وكانت شهرزاد قد هيأت للملك نعيما لم يكن يقدر أنه سيتاح له في يوم من الأيام، منذ حمرة الدماء تلك التي كانت تصبغ في نفسه أعقاب الليل ووجه النهار من كل يوم، فقد كان منذ تلك الأيام السود والليالي البيض قد ألف الحزن حتى لا يفلت منه إلا الحين بعد الحين، حين كانت شهرزاد تقص عليه بعض أحاديثها أو تمتعه ببعض ما كانت تهدي إليه من سعادة حينا بعد حين. فأما نعمة البال ورخاء العيش وراحة الضمير وهدوء النفس المتصل، فقد كانت أشياء حرمت على شهريار وقطعت بينه وبينها الأسباب، فلما تقدم النهار وكاد أن ينتهي أقبلت شهرزاد بالملك على غرفة من غرفاتها في القصر وهي تقول له عابثة به: «ستعلم يا مولاي أنك لا تعرف من قصرك هذا إلا أقل ما فيه، وإني لأرجو أن يدعوك ذلك إلى التفكير فيما تعرف من أمور الملك والرعية؛ فإنك إن جهلت أمر قصرك وحاشيتك أيسره كنت خليقا أن تجهل من أمر ملكك ورعيتك أكثر مما تعلم، وكان الحكماء يقولون في قديم الزمان وسالف العصر والأوان: إن من أراد أن ينهض بالواجب في أي أمر من الأمور، خليق به أن يعرف ما هو مقدم عليه ويتبين دقائق ما هو ناهض به وحقائق ما هو مدبر له، وألا يقدم إلا عن بصيرة، ولا يعمل إلا عن علم، وما أعرف يا مولاي غرورا كغرور الذين ينهضون بتدبير أمور الناس وهم لا يعرفون من دخائل هؤلاء الناس شيئا، أو هم لا يعرفون منها إلا أقلها وأيسرها. إنهم يأمرون دون أن يقدروا مقدار احتمال الرعية لما يصدرون إليها من أمر، وإنهم ينهون دون أن يعرفوا إلى أي حد تطيق الرعية أو لا تطيق أن تنأى عما تنهى عنه؛ لأنهم لا يعرفون نفوس الرعية ولا يبلون طاقتها ولا يقدرون حاجتها، ولكني كنت أنهاك صباح اليوم عن الفلسفة فيما بعد الطبيعة، وها أنا ذي أخوض بك مساء اليوم في فلسفة الحكم وتدبير أمور الرعية كأني حديثة عهد بقراءة أفلاطون وأرسطاطليس، فلنعد إلى ما كنا فيه يا مولاي، فإني أريد أن أظهرك من قصرك على أشياء لم تكن تعرفها ولم تكن تقدر أنك ستعرفها.»
قال الملك وقد اشتدت حاجته إلى الاستطلاع: «فأظهريني إذا على ما تريدين أن تظهريني عليه.»
فقالت: «على رسلك يا مولاي، فما ينبغي أن تجري الأمور على ما تحب دائما، والعلم لا يبلغ إلا بعد الجهد في طلبه واحتمال العناء في تحصيله، وإني مدخلتك في هذه الغرفة وتاركة لك البحث في أنحائها وأرجائها ما وجدت إلى البحث سبيلا، فإذا أعياك البحث وأضناك الجهد فإني مشترطة عليك بعض الشروط لأريك ما لم تكن تتصور أنك ستراه.» ثم دفعت باب الغرفة فاندفع، ونظر الملك فلم ينكر في الغرفة شيئا ولم ير فيها شيئا خليقا بالالتفات، ولكنه مع ذلك جعل يجيل طرفه هنا وهناك، ويطيل النظر إلى بعض ما في الغرفة من أداة وأثاث يريد أن يخيل إلى شهرزاد أنه يبحث ويستقصي ويجد في البحث والاستقصاء، ثم يعترف لها بعد ذلك بأنه لم يصل إلى شيء، وإنما كان في هذا كله مخادعا يريد أن يتعجل العلم بما أعدت له شهرزاد من أسرارها المخبأة.
ولكن شهرزاد ضحكت للملك ضحكة فاترة لا تخلو من بعض الغيظ وقالت: «لست جادا يا مولاي، وإنك لتعرف أني لا أخدع ولا يغرر بي، وإنك لتعرف أني لا أكره شيئا كما أكره الكسل العقلي، وهذا الطور الذي يحصل عليه المترفون من أطوار الحياة حين ينتظرون أن يقدم إليهم الهين واليسير مما يريدون، لا يتكلفون فيه جهدا ولا يحتملون فيه عناء، فقد أنبأتك يا مولاي بأني سأقوم منك الآن مقام الساحرة الماهرة التي ستظهرك على الأعاجيب؛ فلا تتعجل هذه الأعاجيب، ولكن خذها بحقها، وأبلغها من طريقها، واحتمل في سبيلها ما ينبغي أن تحتمل من جهد، فإن لم تفعل خرجنا من هذه الغرفة كما دخلناها، وانصرفت بك إلى غير ذلك من فنون اللهو والمتاع، فما أكثر ما في القصر من فنون اللهو والمتاع!»
قالت ذلك ثم ضربت إحدى يديها بالأخرى فأقبلت الوصائف مسرعات يستبقن، كأن وجوههن فلق الصبح، وكأنهن لخفتهن ورشاقتهن لا يسعين على الأرض وإنما يسعين في الهواء، فلما رآهن الملك مقبلات سيء بهن وضاق بهن ذرعا، وكاد بعض ذلك يظهر في وجهه لولا فضل من حياء فرضه عليه أدب الملوك، فقد كان في جمالهن البارع وحسنهن الرائع منظر أنيق للعين وفتنة خلابة للنفس، ولكن محضرهن كان خليقا أن يصرف الملك عن شهرزاد أو يصرف عن الملك شهرزاد، وكان أبغض شيء إلى الملك وأشقه على نفسه أن ينصرف عن فتنته أو أن تنصرف عنه فتنته، فلما رأى الوصائف مقبلات لم يرتح لمقدمهن، ولكنه أمسك نفسه على ما لا تحب وانتظر حائرا أو كالحائر.
على أن انتظاره لم يطل؛ فقد أقبلت إليه رئيسة الوصائف، فحيت وقالت في صوت عذب: «أيأذن مولاي في أن يبدأ الحفل؟»
قال الملك دهشا متمالكا مع ذلك: «أي حفل يا ابنتي؟»
قالت الوصيفة: «كنت أظن أن مولاتنا قد آذنت الملك بما هيأت له.»
قالت شهرزاد في شيء من الغضب: «فإني لم أوذن الملك بشيء، فأمضين ما أمرتن به.»
منذ هذه اللحظة نقل الملك من حياة إلى حياة، ومن عالم إلى عالم، لم يدر كيف كان ذلك، ولم يستطع فيما استقبل من أيامه أن يصور لنفسه أو لغيره كيف كان هذا الانتقال، وإنما ذكر إلى آخر أيامه أن صوت شهرزاد لم يكد ينقطع بهذه الجملة المغضبة حتى شاع في الغرفة جو غريب قوامه أنغام موسيقية عذبة نفاذة إلى أعماق الضمائر أخاذة بمجامع القلوب.
Неизвестная страница