قالت: «تتركني وتغيب عني يومين؟»
قال: «لا مندوحة لي عن ذلك؛ لأني ذاهب في مهمة يتوقف عليها نجاحنا وبها نتغلب على أعدائنا، ولا بأس عليك عند أصحابنا في حلوان.»
فسكتت، وبعد قليل أطلوا على حلوان ولم يكن فيها إلا بيوت قليلة فيما مضربا على أكمة وله حديقة، فترجل زكريا ومشى إلى الخيمة وقبل وصوله شعر صاحبه بقدومه من نباح الكلاب، فخرج إليه ولما تبينه بالغ في الترحيب به، فقال له: «نحن مسافرون إلى الصعيد وأحببنا التعريج عليكم؛ لشوقي إليك ومعي سيدة أنا ذاهب في خدمتها، فنبيت عندكم الليلة ثم ننصرف.»
فصاح الرجل بأولاده أن ينزلوا الضيفين، وقال: «بل تقيمان عندنا أياما.»
ونزلت دميانة فرحبت بها امرأة الرجل وحيتها واستأنست بها، ولا تسل عن ضيافة العرب وحسن وفادتهم، وكانوا يكلمونها بالعربية وتكلمهم بها عن ضعف، وفي اليوم التالي قال زكريا لمضيفهما: «إني عازم على الذهاب في مهمة عاجلة.» وأوصاه بدميانة فأجابه: «نفديها بأرواحنا فهي الآن ربة المنزل ونحن أضيافها.»
وقبل ذهابه خلا بدميانة وأخبرها أنه ذاهب في مهمة لا بد منها ويعود بعد يومين وسألها: «هل استأنست بأهل المنزل؟» فقالت: «لم أكن أظن العرب على هذه الأخلاق؛ إذ لم أكن أسمع إلا انتقادا لأعمالهم فإذا بهم أهل كرم ولطف.»
فقال: «إن العربي يا مولاتي إذا نزلت بداره حق عليه - بحكم العادة المتبعة - أن يدافع عنك بنفسه وأهله ويفديك بروحه وهو ما يسمونه في اصطلاحهم حق الجوار. فإذا أتى جند ابن طولون كلهم لا يقدرون أن يأخذوك أو يأخذوني من عنده وهو حي؟ إنه يقاتل دوننا حتى يموت أو ينقذنا، أقول ذلك لأزيدك طمأنينة، فأنت في هذا الخباء آمن منك في حصن حصين، فاسمحي لي بالذهاب وسأعود قريبا.»
وبرغم ما سمعته من بواعث الطمأنينة انقبضت نفسها عندما تحققت عزمه على الذهاب، فأخذ يشجعها ويعتذر من اضطراره إلى الذهاب إلى أن قال: «وعلى غيابي هذا تتوقف سعادتك في المستقبل وبه نغلب أعدائنا.»
فقالت: «إذا لم يكن بد من ذلك فافعل اطلب من الله أن يكون معك والسيد المسيح يحرسك ويوفقك.»
فودعها وخرج. وأحست بعد خروجه بوحشة الوحدة وتذكرت أباها وبيتها وكيف أصبحت طريدة شريدة بعد أن كانت ربة منزلها في طاء النمل وحولها الخدم والحشم ولم تكن تعلم هل تعود إلى الدار أم لا؟ على أن «قعدان» وأهل بيته لم يتركوا لها فرصة للاستيحاش، فكانوا يبذلون وسعهم في سبيل راحتها - صغيرهم وكبيرهم.
Неизвестная страница