خفية، فإن غذاءه على حسب ما فيه من يسير العذوبة لأنا قدمنا البراهين على فساد غذاء كل طعم ليس له عذوبة، وأبعد الأشياء من الغذاء الأسطقسات لأنها بسائط كما بينا فيما سلف. فقد بان أن جميع الطعوم المخالفة للحلاوة لا تغذو إلا على قدر ما فيها من يسير الحلاوة.
فأما ما كان منها منافرا للحلاوة، فإنه لا يغذو أصلا وذلك لبشاعته ومنافرته لمزاج بدن الانسان، ولذلك احتالت الأوائل في (1) تركيب الطعوم بعضها ببعض وأدخلت على كل واحد منها ما يزيل عنه بشاعته ويكسبه طعما نستلذه. ولهذه الجهة قال جالينوس أنه ليس يعجب أن يكون طعامان كل واحد منهما في نفسه بشع غير لذيذ ولا مأكول، فإذا امتزجا واختلطا بضرب من ضروب الاختلاط، حدث بينهما طعم لذيذ. وقال أيضا: وليس بمنكر أن يكون طعام هو في نفسه غير لذيذ فإذا خالطه شئ آخر هو في نفسه غير طعام البتة، اكتسب حالا يستلذ بها مثل القرع فإنه مغث (2) غير لذيذ فإذا خالطه المري والفلفل وما شاكل ذلك مما ليس بطعام أصلا، استفاد حالا صار بها لذيذا. فقد يستدل على ذلك من الشاهد لأنا نجد الماء المحرق المفرط الحرارة والماء البارد المتناهي في البرودة كل واحد منهما منافرا للطبيعة مؤذ للحاسة، فإذا امتزجا تولد عنهما حرارة لذيذة مشاكلة لطبيعة الحاسة. فإن عارضنا معارض وقال كيف قال جالينوس: أن كل طعام مخالف للحلاوة لا يغذو أصلا وهو يقول: أن القرع والسلق وسائر البقول المسلوقة المخالفة للحلاوة إذا خالطها المري والفلفل والخل وسائر ما شاكل ذلك، صارت طعاما لذيذا، قلنا له: إن جالينوس لما قال أن الطعوم المخالفة للحلاوة لا تغذو لم يمنع أن يتركب منها طعم لذيذ لأنه إنما قال لا تغذو وإن صارت إلى حال تستلذ، لان الغذاء ليس هو ما كان لذيذا عند الحاسة فقط، بل إنما هو ما قبلته الأعضاء وهضمته ونقلته إلى طبيعة المغتذي وشبهته به، والطعم هو ما أثر في حاسة الذوق تأثيرا لذيذا، كان ذلك التأثير، لو بشعا، لذيذا. والبقول المسلوقة فلم تكتسب من المري والفلفل غذاء بل إنما اكتسبت (3) حالا يستلذ بها.
فأما الغذاء فإنما هو لها بما فيها من يسير الحلاوة وإن لطفت تلك الحلاوة وخفيت عن الحس، ففيما أتينا به وقدمنا ذكره أبنا عن الحلاوة أنها ألذ الطعوم وأقربها من مزاج المغتذى بها لمشاكلتها لمزاج بدن الانسان بالطبع لان الطعوم كما بينا على ضربين: إما مؤثرة في حاسة الذوق، وإما غير غير مؤثرة. فغير المؤثرة (4) هي التفهة التي لا طعم لها، والمؤثرة تنقسم ثلاثة أقسام: إما منافرة لحاسة الذوق بإفراط تفريقها المشاكلة في فعلها للماء المفرط الحرارة عند حاسة اللمس مثل الحرافة والمرارة والملوحة المفسدة للحاسة بإفراط تقطيعها وتفريقها. وإما مؤذية للحاسة بإفراط جمعها المشاكلة في فعلها للماء المفرط البرودة عند حاسة اللمس مثل العفوصة المؤلمة لحاسة الذوق بإفراط جمعها. وإما لذيذة عند الحاسة باعتدالها وتليينها ونفيها عن الحاسة الفضول المؤذية لها المشاكلة للماء الفاتر اللذيذ الفتورة عند
Страница 37