ولست أريد أن أسمي أحدا بذاته، لكنني أقول على سبيل التعميم ما لست أشك في صوابه، ولا أتجنى به على أحد، وهو أن هؤلاء القادة الأعلام، ما ينفكون يشككون الناس في العلم وقيمته، بل هم ما ينفكون يبثون في روع الناس بأن الإنسان مخلوق ضعيف عاجز، فإذا هو اعتمد على عقله في فهم أمور دنياه، فإنما يعتمد بذلك على قشة واهنة. وإذا كان هذا هو ما يكتبونه ويذيعونه يوما بعد يوم، فماذا نتوقع من جمهور الناس إلا أن يغوصوا في الوهم إلى أذقانهم، فيظل المجتمع حيث هو، لا يخطو ليجتاز عتبة عصره، ليكون من أبنائه. وقف المجتمع حيث كان، «فلا اقتحم العقبة» التي تحول دون تحرره من أوهام نفسه، ليثق بنفسه وبعقله وبعلمه، إنسانا كما أراد له الله أن يكون.
وأما لماذا وقف المصري دون العقبة لا يقتحمها، فذلك لعلة أراها واضحة، وهي أن «علماءنا» لا يريدون هم أنفسهم أن يصدقوا علومهم، إلا وهم في معامل البحث العلمي، لكنهم إذا ما فرغوا من ذلك، تركوا «منهج» العلم في الأدراج، وانطلقوا مع الجمهور العريض فيما هو فيه. وكم من «عالم» جامعي رأيته وهو في إجازة من منهج العلم، يؤكد لك أن الشيخ الفلاني قد مد يده في الهواء فإذا هي ترتد إليه مليئة بما أراد من فاكهة أو مال أو من أي ممتنع آخر من الأشياء، ويؤكد لك أن الشخص الفلاني قد استطاع أن يعبر نهر النيل ماشيا بقدميه فوق الماء، «وبالأمارة» حدث هذا ساعة الفجر عند ضاحية إمبابة، وكان الرجل سماكا اضطر إلى عبور النهر ولم يملك الوسيلة، ففتح الله عليه لتقواه، وكان ما كان من مشي على الماء! هكذا! قال لي - أنا كاتب هذه السطور - زميل جامعي ذات يوم. نعم، إنك قد تسمع من رجال العلم أنفسهم في مجتمعنا العجب، تسمع منهم حكايات عن أبناء الجن وبناته، وعن أرواح الموتى كيف تستحضر، وعن أشباح القبور كيف تروح وتغدو، فماذا - إذن - يبقى لجمهور الناس من ثقة في العقل وفي العلم وفي الإرادة البشرية، وفي قدرة الإنسان على صنع المعجزات؟
وإنه ليذهلك كما كان يذهلني، لما كنت أجده في خطابات ترد إلي ممن تخرجوا في كليات علمية، كالطب والهندسة والعلوم ، يراجعني فيها أصحابها كلما دعوت إلى التزام منطق العقل في الشئون العامة، محتجين دائما بأن العقل الإنساني محدود عاجز. فيا سبحان الله! أليس هذا العقل المحدود العاجز هو نفسه الذي نهتدي به في المشروعات الصناعية وعلاج المرضى وبناء الجسور وغيرها؟ فلماذا لا يكون هو نفسه منطق العقل الذي نتخذه أداة في حل مشكلاتنا السياسية والاجتماعية وما يدور في فلكها؟ إلا أن علة العلل هي أن متعلمينا يدرسون العلوم في المدارس والجامعات، لكنهم يدرسونها بنصف إيمان.
ونسأل أنفسنا لماذا لم يتغير المجتمع برغم الجهود الجبارة التي تبذل في التعليم؟ (والسائل هو وزارة التعليم نفسها)، والجواب أمامي واضح، وهو أننا إذا علمنا من علمناهم، لم نحرص على أن يكون العلم مقرونا بمنهجه؛ بحيث يصبح ذلك المنهج عمادا للحياة العامة في شتى أوضاعها. ومن أجل هذه الثغرة البشعة في أسلوب التعليم، استطاع المتعلم أن يفصل بين العلم ومنهجه، فنراه يحيا حياة علمية بمنهج العلم في مكان، ثم يحياها بغير منهج العلم في مكان آخر، فينتج الوهم عندئذ وينتج التخريف؛ ولهذا لم يعد عجيبا أن ينطفئ العلم في مجتمعنا، فيصبح علما بغير نور يهدي.
وإذا نحن تعمقنا الأمر إلى أعمق جذوره، وجدنا أن البناء الفكري الذي نقضي حياتنا بين جدرانه، قائم على هيكل ذي ثلاث درجات، وموضع الإنسان منها في الدرجة الوسطى، تعلوه السماء في الدرجة ثم تتلوه الأرض، أو قل الطبيعة بأسرها. ولقد خيل للإنسان وهو في موضعه ذلك، أنه إذا اتجه إلى السماء بقلبه، كان عليه أن يدير ظهره إلى الأرض وما عليها، وأما إذا اختار أن يتجه بعنايته نحو الأرض، كان في ذلك إغفال منه نحو السماء. وبعبارة أخرى، فإن الإنسان لا يستطيع الشخوص ببصره نحو السماء ونحو الأرض في آن معا، لأنه إما أولى وإما آخرة، إما دنيا وإما دين، كأن الطرفين ضدان لا يجتمعان في إنسان.
هكذا أقيم لنا البناء الفكري في القرون الثلاثة المظلمة، التي سبقت مولد نهضتنا الحديثة. ونسوق مثلا يصور لنا هذه النظرة العجيبة، ذلك الموقف حين أخذ العلماء الفرنسيون الذي صحبوا نابليون في حملته على مصر يعرضون أجهزتهم العلمية على جماعة من الشيوخ، مستهدفين في ذلك أن يلقوا الروع في نفوسهم إذ هم يرون من العلم الجديد ما لم يكن لهم به عهد، ففاجأهم شيخ بسؤال: هل منكم من يستطيع أن يكون معنا هنا، وفي بلاد المغرب في آن واحد؟ فدهش العلماء الفرنسيون للسؤال الذي يطلب المحال، لكن الشيخ أنبأهم بأن أهل الخطوة من المؤمنين يستطيعون ذلك، فأين - إذن - علم الفرنسيين من علم المؤمنين؟
هكذا كان الوهم الذي عشناه. وأخشى أن يكون هو نفسه الوهم الذي نعيشه اليوم، وهو أن للمؤمنين علما، وأن لغير المؤمنين علما آخر؛ فللأولين دين، وللآخرين دنيا، ولا اجتماع بين الطرفين، فكان ما كان من ازدواجية عند جمهورنا وعند علمائنا على السواء، وهي الازدواجية التي جعلت التعليم في مدارسنا بغير علم، أو جعلت العلم بغير منهج، أو جعلت التنوير بغير نور، فكنا كأولئك الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.
إن مجتمعنا ليتغير بالتعليم «كما تريد له وزارة التعليم في ورقة التطوير» إذا عالج المتعلم مشكلات الحقل والمصنع وديوان الحكومة والشركة والمؤسسة والبيت وكل منحى من مناحي الحياة بالطريقة ذاتها التي وجدها متمثلة في العلوم كما درسها في المدرسة أو في الجامعة، أعني أن يتخرج المتعلم وفي رأسه «منهج» علمي يلتزمه في العلم وفي غير العلم من شئون دنياه.
وإن مجتمعنا ليتغير مع ازدياد عدد المتعلمين، إذا ما أخرجنا المتعلم وقد آمن بأن العمل الجاد المنتج عبادة، وليس هو بالمعلم المؤمن المتعبد، إذا لم يجعل من علمه أداة لإسعاد الناس. واختصارا فإن المجتمع يتغير على أيدي متعلميه، إذا استطاعت المدارس والجامعات أن تعدل من هيكل البناء الفكري الذي ورثناه من مرحلة الظلام؛ بحيث تردنا إلى ما كانت عليه الحال عند أسلافنا إبان عزهم. وعندئذ يجد المتعلم أن عبادة ربه تتضمن النظر الفاحص في الأرض، وأن العلم والعمل به عبادة يقتضيها الإيمان بالدين.
لقطات على الطريق
Неизвестная страница