ثم يقول: «إن خوف الحاجة هو الذي يوجد النهم والطمع في نفوس الحيوان، ولكن إلى جانب الخوف نجد عند الإنسان خصلة أخرى هي الكبرياء؛ حيث يتوهم الإنسان أن تفوقه على غيره في الأبهة مما يزيد في مجده وعظمته، ولكن ليس أحد يسعه أن يفعل ذلك في الجزيرة.»
فتوماس مور لا يحلم بشيوعية النساء - كما حلم أفلاطون - ولكنه يحلم بشيوعية الأملاك؛ وهو لكي يحقق هذه الشيوعية يلغي النقود؛ فالناس يأخذون حاجاتهم بدون ثمن.
وفي كل عام يجتمع القضاة (وهم الحكام أيضا) في العاصمة «أموروط» فينظرون في غلات كل منطقة، ويرسلون إلى المناطق المحتاجة إلى بعض السلع ما تحتاج إليه من فائض المناطق الأخرى.
وليس للذهب أو الفضة أو الجواهر قيمة عند أهل الجزيرة؛ ولذلك فالرؤيا كما يراها توماس مور لا تقاس إلى رؤيا يوحنا، من حيث الزينة واللآلئ، مع أن الأولى يقصد تحقيقها في هذا العالم والثانية لا تتحقق إلا في السماء، وغريب أن يدعو رجل الدنيا إلى ملكوت خلو من الزينة والجواهر، في حين يدعو إليها رجل الدين في ملكوت السماء.
أما «أموروط» عاصمة الجزيرة فتقع على تل وحولها سور، والمنازل مشيدة على نسق واحد حتى كأن الشارع بناء واحد، وسعة الشارع عشرون قدما، ووراء كل منزل حديقة يعنى السكان بها ويتعهدونها حتى تبقى في نضارة دائمة، وفي كل شارع قاعات خاصة مبنية على مسافات متساوية، يقيم فيها القضاة (الحكام) وكل منهم ينظر في شئون ثلاثين عائلة نصفها في جانب من الشارع والنصف الآخر في الجانب الآخر.
وفي هذه القاعات يتناول جميع السكان غذاءهم، ويقوم بطهي الطعام نساء الثلاثين عائلة بالتناوب، وإلى جانب هذه القاعة معبد، ومكان آخر للعب الأطفال الذين تأتي أمهاتهم للطبخ في نوباتهن.
ولننظر الآن في حكومة هذه الجزيرة، فالعائلة هي أساس المجتمع، وكل ثلاثين عائلة تختار كل عام قاضيا، ولكل عشرة قضاة رئيس. وجميع قضاة الجزيرة الذين يبلغون 200 يختارون أميرا، وتكون إمارته مدة حياته ما لم يتهم بمحاولة استعباد الأهالي، ولكي يمنع الأمير أو غيره من محاولة قلب نظام الحكومة، يعرض كل مشروع على جميع السكان، فإن القاضي يعرضه على العائلات الثلاثين الداخلين في اختصاصه، ثم يتناقشون فيه ويرفع هو قرارهم إلى مجلس الشيوخ.
والعائلة كما رأيت ليست وحدة بيتية فقط، بل هي أيضا وحدة صناعية، فإذا سارت قاعدة للانتخاب ضمن النظام الديمقراطي للحكومة ضمن بذلك بقاؤها.
ولكن في هذا الحلم أشياء جديرة بالانتقاد لم يستطع توماس مور أن يخرج فيها عن حكم بيئته، فلم يدرك مثلا أن تكاثر السكان، مع العناية بصحة الأهالي وتوافر الغذاء لهم، سيؤدي حتما إلى أن يفيض السكان على طعامهم وإلى إيجاد الفاقة بين جميع السكان، وهذه غلطة يعذر فيها توماس مور، فإن الوفيات في عهده كانت كثيرة تكاد تعادل المواليد، فلم يكن يخطر ببال أحد أن يتخيل مثلا أعلى للمجتمع يحدد فيه عدد السكان، وإن كان ذكاء أفلاطون قد جعله يحسب لهذا الاحتمال ويوصي بقتل الفائضين من الأولاد.
ويظهر من مسائل أخرى عالجها توماس مور أن مستوى المثل الأعلى عنده لم يكن عاليا إلى الدرجة التي يمكننا أن نتخيلها، ويظهر هذا خاصا في معالجته مسألة انتقال الأهالي من مكان لآخر ومسألة الحرب.
Неизвестная страница