلات.
قال الفضيل بن عياض: ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان، ولو أصبحت يهمك لسانك، أصبحت في هم شديد (٤)، هم وهو يتعاهد لسانه ويحافظ على كلماته.
فإن اللفظات حفظها بأن لا يخرج لفظة ضائعة بأن لا يتكلم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم
_________
(١) كتاب الصمت (٨٤).
(٢) عقود اللؤلؤ: ٣٦.
(٣) كتاب الصمت: ٢٢٢.
(٤) جامع العلوم والحكم: (١٦٢).
1 / 19
بالكلمة نظر، هل فيها ربح وفائدة أم لا؟
فإن لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر.
هل تفوت بها كلمة هي أربح منها؟ فلا يضيعها بهذه وإذا أردت أن تستدل على ما في القلب فاستدل عليه بحركة اللسان، فإنه يطلعك على ما في القلب، شاء صاحبه أم أبى.
قال يحيى بن معاذ: القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر إلى الرجل حين يتكلم فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه، حلو وحامض، وعذب وأجاج، وغير ذلك، ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه، أي كما تطعم بلسانك طعم ما في القدور من الطعام فتدرك العلم بحقيقته، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه فتذوق ما في قلبه من لسانه كما تذوق ما في تلك القدور بلسانك (١).
والكلام إذا كان دفاعًا عن خير ودعوة إلى علم وقراءة للقرآن وذكر لله فذلك. أكثر منه فقد سلكت الجادة، فإنه يسرك يوم القيامة إذا نظرت في صحيفتك .. وأخذت كتابك بيمينك.
قيل لإياس بن معاوية: إنك تكثر الكلام؟ قال: أفبصواب أتكلم أم بخطأ؟
قالوا: بصواب، قال: فالإكثار من الصواب أفضل (٢).
_________
(١) الجواب الكافي (١٧٠).
(٢) كتاب الصمت: (٣٠٣).
1 / 20
أخي الحبيب: اعلم أن الكلام ترجمان يعبر عن مستودعات الضمائر ويخبر بمكنونات السرائر، لا يمكن استرجاع بوادره، ولا يقدر على رد شوارده، فحق على العاقل أن يحترز من زلله، بالإمساك عنه أو بالإقلال منه (١).
هنا موقف أبان فيه اللسان عن حقيقة الرجل ولو سكت لجهل أمره، فقد حكي عن أبي يوسف الفقيه أن رجلا كان يجلس إليه، فيطيل الصمت، فقال له أبو يوسف: ألا تسأل؟
قال: بلى، متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غربت الشمس، قال: فإن لم تغرب إلى نصف الليل؟ فتبسم أبو يوسف ﵀ وتمثل ببيتين من الشعر:
عجبت لإزراء العي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما (٢)
أقام المنصور بن المعتز: لم يتكلم بكلمة بعد العشاء الآخرة.
أربعين سنة، وقيل: ما تكلم الربيع بن خثيم بكلام الدنيا عشرين سنة، وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاسا وقلما فكل ما تكلم به كتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء (٣).
أخي الحبيب أين نحن من هؤلاء؟
قيل للقمان الحكيم: ما حكمتك؟ قال: لا أسأل عما كفيت
_________
(١) أدب الدنيا والدين (٢٦٥).
(٢) أدب الدنيا والدين (٢٦٦).
(٣) الإحياء (٣/ ١٢١).
1 / 21
ولا أتكلف ما لا يعنيني (١).
وحكي أن بعض الحكماء رأى رجلا يكثر الكلام ويقل السكوت، فقال: إن الله تعالى إنما خلق لك أذنين ولسانا واحدا ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به (٢).
والكثير الآن تجاوز هذا الضعف، يهذر بما يعلم وما لا يعلم، لا يتحدث في علم إلا له فيه قول ... ولا يمر اسم فلان من الناس إلا لمزه وغمزه.
وقد حذر الجنيد من ذلك بقوله: أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب ﷻ من القلب، والقلب إذا عرى من الهيبة عرى من الإيمان (٣).
ولكي يسلم المتحدث من الزلل في حديثه والنقص في مقاله فإن عليه أن يراعي شروطا أربعة:
الشرط الأول: أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما في اجتلاب نفع، أو دفع ضرر.
الشرط الثاني: أن يأتي به في موضعه، ويتوخى به إصابة فرصته.
الشرط الثالث: أن يقتصر منه على قدر حاجته.
_________
(١) الإحياء (٣/ ١٢١).
(٢) أدب الدنيا والدين: (٢٦٨).
(٣) السير: (١٤/ ٦٨).
1 / 22
الشرط الرابع: أن يتخير اللفظ الذي يتكلم به (١).
إذا توافرت هذه الشروط فعليك بالحديث وإلا فإن الصمت يجمع للرجل خصلتين: السلامة في دينه، والفهم عن صاحبه (٢).
ومن يقدر الآن على الصمت ونحن في زمن يخيل للسامع أن الإنسان خلق بلسان دون أذن .. فالكل يتحدث ترتفع الأصوات في المجالس ويكثر اللغط ولا تعلم من يحدث من؟ ومن يستمع لمن؟
ترى اثنين يتحدثان بصوت مرتفع .. وتبحث عن المستمع فلا ترى أحدا.
الكل يتحدث .. ولكن أين المستمع؟
هذا عبد الله بن أبي زكريا يقول: عالجت الصمت ثنتي عشرة سنة، فما بلغت منه ما كنت أرجو (٣).
وقال: مورق العجلي: أمر أنا أطلبه منذ عشر سنين لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه، قالوا: وما هو يا أبا المعتمر؟ قال: الصمت عما لا يعنيني (٤).
أخي الحبيب: أين نحن من هؤلاء؟
قوم جاهدوا أنفسهم وحاولوا سنوات طويلة، أفلا نفكر ولو
_________
(١) أدب الدنيا والدين (٢٦٦).
(٢) كتاب الصمت (٦٩) الإحياء (٣/ ١٢٠).
(٣) كتاب الصمت (٣٠٣).
(٤) كتاب الصمت (٩٧) جامع العلوم والحكم: (١٣٨) الإحياء
(٣/ ١٢٢).
1 / 23