فأدرك إسطفانوس إشارته فقال: «يستطيع الإنسان أن يعبد ربه حيثما يكون، والقبط الآن - كما لا يخفى عليك - في راحة وطمأنينة بفضل أميرنا الحالي.»
فتنهد أبو الحسن وأطرق، فابتدره مرقس قائلا: «أحمد الله أن الأحوال تبدلت وأدرك حكامنا المسلمون أن محاسنة القبط أولى.»
قال: «أتحسب ما ارتكبه بعض الأمراء المسلمين من ظلم القبط كان بأمر الخلفاء أو أنه من قواعد الدين الإسلامي؟ كلا، إن الإسلام يأمر بالحسنى، يدلك على ذلك ما كان من رفق المسلمين في صدر الإسلام على أيام الخلفاء الراشدين، وإن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد أوصى بالقبط خيرا، وإنما هي مطامع بعض الولاة لا يريدون لها التعصب على دين بل يرمون من ورائها إلى ابتزاز الأموال. ولو أرادوا بها غير ذلك لما أصابنا نحن الشيعة ما تعلمونه من الاضطهاد حتى منعونا ركوب الأفراس والخروج من الفسطاط، وحظروا علينا اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، وإذا كان بيننا وبين أحد الناس خصومة قبل قول خصمنا فينا بلا بينة.» وسكت أبو الحسن هنيهة ثم استأنف الكلام قائلا: «حتى هذا الوالي أحمد بن طولون فإنه إنما يحاسن ويجامل لغرض في نفسه ...»
فاعترضه إسطفانوس قائلا: «وكيف ذلك يا سيدي؟ وقد أحسن جوار القبط ورفع عنهم كثيرا من المظالم وهل في الرفق بهم وسيلة إلى تحقيق مطمع لحاكم؟»
قال: «إن ابن طولون داهية كبير النفس، ذو تعقل ودهاء، ألا ترى أنه لم ينزل في الفسطاط؟ فلماذا؟ لماذا ترك قصر الإمارة والمسجد فيها وابتنى لنفسه وجنده قطائع خارج الفسطاط بجوار المقطم أنفق فيها الأموال الطائلة؟»
فأطرق إسطفانوس ولم يحر جوابا. فاستأنف أبو الحسن كلامه، وقال: «اعلم يا بني أن ابن طولون هذا تركي الأصل وهذا العصر عصر الأتراك. فبعد أن كانت الدولة للعرب وكان أمراؤها وقوادها من العرب أخذت السيادة تتحول عنهم إلى الأتراك حتى أصبحوا أهل النفوذ والسطوة في بغداد، وسامرا ومنهم أكابر الولاة والأمراء والأشراف، وأظنكم لحظتم انحطاط شأن العرب في مرافق الدولة في الفسطاط نفسها، حتى صار الولاة الأتراك يعدون العرب منافسيهم، ويخافون من انتقامهم فلا يأمنون القيام بهم، فأخذوا يبنون المنازل الحصينة لأنفسهم خارج المدن التي يقيم بها العرب، وقد بدأ بذلك الخليفة المعتصم، فخرج بأتراكه من بغداد وابتنى
والفسطاط - كما تعلمون - بلدة عربية، فلما استتب الحكم لابن طولون ابتنى القطائع بين الفسطاط والمقطم - على بعد الماء عنها - واضطر إلى إنفاق الأموال الطائلة في جر المياه، وأظنكم تعلمون أن حبيبنا سعيدا قد أخذ على نفسه جر الماء إلى القطائع، وأخبرني أن الأمير أنفق في ذلك مالا كثيرا.»
فقال مرقس: «صدقت يا جارنا العزيز وقد لحظت أنا أيضا أن أميرنا المشار إليه يطمع فيما لم يطمع فيه سواه من الأمراء السابقين. يطمع في أن يستقل بحكم مصر.»
فقطع أبو الحسن كلامه قائلا : «لقد استقل بها وقضي الأمر وفاز على ابن المدير صاحب الخراج الذي كان يسوم الناس الخسف والذل، ويبتز الأموال بغير حساب - سبحان من أنقذكم منه ...»
قال مرقس: «شكرا لله على ذلك، ونشكره على شيء آخر أيضا كان له أثره في تحسين أحوالنا وتخفيف الضرائب عنا.»
Неизвестная страница