ثم أدنت القدح من شفتيها الورديتين الرقيقتين فمنحته قبلة طويلة لم تبق فيه راحا ولا روحا، ثم ردته مسرعة حازمة إلى موضعه من المائدة كأنها قد أعرضت عنه ونفرت منه وضاقت به ولم يبق لها فيه أرب، فهي تنبذه نبذا وتلقيه إلقاء.
وكانت - فيما علمت - أهوى الناس للهو وأصباهم إلى اللذة وأنشطهم للشراب، وكانت - فيما علمت - إذا صحت أحرص الناس على الصمت وألزمهم للهدوء، وإذا انتشت أرغب الناس في الحركة وأقدرهم على الكلام، وكانت تصحو ما رأت الشمس، فإذا أقبلت ظلمة الليل فزعت إلى الشراب تلتمس عنده الأمن والأنس وتفر إليه من نفسها ومن الناس، كأنما كانت شمس النهار تؤنسها وتبعث فيها الدعة والطمأنينة فلا تشفق من شيء ولا تخاف شيئا، فإذا انحدرت الشمس إلى مبيتها وبسط الليل رداءه المظلم، أحست وحشة لا تزيلها إلا هذه الشمس التي تصب من الزجاجة في الكئوس والأقداح والتي لا تكاد تبلغ الشفاه حتى تجري مع الدم وتسري إلى النفس، فإذا كل شيء نور ودعة وأمن واطمئنان.
ولم يكن القدح الأول قادرا على أن يخرجها من هذه الوحشة التي تلم بها مع الليل، وإنما كان يعدها للخروج منها إعدادا، ويهيئها للمرح تهيئة، كان يحل عقدة لسانها ولكنه لا يطلق هذا اللسان، وكان يلقي على وجهها رداء رقيقا ولكنه قوي من الحياة والنشاط، وكان يبعث في نظراتها قوة وسحرا، وكان الناظر إليها يحس كأن قوة حلوة ولكنها عنيفة تريد أن تنبعث من هذا الوجه الجميل ومن هاتين العينين الساحرتين ومن هذا الفم العذب، ولكنها في حاجة إلى حركة رشيقة يسيرة أشبه بحركة الأصبع حين تمس زرا من أزرار الكهرباء فتبعث الحرارة والضوء، ولم تكن هذه الحركة الرشيقة إلا أن تمتد يدها اللطيفة إلى القدح الثاني وقد هيأه لها الساقي فترفعه إلى شفتيها وتحسو منه حسوة واحدة.
هنالك يلقى الستار، وهنالك تتجلى نفسها من ورائه كأكمل ما تكون قوة ونشاطا وجمالا.
وكانت قوتها منذ هذه الحسوة الأولى من القدح الثاني حرية كلها: حرية في اللحظ واللفظ، حرية في هذه الخواطر الشاذة الجامحة التي لم تكن تعلن نفسها في صراحة أول الأمر، وإنما كانت ترتسم على وجهها صورا متعاقبة مسرعة يراها الناظرون إليها فتثير في نفوسهم شكوكا وأوهاما وأحلاما أيضا.
حرية في حركاتها التي تظهر وقد تجاوزت نفسها إلى جسمها كله، فإذا هي تلتفت إلى جلسائها عن يمين وعن شمال، ترمق هذا بنظرة وتلقي إلى هذا جملة، وإذا يدها بل يداها تمتدان عن يمين وشمال وإلى أمام تمسان هذا وتداعبان هذا، وإذا هذه الحركة تنبعث في جسمها كله، وإذا هي تنهض متهيئة للرقص، ترقص وحدها وتدعو من أحبت ليراقصها، حتى إذا أعيتها الحركة وأجهدها الاضطراب عادت إلى مكانها وأسرعت إلى قدحها فاحتست منه ما شاءت أن تحتسي، واستعارت من روحه روحا ومن قوته قوة ومن حياته حياة.
ولم يكن هذا الجمال الذي يرفع عنه الستار أقل انبعاثا في نفسها وجسمها من تلك القوة وهذا النشاط، ولكنه كان جمالا حرا كتلك القوة الحرة، جمالا سهلا سمحا لا يتحرج ولا يلتزم حدا ولا قيدا، جمالا كريما جوادا لا يحتشم ولا يحب البخل، وإنما هو دعاء إلى الفرح والمرح ودعاء إلى اللذة والبهجة والنعيم.
دعاء ينبعث من عينيها المتوقدتين اللتين تنفذان إلى أعماق القلوب فتضعان فيها جذوة ضئيلة لا تلبث أن تلتهب وتضطرم.
دعاء من هذين الخدين المتوردين اللذين يكادان يفيضان الحياة، واللذين لا تقع عليهما الأعين إلا أغرت بهما الشفاه.
دعاء من هذا الفم الضيق الجميل الذي يسحر الآذان بما يساقط من لؤلؤ الحديث كما يقول الشعراء، ويسحر العيون بما يحيط به من هذا الإطار الوردي الخلاب. والذي يمتزج فيه هذا الجمال الذي يبلغ النفس من طريق السمع، وهذا الجمال الذي يبلغ النفس من طريق العين، فإذا هو ينبوع لا يرقى إليه الوصف، ينبوع تصدر عنه موسيقى عذبة سهلة معقدة مع ذلك تسحر الأذن والعين والقلب والنفس جميعا.
Неизвестная страница