لكنه خطأ عميق الجذور واسع الانتشار، ودليل ذلك تلك الكراهية الشديدة التي ما ينفك جمهور الناس يبذرونها، إذا ما ذكر أمامهم تمجيد للعقل أو تعظيم للعلم الذي هو وليد العقل. لا فرق في هذه الكراهية العجيبة بين عامة الناس وبين من يسمون بجماعة المثقفين .
أقول إن الخطأ في رأيي واضح من عدة وجوه أولها وأهمها (من وجهة نظري) أن حقيقة الأمر الواقع ليست قسمة الطرفين - أعني العقل والدين - بين أهل الأرض؛ بحيث إذا ظفر أحدهم بنصيبه من العقل، ضاع عليه نصيبه من الدين أو العكس، إذا جاء نصيب أحدهم دينا فقد ضاع منه نصيبه من العقل. بل الصواب هو أن هذين الطرفين مهما يكن بينهما من تباين في الجوهر وفي المنهج؛ فهما يلتقيان معا في كل فرد من الناس. فكل إنسان عقل ودين معا، ثم يجيء الاختلاف بين الناس في الدرجة وحدها؛ فهناك من يقوى عنده جانب العقل ويضعف جانب الدين، وهناك من يقوى عنده جانب الدين ويضعف جانب العقل، وهنالك من يقوى عنده الجانبان معا، وهنالك من يضعف عنده الجانبان معا.
تلك واحدة، والأخرى هي أنه برغم اعترافنا بأن الدين قوامه «الإيمان» لا براهين المنطق العقلي، إلا أن ذلك لا ينفي إمكان إقامة تلك البراهين العقلية على صحة عقيدة دينية، من ناحية المنطق، بالإضافة إلى صحتها من زاوية الإيمان. وقصة «حي بن يقظان» لابن طفيل، هي من آيات الفكر العربي، وخلاصتها أن ما يصل إليه العقل الصرف بالنسبة للعالم المحيط بنا إنما هو نفسه الذي نزل به الوحي فقبلناه إيمانا.
وثالثا، إن جانب الدين عند الإنسان - عقيدة وشريعة معا - هو دائما ميدان يعمل فيه الإنسان عقله ليستخرج منه النتائج التي تنظم له حياته العملية. ولو كان العقل والدين عنصرين متنافرين، يأبيان أن يجتمعا معا في صدر إنسان واحد، لما أمكن لأحدهما أن يقام على الآخر، كالذي نراه حين يقام فقه الدين على منطق العقل.
إنني لو كنت لأصحح القول المنسوب لأبي العلاء: «اثنان أهل الأرض ...» لقلت: جانبان قوام كل إنسان، عقل ودين معا.
طبقات ثقافية
هن طبقات ثقافية ثلاث، لست أدري كيف يمكن أن يضاف إليهن رابعة. كلا، ولا كيف تحذف منهن واحدة. فقولوا ما شئتم في دمج الناس جميعا في طبقة واحدة، في ميادين الاقتصاد، والاجتماع، ومن حيث الحقوق والواجبات، أقل لكم : إلا الحياة الثقافية، فقد أراد لها الله أن تتفاوت أقدارها في تلك الطبقات الثلاث.
أولاها، وأعلاها، طبقة يغلب أن تكون قليلة العدد جدا بالقياس إلى جمهور الناس، يميزها أنها تتعاقب الأفكار إلى مقوماتها الداخلية جزءا جزءا، ولا تطمئن لها نفس إلا إذا قام على كل فكرة برهانها؛ فهي جماعة ترفض أن يقال لها عن فكرة - كائنة ما كانت - إنها «بديهية» تفرض نفسها على العقل فرضا، أو إنها معصومة عن الخطأ لأي سبب من الأسباب. فإما أن يقام على الفكرة برهانها، وإما أن تنحى حتى يأتيها ذلك البرهان. وما البرهان؟ البرهان المطلوب هو أن ترد الفكرة إلى مصدرها، ثم ترد ذلك المصدر نفسه إلى مصدره، وهكذا دواليك، إلى أن يبلغ بها آخر شوطها؛ وعندئذ ستجد نفسك في إحدى حالتين: فإما أن تجد أن آخر الشوط إنما هو مجرد فرض فرضناه، وها هنا تعلم أن السلسلة كلها ظنون في ظنون، وإما أن تجد أن آخر الشوط هو لقطة بإحدى الحواس من ظواهر الكون المحيط بنا؛ وعندئذ تعلم أن الأفكار التي بين يديك هي من ذوات المضمون الحقيقي الذي يجوز الركون إليه في دنيا العمل.
تلك - إذن - هي عليا الطبقات الثقافية الثلاث، وأما الطبقة التي تتلوها فجماعة تقف من الأمر موقفا وسطا، فلا هي تتعنت في طلب البراهين العقلية على كل شيء، ولا هي في الوقت نفسه تقبل أن تمضي المشكلة المعروضة بغير برهان. ولكن كيف؟ إن ذلك الموقف الوسط يتحقق لها على الوجه التالي: تقول لها - مثلا - كلمة «عدالة» أو كلمة «حرية» أو ما شئت من هذه المجموعة الضخمة من المعاني، التي لا هي في دقة المصطلحات العلمية من جهة، ولا هي من كلمات الحياة العملية اليومية الجارية، من جهة أخرى. والعجيب في أمر هذه المجموعة من المعاني، أنها هي التي تكون عادة مصدر اعتراك واقتتال وتعصب وتحزب بين الناس. أقول: إنك تذكر معنى من هذه المعاني لأفراد الطبقة الثقافية الثانية، فيكاد يستحيل عليهم أن يسألوا: ما معناه؟ إذ هم يأخذون اللفظة مأخذ التسليم بأن معناها معروف، ولا محل للسؤال. ومن ذا يريد أن يسأل - من أفراد هذه الطبقة - إن كان للمساواة، أو للعدالة، معنى محدد أو لم يكن؟ هم - إذن - يقبلون الأمر قبولا لا يحيط به شك، لكن الذي يطالبون به هو ما إذا كان موقف معين، أو حالة بذاتها، مما يكفل للناس تلك المساواة أو العدالة. كأنما الشك عندهم منحصر في عملية التطبيق وحدها، لا في مضمون المعنى الذي يراد تطبيقه. ومن هنا تأتي الخلافات الحادة بين الناس في هذه الميادين، فتراهم يقتتلون فيما بينهم عن «الحرية» - مثلا - أو عن «الديمقراطية» دون أن يكون في مستطاع أحد منهم أن يحدد لك معنى هذا الذي يقاتل في سبيله.
وأما الطبقة الثقافية الثالثة فهي عامة الجمهور، التي كفاها الله شر السؤال وشر القتال؛ فلقد أراح أبناؤها أنفسهم من وجع الدماغ، فلا هم يريدون برهانا على الفكرة الأصلية، ولا هم يريدون برهانا على سلامة تطبيقها.
Неизвестная страница