إنني لأعترف بأنني تمتعت أيما متعة بمسرحية توفيق الحكيم الجديدة «يا طالع الشجرة»، لكنها كانت متعة المسحور.
هيكل البناء
وجدتها عبارة ذات أبعاد وأعماق، تضع أصابعنا على موضع من مواضع العلة في بنائنا الفكري، وتلك هي العبارة التي وقعت عليها في سباق ورقة التطوير التي تقدمت بها وزارة التعليم، لتكون محورا، قد ينتهي بنا إلى إصلاح الآلة التعليمية الضخمة في بلانا؛ فهي تقول:
لقد نجح التعليم - إلى درجة ما - في تغيير مواقع الأفراد، الذين أتيحت لهم فرص الحصول عليه، لكنه - فيما يبدو - لم ينجح بنفس الدرجة في تغيير مواقع المجتمع، ودفعه على طريق التنمية الشاملة.
ولو أردنا أن نجسد المعنى المقصود في صورة محسوسة، لقلنا إننا كمن يسكن دارا تداعت من القدم جدرانها، وصدئت فيها أنابيب المياه وصنابيرها، وتشققت أبوابها ونوافذها، ثم أردنا الإصلاح، فأخذنا نغير مواضع بعض الأثاث، فما كان غرفة للطعام جعلناه غرفة للجلوس، ونقلنا بعض أدوات المطبخ إلى غرفة النوم، وبعض ما كان في الحمام إلى المطبخ، ثم نظرنا فإذا الدار لم تزل هي الدار:
يسيل الماء من الأنابيب والصنابير، ويدخل الغبار من الأبواب والنوافذ، ويتساقط من الجدران طلاؤها فتتعرى.
إننا خلال قرن كامل من الزمن قد لبثنا نغير «مواقع الأفراد» - كما تقول ورقة تطوير التعليم - فنجعل هذا طبيبا بعد أن لم يكن، وذلك مهندسا، والثالث مدرسا أو محاسبا أو رجلا من رجال القانون، فينتج عن ذلك - بالضرورة - حركة انتقال في عناصر الطبقات، فيعلو من لو ترك بغير تعليم لكان أدنى، أو يدنو من مكان أعلى. وفضلا عن هذا الضرب من تغيير المواقع بين الأفراد، فقد نتجت كذلك نتيجة أخرى أهم وأعظم، وهي أن توافرت لدينا أعداد ضخمة من الكفايات الفنية، في الطب والهندسة والتعليم والاقتصاد والقانون، وغيرها من أبواب التخصص المهني، وهي حقيقة لا ينكرها إلا مكابر جحود.
ومع ذلك التغيير، فقد لبث المجتمع على حاله، أو أوشك أن يكون. فكانت لنا هذه المفارقة العجيبة التي أشارت إليها ورقة التطوير؛ إذ وقع في حياتنا الفكرية والعملية ما لم يكن في الحساب أن يقع، وأعني أن فئة من الأفراد تغيرت إلى أعلى وإلى أمام، أما المجتمع في جملته، فيوشك أن يكون الآن في الموقع الحضاري نفسه الذي كان فيه منذ مائة عام، فكيف حدث ذلك ولماذا؟
أما كيف؟ فلعلنا في حاجة إلى مزيد من التوضيح، لنزداد فهما وتصورا للمعنى المقصود. حين نقول (مع وزارة التعليم) إن أفرادا كثيرين قد غيروا مواقعهم بسبب تعليمهم، لكن المجتمع في جملته - بما فيه هؤلاء الأفراد أنفسهم - لم يتغير إلا قليلا، فيقول: إن أهم معيار نقيس به درجة التغيير الذي أصابه مجتمع، هو مدى مشاركته في حضارة عصره وثقافته. وأظن أنه مهما اختلف الرأي في مميزات هذا العصر: ماذا عساها أن تكون؟ فثمة اتفاق شامل على أن النظرة (العلمية) إلى شئون الحياة (المادية) هي من أهم ما ينطبع به العصر. وإذا قلنا النظرة العلمية فقد قلنا بالتالي اصطناع منهج العلم، الذي من أركانه الأساسية أن يكون المعول على شهادة الحواس التي يتحقق لنا صوابها بالوسائل التي هي أبجدية العمل عند العلماء، وألا يكون المعول قط على أوهام الخرافة وضلالات الأحلام. فإذا وجدنا اليوم ما كان قائما بالأمس من تلك الأوهام أو الضلالات، قلنا إن المجتمع لم يتغير؛ لأنه لم يخط في عصره إلا خطو السلحفاة.
كنت أستطيع أن أسوق مثلا على تلك الأوهام أو الضلالات. قلنا إن منذ وقت غير بعيد، وهي أن رجلا من «المتعلمين» قد لحظ في بيته علامات من تحريك قطع الأثاث وتحطيم الأواني وما إلى ذلك، مما أيقن معه أنه لا بد أن تكون العفاريت في حالة حرب معه، فذهب يشكو إلى الشرطة! فهل حاولت الشرطة أن ترده إلى الصواب؟ لا، بل أيقنت معه بما أيقن، وأخذت تفكر في خطة تقهر بها هؤلاء العفاريت! نعم كنت أستطيع أن أسوق أمثلة كهذا المثل، على مقدار ما يحيط بحياتنا من أوهام الخرافة، فتبعدنا عن علمية النظر، لكنني أؤثر ذكر ما هو أهم وأدعى إلى القلق، وأعني قادة الفكر فينا وما ينشرونه.
Неизвестная страница