وملاحظة ثانية استوقفت سمعي مما أورده رحالة الصحراء، وهي أن المعادن لا تصدأ مهما طال بقاؤها، وذلك لشدة الجفاف؛ فلقد رأى كوما من علب الصفيح الفارغة، وكان قد مر عليها أكثر من عشرين عاما ملقاة في مكانها، فما وجد عليها أثرا لصدأ يعتم بريقها تحت أشعة الشمس، وكأنها خرجت لتوها من مصانعها.
وقليل من هاتين الملاحظتين - إذا صدقنا - ينتهي بالتأمل إلى نتيجة ذات أهمية بالغة عند من تشغله الخصائص الثقافية التي تميز الشعوب. وتلك النتيجة هي أن ساكن الصحراء قمين أن يخلص من بيئته برؤية تميل به نحو إلغاء «المكان» و«الزمان» من حسابه؛ أي إنه - بعبارة أخرى - لا يعول كثيرا في أحكامه على تباعد الأمكنة، ولا على تفاوت الأزمنة، بعضها عن بعض. فما يصلح لمكان ما، يصلح لكل مكان آخر، وكذلك، ما يصلح لزمان معين، يصلح لكل زمان جاء قبله أو يجيء بعده. أو قل - بعبارة ثالثة - إن ساكن الصحراء يجاوز ببصره وبصيرته معا، حدود المفردات الجزئية، ليصل من ورائها إلى «المطلق» الذي لا يحده مكان ولا زمان، والذي لا يتحول ولا يتبدل.
والأهمية التي نعلقها على هذه النتيجة - إذا صدقت - إنما تكمن في كون الأمة العربية من أقصاها في المشرق إلى أقصاها في المغرب، إنما هي ساكنة صحراء. فإذا رأينا وديانها قد اخضرت بالزرع هنا أو هناك، فما تلك الوديان الخضراء بأكثر من «واحات» في قلب محيط صحراوي عظيم. وإذا كان هذا هكذا، كان من حقنا بالتالي - أن نزعم للأمة العربية تلك الخصيصة الإدراكية فتكون لها رؤية خاصة تميزها من سواها، ثم تأتي بعد ذلك تفصيلات الفكر العربي، والذوق العربي تفريعات من ذلك الأصل المبدئي العميق.
على أن مثل هذا القول ليس بذي فائدة تذكر، ما لم نستطع أن نفهم تراثنا العربي على ضوئه، فنزداد بجوهره وضوحا، وما لم نستطع كذلك أن نهتدي بضوئه في رسم الطريق الثقافي الذي يجب علينا السير فيه، لنظل عربا لهم خصائص العرب.
أما أن تفهم تراثنا على ضوء تلك الرؤية المتميزة بطيرانها فوق رءوس الجزئيات المحدودة - سواء كانت أشياء مكانية أم فترات زمانية - مستهدفة في طيرانها ذاك، وصولها إلى «المطلق» الذي لا يتجزأ في نقاط، ولا يتقطع في لحظات، فأحسب أن ذلك أمر وارد وقريب. فانظر أول ما تنظر إلى لغتنا العربية في أصولها وجذورها تجد تجمع مفرداتها عناقيد يبدأ كل عنقود منها إلى أصل ثلاثي «في معظم الحالات»، وكأنما هي في ذلك تسعى إلى جد كبير واحد يضم تحت جناحيه أفراد أسرته اللغوية كلها في مجموعة مترابطة. فإذا ما استوثق العربي من ذلك الجد الكبير، سهل عليه بعد ذلك أن يشتق منه الأولاد والأحفاد. وأعني أن الأهم هنا هو معرفة الأصل المجرد البسيط؛ لأنه هو الكفيل بتوليد الفروع التي تتناسب مع مختلف الظروف والمواقف والأشياء كلما استحدثت لنا الأيام منها جديدا.
وانظر بعد ذلك إلى الأدب العربي الخالد - شعرا ونثرا - لترى كيف ارتكز ذلك الأدب في صميمه على أساس الفكرة المطلقة المجردة؛ فهي عنده أجدى من تعقب التفصيلات الجزئية الكثيرة فإذا أراد الأديب العربي وصفا «للإنسان»، كان سبيله إلى ذلك الغوص إلى لباب حقيقته ليصوغها في عبارة مكثفة قليلة الألفاظ يسهل حفظها في الذاكرة كما يكثر دورانها على الألسنة. فهذا الإيجاز المركز الغزير، في رأيه، أدوم بقاء من أوصاف جزئية ينثرها كاتب روائي في مئات الصفحات، ليصور بها فردا واحدا من الناس. وربما جاز لنا أن نقول إن الأديب العربي الأصل، يستند في رؤيته على «البصيرة»، بينما يستند زميله صاحب التفصيلات، على «البصر» وحتى لو ساق لنا أديب عربي من القدماء فكرته فيما يشبه القصص حرص على أن يجيء ذلك القصص رامزا إلى حقائق مطلقة ومجردة.
وبعد ذلك فانظر إلى الفن التصويري عند العرب الأولين تجده في كثير من حالاته وحدات هندسية؛ أي وحدات رياضية، يراد بها ما يراد من التفكير الرياضي كله من وصول إلى حقيقة لا تتعلق بمكان معين بالضرورة، ولا بزمان معين بالضرورة؛ فحقيقة المثلث أو المربع أو الدائرة تظل حقيقة عقلية، حتى ولو لم تشهد الأرض على وجهها رسما واحدا لشكل من تلك الأشكال الهندسية. وفي المواضع التي لم يلجأ الفنان العربي فيها إلى الوحدات الهندسية ورسم نباتا أو حيوانا فإنه راعى إهمال التفصيلات؛ لأن هذه التفصيلات تتعلق «بأفراد»، والأفراد زائلون، وهو إنما ينشد تصوير المعاني العقلية في تجريدها وإطلاقها.
الرؤية الصحيحة مدارها الوصول إلى حق ثابت يدول على الدهر. فلماذا لا نستثمر هذه الرؤية الجادة العميقة في حياتنا الثقافية اليوم؟
رجع الصدى
في حياتنا الثقافية اليوم سؤال مطروح، تأتي عنه إجابات مختلفة من هنا، وهنا، وهناك، وهو: لماذا لا تنفذ الأمة العربية في حاضرها الراهن، إلى العالم الخارجي بفكرها وأدبها؟ إننا إذا استثنينا أمثلة قليلة، فلا نكاد نقع في بلاد الدنيا، من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، عن كاتب عربي، أو شاعر، أو فنان، قد شغل الناس بقضية فكرية تتحدى العقل، أو بضربة جديدة في دنيا الإبداع الأدبي والفني؛ بحيث وقف عندها النقاد تحليلا وتعليلا، ومن بعدهم أرباب الثقافة يتبادلون الإعجاب، أو يبدون الريبة أو السخط.
Неизвестная страница