وكان سعيد يسمع كلامه ويكاد يتميز من الغيظ، فقال له: «لماذا لا نذهب إلى البجة رأسا ونحمل عليهم برجالنا ونأخذ دميانة قهرا، إني لا أرجع عنهم حتى آخذها.» قال ذلك والغضب يقيمه ويقعده.
فقال زكريا: «لا يعلم أحد مقرا لهم بهذه الصحراء، ثم إنك إذا طلبت من ابن طولون أن ينجدك بالرجال لم يجب طلبك؛ خشية على رجاله.»
قال: «مالي ولابن طولون؟ سأذهب بنفسي.» قال ذلك مدفوعا بالحماسة والغيرة.
فقال له زكريا: «إذا كنت ترى وسيلة لاسترداد دميانة بالقوة كما تقول؛ فافعل وأما أنا فلا أمل لي إلا في الطريق الذي ذكرته لك، دعني أذهب في هذه المهمة ولا أضيع الوقت سدى، هل تأذن في ذهابي؟»
فتنهد سعيد والدموع تكاد تترقرق في عينيه لتصوره حال دميانة في قبضة أناس وثنيين لا آداب تردعهم ولا دين يردهم ولا شفقة في قلوبهم، وقال: «اذهب أنت وسأبحث أنا عن وسيلة قريبة، فإذا وفقت إليها فبها ونعمت وإلا فأنا سائر في عملك. وإذا جد شيء فأخبرني به وأنا مقيم بالقطائع، هل عرفت منزلي؟»
قال: «نعم عرفته، أستودعك الله؛ فأنا ذاهب لساعتي والاتكال على السيد المسيح وأرجو ببركة سيدتنا مريم العذراء أن تتوصل إلى الهدف المطلوب.»
فدعا له سعيد بالتوفيق وافترقا.
في دير أبي مقار
سار زكريا توا إلى الخان، فأعد كل معدات سفره، ثم ركب هجينه وخرج من الفسطاط فقطع النيل على جسر جزيرة الروضة، وقطع جسرا آخر إلى بر الجيزة، فلما صار في البر الغربي من النيل انتهز فرصة بدل فيها ثيابه ولبس ثياب الرهبنة وهو نوبي اللون والملامح، فأصبح كأنه راهب من رهبان النوبة، ثم اتجه انتباهه إلى الأسطوانة التي وضع فيها آماله وآمال دميانة، فجعلها في كيس في عنقه تحت إبطه، بحيث لا تظهر ولا ينتبه لها أحد، وبات ليلته وأصبح فركب هجينه وسار شمالا يطلب بعض المحطات التي يسار منها إلى وادي النطرون وفيه دير أبي مقار.
ويقع وادي النطرون في صحراء ليبيا غربي الدلتا، على مسافة ثلاثة أيام منها يقطعها المسافر في رمال وصخور لا أثر للعمارة فيها، ولا يلقى أنيسا إلا القوافل الذاهبة إلى ذلك الوادي لتحمل الملك أو النطرون إلى الدلتا أو الراجعة بالمؤن والأطعمة للرهبان بالأديار القائمة في تلك البادية الموحشة.
Неизвестная страница