وأما قابس هذه الحكم، وناظم عقدها، فهو مستغن عن التعريف بما بذله من جهود موصولة آتت، ولا تزال، تؤتي ثمارها كل يوم، فقد أسهم صاحبها في بناء نهضة الشرق الثقافية بأوفى نصيب، ولا زال الجميع يذكرون ما أفادوه من «معاجمه العصرية» من ثمرات لغوية ميسرة الجني، دانية القطوف، وما أفادوه مما نشره، ولا يزال ينشره، للصفوة المختارة من أعلام المؤلفين والمترجمين.
وقد عرفه شيوخ العصر - منذ حداثتهم - كما عرفه شباب الجيل، بما أسهم في وضع الأساس الثقافي، وما بذل في سبيل الفصحى من جهود مضنية، أجرها عند الله.
هذا بعض ما يقال في هذا الأثر النفيس، وقابسه البارع، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، كما يقول المثل العربي القديم.
الطمع قلما جمع
طاف الشحاذ متوكئا على عكازته الطويلة، يتسول متنقلا من باب إلى باب، حاملا تحت ذراعه كشكوله العتيق البالي؛ ليلقي فيه ما يجود عليه به المحسنون، فكان يدلف من دار إلى دار، مستجديا «أهل الخير والإحسان» بنداءاته المألوفة، وأدعيته المعروفة؛ كأن يطلب من الله أن «يجعل دار المحسنين عامرا»، أو يذكر السامعين بأن «من قدم إحسانا بيديه التقاه»، أو بأن «الدنيا إلى زوال، وكل ما عليها فان، ولا يبقى منها غير وجه ربك ذو الجلال والإكرام»، أو بأن «القناعة كنز لا يفنى» أو بأن «ما عند الناس ينفد وما عند الله باق!»
1
وكلما مر بدار أخذ يناجيها بما يعن له من الآراء الفلسفية التي تتصل بالأنظمة الاجتماعية وعيوبها، خصوصا ما يتعلق بالأغنياء الذين لا يكتفون بما عندهم من مال وعقار، بل يدأبون في طلب المزيد ارتكانا على ما في هذه الأنظمة من الشرائع والقوانين الجائرة التي لا تحد من جشعهم.
وفي يوم ما، بينما كان يجول جولته المعتادة، وقف أمام دار مغلقة الأبواب والنوافذ، وأخذ يوجه إليها نجواه، قائلا: «في هذه الدار الخاوية كان يسكن التاجر الغني السيد «عبد الغني»، الذي لم يقنع بما حازه من خير كثير، فأخذ يعد سفنا لسفرة يئوب منها بأضعاف ما كان له من مال، ولكن السفن التي أنفق كل ما كان عنده في سبيل إعدادها، عصفت بها الرياح، فغرقت وابتلعها اليم بكل ما كان فيها.»
وسار قليلا ثم وقف أمام دار أخرى، ليس بها نافخ ضرمة،
2
Неизвестная страница