ويهم الملك أن يقول شيئا، ولكن شهرزاد تضمه إليها رفيقة به وتقول له في صوت فاتر ساحر: «لا تقل شيئا يا مولاي! فقد خلصت نفسك لي كما خلصت نفسي لك منذ الليلة. انظر إلى هذا الزورق يا مولاي! إنه يدعونا فلنجب دعوته. إنك لن تستجيب له حتى تنحسر عنك أيامك المثقلة بالهموم والأحزان والتجارب، وإني لن أستجيب له حتى أعود كما كنت قبل أن أتحداك وأتحدى عندك الملك والموت والحب جميعا. هلم يا مولاي لنعد إلى شبابنا القديم النقي الذي لا يدنسه إثم ولا تشوبه فتنة ولا تثقله تجربة، وإنما هو ناصع كضوء الشمس، رقيق كضوء القمر، حلو كابتسامة العذراء.»
ويرى الملك نفسه مع شهرزاد في زورق من هذه الزوارق الرائعة التي تسبح في الماء والضوء والموسيقى والغناء جميعا، ولكن ماذا؟ هذه يد تمس كتف الملك، وهذا الملك يثوب إلى نفسه فجاءة، وإذا هو نائم في مكانه من زورقه ذاك قد غلبه النوم على شعوره المستمتع بما كان يجد من لذة ونعيم، ثم ردته اليقظة لا إلى شعوره ذاك، ولكن إلى صوت يعرفه لأنه سمعه قبل ذلك، وإذا هذا الصوت يقول: «فلما كانت الليلة الثانية عشرة بعد الألف قالت شهرزاد.»
ثم ينقطع الصوت، ويمد الملك عينه ويمد سمعه، فيرى شهرزاد مغرقة في نوم هادئ، ويسمعها تقول في صوتها الرائع الحلو: «بلغني أيها الملك السعيد أن فاتنة قالت لأبيها: ذلك سري الذي ستفهمه حين أزيل عنه الستار.»
5
وملوك الجن يا مولاي لا يحتاجون إلى ما يحتاج إليه ملوك الناس حين يكتب بعضهم إلى بعض من قطع الآماد البعيدة في الأوقات الطويلة؛ ليظهر بعضهم على رسائل بعض، ولكن لهم فنونا من الحيلة يقطعون بها أبعد الآماد في أقصر الأوقات، يكون أحدهم في أقصى الشرق فيبلغ ما يريد لصاحبه في أقصى الغرب قبل أن يرتد إليه طرفه، لا تعوقه مسافة، ولا تصده أمواج البحر ولا عقاب البر ولا عواصف الجو، كأن لهم أرواحا تسعى بينهم بالرسائل؛ فكلهم بعيد من صاحبه إلى أقصى غايات البعد، وكلهم قريب من صاحبه إلى أدنى آماد القرب.
وما أكثر ما يأخذ الناس عن الجن! ولكن ذلك لا يتأتى لهم إلا بعد الجهد والمشقة، وحين يخطر لروح من أرواح الجن أن يتألف فردا من أفراد الناس، ومن يدري يا مولاي! لعل الناس فيما يستقبل من الأيام أن يتعلموا من الجن وسائلهم هذه في استخدام الأرواح، يتواصلون بها على بعد الشقة وتنائي الآماد.
ومهما يكن من شيء يا مولاي، فقد أقبل وزير الملك طهمان بن زهمان قبل أن يفرغ الملك من حديثه إلى ابنته، وجلا يخفي وجله في كثير من الجهد، ومذعورا يسر ذعره في كثير من العناء.
فلما مثل بين يدي الملك والأميرة قال في صوت متهدج مضطرب: «لقد أبلغت تحدي مولاتنا إلى ملوك الجن جميعا في البر والبحر والجو؛ فكلهم قبل التحدي، وكلهم أنذرنا بحرب تبدأ الآن، ولكنها لن تنتهي فيما يقولون إلا حين تستأسر مولاتنا للمنتصر.» ثم وقف واجما ذاهلا لا يكاد يعقل شيئا، بل لا يكاد يأتي حركة.
فنظرت إليه الأميرة باسمة ساخرة، وقالت في صوت المتضاحكة: «ثم ماذا أيها الوزير؟»
قال مضطربا متلعثما: «ثم إني أقبلت يا مولاتي أرفع الأمر إلى مولانا وإليك وأتلقى أمركما.»
Неизвестная страница