1
و«هدسون»
2
وكلاهما مشبع الذهن بنظرية التطور، فقد بدأ ولز حياته الأدبية بتأليف كتاب عن تشريح الأدب، وهو الآن يؤلف عن الآلهة تخرج من جسم الإنسان نقية طاهرة من أدران الحيوان، أما هدسون فقد استأنف حياة جديدة للأدب الإنجليزي بأن فتح له باب الطبيعة على مصراعيه، فهو أديب من عشيرة الأدباء الجديدة التي ستكثر في المستقبل ويتناول أدبها درس العلوم كأنها فن من فنون الأدب، بل كأنها الأدب كله؛ فهو يكتب لك عن القط والأسد والغراب والجبال والأنهار والإنسان، وسائر ذلك الملكوت العظيم الذي حرمنا منه أدباء العرب بتأليف الكلام استحسانا للجرس اللفظي، ولبريق الكنايات والاستعارات.
ولكن قبل أن نصف «طوبى» كل من ولز وهدسون، يجب أن نلقي نظرة سريعة على طوبى أخرى من الطوبيات التي تولدت من القرن التاسع عشر، نعني بها طوبى «موريس»؛ لأنها أشبه بالقرن التاسع عشر منها بالقرن العشرين، وقد كان موريس اشتراكيا تمذهب بهذا المذهب لبواعث فنية؛ فإنه وجد أن النظام الاقتصادي الحاضر - بما فيه من مزاحمة شديدة - يبعث الصانع على أن يصنع أرذل المصنوعات وأسخفها لكي يروجها في السوق، وأن صاحب العمل يستغل عماله إلى أقصى حد، فيعملون ساعات طويلة ويتناولون أجورا قليلة؛ ويعيشون لذلك أضنك عيشة وأزراها. وكان هو نفسه سري الذوق عصامي النزعة يلبس القميص الحريري ويصنع التزاويق المذهبة والحروف الملمعة لأغلفة الكتب، فكانت نزعته إلى الاشتراكية نزعة الرجل البار الذي زكت نفسه وسخت حتى يريد أن يرى في مدينته ما يراه في بيته من جمال ولمعة وسرور، ويجب أن يرى في سائر البشر ما يراه في نفسه من ثقافة وصحة، يلبسون ما يلبسه من حرير، ويعيشون في رفاهية بل في ترف، ومثل هذه النزعة تهيئ الذهن لترسيم الرؤى الجميلة لولا ما يشوب عقل الاشتراكي من القناعة بالاشتراكية والرضى بآلامها.
ويبدأ وليم موريس
3
حلمه بأن يصف طوباه بأنها جاءت عقب ثورات تطهرت فيها مما كان يلوث القرن التاسع عشر، فهو يرى ناسا يجمعون النقود، كما تجمع التحف والعاديات لا للتعامل، ويرى النساء في صحة وعافية يخالفن فيها نساء القرن الماضي اللواتي كانت تنطبع عليهن آثار البطالة أو الجهد من ترهل أو نحول، والمعيشة ساذجة؛ لأن الناس قد استغنوا عن جميع العروض التي كانوا يحتاجون إليها سابقا للمنافسة والمباهاة لا للحاجة الحقة.
وهم لذلك يعملون بلا كدح؛ لأن حاجاتهم قد قلت حتى صار القليل من العمل يكفي لسدادها، وقد عادوا مع ميلهم إلى إتقان العمل إلى الصناعات اليدوية، وليس معنى هذا أنهم استغنوا عن الآلات، ولكنهم عرفوا أن القماش المنسوج باليد على مهل خير من ذلك المنسوج بالآلة؛ إذ هو أمتن وعليه من شخصية صانعه طابع خاص، وقل مثل ذلك في عدد كبير آخر من الصناعات، ثم إن الصانع الذي يعمل سلعة ما بيديه، يشرع فيها من البداية، ويتم أجزاءها قطعة بعد قطعة حتى تتم، يرى في عمله من اللذة ما ترى الأم في تربية ابنها، أو ما يرى المؤلف في تأليف كتاب، أي إنه يشعر في نفسه بلذة الخالق للشيء الجديد، بخلاف ما نرى في مصانعنا الكبرى الآن؛ حيث يختص عامل بجزء من العمل لا يتعداه، يصنعه مكرها، ولا يقبل عليه إلا بمقدار ما يجذبه الأجر.
ثم إن السذاجة التي اقتضت الرجوع إلى الصناعات اليدوية، وإلى تقليل الحاجات قد اقتضت أيضا إلغاء المدن الكبيرة والاستغناء عن المركبات والقاطرات العظيمة؛ لأن كل بلدة تستنفذ مما تنتج كل ما تحتاج إليه، ولم يبق من أطلال لندن العظيمة سوى بناء البرلمان الذي صار الآن مخزنا لروث البهائم، والعامل قليل العمل ولكنه يشتغل بوحي الفن، فهو لا يصنع السلع للتجارة، ولكنه يتذوق ويجود فيها تجويد صاحب الفن الملهم، ونقول بعبارة أخرى: إن «توماس مور» تخيل مثله الأعلى في رجال كلهم عالم أو باحث أو طالب علم، أما «وليم موريس» فإنه تخيلهم رجال فن يقضون أكثر وقتهم في تجميل مدنهم، والتذوق في تشييد منازلهم وصنع تماثيلهم وتحفهم.
Неизвестная страница