فما الذي يمنع إذن أن نعاود قراءة تراثنا في كل عصر، ليكون له في كل مرة بعد جديد، أو معنى جديد؟ لماذا نضيق على أنفسنا مجال الرؤية إذا كان مجالها بطبيعته فسيحا متعدد الجنبات؟ وفي هذه التأويلات المتلاحقة مع تلاحق العصور، يصبح القديم جديدا دائما.
ما الذي يمنع - مثلا - أن نفهم «الأولياء» اليوم على أنهم هم «العلماء»؟
ويسمح لي القارئ بأن أعيد هنا مثلا سقته في مناسبة سابقة، وهو عبارة للهجويري الصوفي. يقول فيها عن الأولياء أنهم «ببركة حلولهم تمطر السماء، وبنقاء حياتهم ينبت الزرع من الأرض، وبدعائهم ينتصر المسلمون على الكفار.» فإذا نحن فهمنا من «الأولياء» معنى «العلماء» كما تفهم هذه الكلمة في عصرنا، تبدل معنى عبارة الهجويري السالفة ليصبح: «أنه بعلم العلماء تمطر السماء، حتى لو لم تكن الظروف الطبيعية مهيأة لنزول المطر، وذلك بقدرتهم على تركيب تلك الظروف المؤاتية، وبعلم العلماء ينبت الزرع من الأرض، حتى لو لم تكن لتنبت شيئا إذا هي تركت لطبيعتها، وذلك بتسميدها وباستخدام الوسائل التي باتت في مقدور العلماء، والتي مكنتهم لا من إنبات الزرع في الأرض الجدباء وحدها، بل مكنتهم من إنبات الزرع في الهواء وعلى سطح الماء ...»
فنظر كيف تبدل المعنى فأصبح وكأنه من صميم عصرنا، عندما فهمنا «الولاية» فهما جديدا، دون أن ننقص شيئا من روح اللفظ الأول، فما هذا الروح إلا مجموعة من الصفات الخلقية، كالصدق والإخلاص وغيرهما، مما كان معدودا من مقومات «الأولياء»، وهو بذاته اليوم معدود من مقومات «العلماء».
وعلى هذا الضوء أعود إلى «منطق الطير» لفريد الدين العطار. وأعيد القراءة، فإذا أنا في هداية جديدة، وأمام تعبئة روحية جديدة؛ فها أنا ذا أقرأ للهدهد خطابه الذي افتتح به جلسة الطير، ليقول لها عن نفسه: «لقد تحدثت مع سليمان كثيرا، وقضيت السنين أجوب البر والبحر، وأجتاز الوادي والقفر والجبل، حتى عرفت أين يكمن السر، لكني لا أستطيع السير وحدي سعيا إلى ذلك السر المكنون، فاصحبوني إليه تكونوا من الأصغياء.» قرأت ذلك، فترجمته لنفسي إلى لغة أفهمها وتنفعني، فما تخيلت ذلك الهدهد في خطابه إلى الطير إلا رائدا من رواد الكشف العلمي، يوجه الدعوة إلى زملائه العلماء، أن يتعاونوا تعاون أعضاء الفريق الواحد، لعلهم معا أن يكشفوا عن سر الكون أو أسراره.
أعدت القراءة إلى هذا الضوء الجديد، فانبثق في صدري حافز لم أكن قد شعرت بمثله في القراءة الأولى، التي وقفت بها عند سطح اللفظ كما ورد في نصوصه؟ فانظر - مثلا - إلى هذه الصورة التي وردت في سياق الحديث، وهي أن «السيمرغ» (وهو الحاكم الأعلى المنشود) قد بدأ دعوته إلى الطير فقذف بريشة واحدة وقعت على أرض الصين. فتخيلت الريشة مزخرفة بألوانها قد وقعت على أرض كانت دائما ترمز إلى البعد البعيد. فتصورت تلك الريشة المزخرفة التي أسقطها السيمرغ من جناحه دعوة للإنسان إلى السعي نحو المعرفة العلمية ونحو الإبداع الفني في آن واحد، مهما تكن الصعاب التي تعترض السالك على الطريق.
إنني في الحق لا أفهم كيف يكون الكتاب من الكتب مفيدا إلا أن يكون منطويا في ظاهره أو في باطنه على ما يحفز الإنسان في نهاية الأمر إلى عمل. والعمل المطلوب إنما تحدده بالطبع مسائل العصر ومشاكله؛ فلسنا نحاسب الأقدمين على عمل اهتموا بأدائه لضرورة شعروا بها من ظروف حياتهم، لكننا نحاسب المعاصرين ألف حساب على أعمال يشغلون بها أنفسهم وهي لا تحل للناس مسألة ولا تفض لهم مشكلة.
وبهذه الروح قرأت منطق الطير لفريد الدين العطار.
في سبيل يقظة عربية
درس نتعلمه من الأوائل
Неизвестная страница