قال الملك: «فقد كنت أرجو أن يهيئ لك علمك وحكمتك ابتكار لون من ألوان الحياة لا تشقى فيه الشعوب بسعادة الملوك والزعماء، ولكني أراك تسيرين في الطريق التي سار فيها الملوك من قبلك، وقد كنت أنتظر غير هذا؛ ولكن الظنون تكذب والآمال تخيب.»
قالت فاتنة: «صدقت يا أبت! إن الظنون تكذب وإن الآمال تخيب، وما أكثر ما كذبت ظنوني وخابت آمالي! وإنك لترى وجهي مشرقا وثغري باسما وعيني تفيضان بهجة وبشرا، ولو اطلعت على ضميري وقرأت دخيلة نفسي لرأيت حزنا أي حزن، وشقاء، وشعورا هو أقرب إلى اليأس والقنوط منه إلى أي شيء آخر، وإني لأحدثك بهذا كله كارهة، وما كنت أريد أن أظهرك منه على شيء؛ فأنا شديدة الحرص على ألا ترى مني ولا ترى عندي إلا ما تحب، ولكنك قد باديتني بما تجد محسنا بذلك إلي، فلا بد من أن أباديك بما أجد مسيئة بذلك إليك، وليست هذه أول مرة آذيت فيها نفسك الكريمة، وشققت فيها عليك بما يعتادني من هم ثقيل. إنك يا أبت مستيئس مني لأني أسلك الطريق التي سلكها الملوك والأمراء من قبل، فأحيا لنفسي لا لغيري، ولا أرفق بهذه الرعية التي لم يرفق بها أحد قط، وهذا نفسه هو مصدر شقائي ويأسي، فأنبئني يا أبت ما بال هذه الرعية لا ترفق بنفسها ولا تعنى بأمرها ولا تفكر في مصالحها، وإنما ندعوها فتجيب، ونأمرها فتطيع، ونوجهها إلى حيث تشاء فتتجه إلى حيث نشاء، لا يخطر لها أن تأبى إذا بلغها الدعاء، ولا أن تعصي إذا صدر إليها الأمر، ولا أن تمتنع إذا وجهت إلى حيث لا تحب؟! أفنكون أرفق بها من نفسها، وأحرص على مصالحها وكرامتها مما تحرص هي على مصالحها وكرامتها؟!
ومع ذلك فأين يكون الفرق بينها وبيننا؟! أليس الرجال منها والنساء والشباب منها والشيوخ، يشعرون كما نشعر، ويحسون كما نحس، ويجدون اللذة والألم كما نجد نحن اللذة والألم، ويحبون الخير ويكرهون الشر، كما نحب نحن الخير ونكره الشر؟! فما طاعتها لنا في غير روية ولا تفكير، بل في غير فهم لما تؤمر به وتقدير لما تدعى إليه؟! أترى أنا خلقنا من عنصر غير عنصرها، أو أنها خلقت من نار غير التي خلقنا منها؟!
لقد كنت أفهم أن نتسلط على الناس، فلا يستطيعون لنا مقاومة ولا يحاولون علينا امتناعا؛ فنحن من نار وهم من طين، فأما أن نتسلط على الجن الذين خلقوا من عنصرنا فلا نجد منهم إلا الإذعان والاستسلام، كما يتسلط ملوك الناس على الناس فلا يجدون منهم إلا الإذعان والاستسلام، فهذا هو الذي يحير عقلي ويذهل لبي ويكل خاطري ويدفعني إلى اليأس ويحملني على أن أسلك الطريق التي سلكها الملوك من قبلي.»
قال الملك: «فإن قلبك في حاجة إلى الرحمة يا ابنتي، وعقلك في حاجة إلى أن يكون أقوم تقديرا للأمور؛ لقد نشأت على السلطان وتعودت حقوقه وواجباته. هيئت لذلك منذ درجت، وهيئ له من قبلك آباؤك وأمهاتك، ونشأت الرعية على عكس ما نشأت أنت عليه، وعودت غير ما عودت، وهيئت لغير ما هيئت له منذ الزمان القديم الذي لا نعرف له أولا، وكان هذا التفريق بين السيد والمسود خطأ، أفينبغي أن يستمر الخطأ؟! أليس من الممكن وقد ارتقت عقولنا ونفذت أبصارنا إلى كثير من حقائق الأشياء، وعلمنا أن هذه الفروق بيننا وبين الرعية مصطنعة لم تأت من الطبيعة، وإنما جاءت من الحضارة. أفليس من الممكن أن نصلح أغلاطنا ونقوم اعوجاجنا؟! بل أليس من الممكن أن نصلح أغلاط الطبيعة إن كانت هذه الفروق قد جاءت من الطبيعة؟! بلى! هذا ممكن، هذا واجب يا ابنتي، ولكن لا بد للنهوض بهذا الواجب من أن نشعر قلوبنا الرحمة والإحسان، ومن أن نؤمن بأن حياة الملوك ليست حقوقا كلها، ولكنها واجبات أيضا، وربما كان نصيب الواجب فيها أعظم من نصيب الحق. ما الذي يمنعنا أن نشعر الرعية بنفسها ونبصرها بحقها كما بصرناها بواجبها، ونهيئها لا أقول لتستأثر من دوننا بالأمر، ولكن لتشاركنا في الأمر وتعيننا على احتمال أعبائه الثقال؟!»
قالت فاتنة: «ومن أجل ذلك أنشأت المدارس يا أبت وأذعت العلم وقد كان سرا مكتوما، ومن أجل ذلك رفعت إليك بعض النابهين من الدهماء، فكلفتهم ما كلفتهم من أعمال الدولة، وقد كانت أعمال الدولة مقصورة على أفراد أسرتنا، ومن أجل ذلك عرضت نفسك لسخط الأمراء وكيد الشيوخ من رؤساء العشائر، وقد وصلت إلى كثير مما كنت تريد، فلولا هذه السيرة التي سرتها في الرعية لما ثار الاعتراض في نفوس الوزراء ورجال الحاشية حين أمرتهم أمري فأذعنوا له كارهين. هم الآن يضمرون الاعتراض وقد كانوا لا يشعرون به من قبل. أفهذا هو الذي أردت إليه؟»
قال الملك: «هو هذا يا ابنتي.»
قالت فاتنة، وقد وثبت إلى أبيها فضمته في رشاقة وقبلته في عنف: «وهو ما أريد إليه أيضا. ولتطب نفسك ولتقر عينك، فلن يصيب الرعية من هذه الحرب التي أثيرها سوء.»
قال الملك وهو يتضاحك: «ماذا تقولين يا ابنتي؟! حرب لا يصيب الرعية منها سوء؟! أحرب هي أم لعب؟!» قالت: «بل هي الحرب كل الحرب.» قال: «أوضحي يا ابنتي عما تريدين؛ فإني لا أفهم عنك شيئا.» قالت: «ذلك سري الذي ستفهمه حين أزيل عنه الستار.» وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.
وهم شهريار حين انقطع حديث النائمة أن يفكر فيما سمع، ولكن النوم لم يمهله كما كان يمهله من قبل، وإنما سعى إليه حثيثا، وسمع الملك صوت طائفه ذاك يقول: «كلا، لا تفكير الآن ولا يقظة. لقد أودعتك شهرزاد إلى النوم! وردك النوم إليها حينا، فستعود إلى النوم حتى تستردك منه شهرزاد كما تقدم إليك وعدها أمس.»
Неизвестная страница