ويستطرد الكاتب في مقدمة كتابه فيقول: إن دنيا الحيوان أقرب إلى فهم الطفل من هؤلاء الكبار؛ فالطفل يرى في تصرف الفأر - مثلا - سلوكا أقرب إلى العقل السليم من تصرف أبيه وأمه؛ ولذلك يمتعه أن يرقب الحيوان وأن يحاكيه أكثر مما يمتعه أن يرقب والديه وأصدقاءهما من الكبار؛ فمدار شخصية الطفل - وكذلك الفأر - أن يجمع بين المغامرة والمأوى الآمن، كالذي يحب أن يجول في الغابة المجهولة الثنايا، على شرط أن يظل قادرا على العودة إلى الطريق المؤدية إلى منزله، وكذلك الفأر، يحب لنفسه المأوى الآمن في جحره، فيخرج إلى مغامرته ثم يعود.
فلنحب لأطفالنا، لا الذي نحبه لأنفسنا، بل الذي تحبه طبائعهم.
اتجاه العدوى
إذا نظرنا إلى الحياة نظرة متشائم، قلنا إن من أعجب أمورها أن العدوى تتجه في سيرها من الخبيث إلى الطيب ولا عكس؛ فالمريض يعدي السليم بمرضه، أما السليم فلا ينقل صحته إلى المريض بالملامسة، والفاكهة المعطوبة تعدي جارتها السليمة، على حين أن السليمة لا تزيل عن المعطوبة عطبها، وكذلك قرين السوء يعدي بالغواية قرينه الطيب حتى يحيله سيئا مثله ، ولكن يندر أن يحمل القرين الطيب صاحبه الفاسد على التطهر من فساده.
لكن هذه - كما قلت - نظرة متشائم. ولو التمسنا في الحياة جوانب خيرها، لوجدنا كذلك أن الطيب يؤثر في الخبيث حتى يصلحه. وهؤلاء هم أصحاب الرسالات الإصلاحية جميعا، ومن بينهم الرسل والأنبياء أنفسهم، يظهرون برسالاتهم في أوساط تأباها وتتنكر لها، لكن الداعية إلى الحق إذا ما ثبت واشتدت عزيمته، انهار صرح الباطل شيئا فشيئا، وإذا النافرون من الدعوة الصالحة هم أنصارها الأوفياء.
وما لنا نذهب بعيدا إلى الأمثلة الكبيرة الضخمة، والأمثلة الصغيرة قريبة منا تملأ الحياة كل يوم؟ فقد عرفت رجلا قوي الشخصية، رفيع الخلق، جاد النظرة، لا يسف في القول، ولا يخرج عن حدوده إذا ضحك، فكان هذا الرجل إذا ما وفد على جماعة من معارفه وهم يتبذلون في القول ويسفلون بالعمل ويقهقهون للتافهة ويتندرون بالسخيف ويمزحون في رقاعة وتسكع؛ أقول إن هذا الرجل كان إذا وفد على هذه الجماعة من معارفه، حولهم من حال إلى حال، كأنه لمسة الساحر. إنه لم يكن ينهر أحدا؛ فذلك لم يكن من حقه، ولعله لو فعل لذهب عنه وقاره واستباح نفسه لشرهم، ولم يكن يزجر أحدا باللفظ أو باللحظ، بل كان ينخرط معهم في الحديث لتوه غير متكلف ولا متصنع، فإذا الجماعة تتأدب في حديثها وفي سلوكها، وتعلو في مزحها وترق في ضحكاتها، كأنما كل فرد منها يقول لنفسه في طوية نفسه: ماذا أقول وكيف أسلك حتى أقع من نفس هذا الرجل موقع القبول والرضى؟ إنها العدوى قد عكست طريقها المألوف، فاتجهت في سيرها من الطيب إلى الخبيث.
كنت أتحدث بالأمس إلى طالب من أبناء أسرتي جاء لتوه من الريف ليلتحق بالجامعة، فأخذ يقص علي قصة اغترفها من واقع حياته، وهو يضحك لما فيها من صورة فكهة. قال: كنا جماعة من التلاميذ، نسكن في بيوت متقاربة من شارع واحد، وقد بدأنا عامنا الدراسي بلعب كثير وعمل قليل، لكن أحدنا - وهو تلميذ في السنة الأولى الثانوية - أخذته الهمة وراقبناه من النوافذ وهو ساهر على كتبه حتى منتصف الليل، وهنا أخذت النخوة ثالثهم الذي كان في الثالثة الثانوية، وهكذا أخذت المصابيح في النوافذ يرقب بعضها بعضا ويحفز بعضها بعضا، كأن أصحابها في «مزاد» يتسابقون في ساعات السهر، حتى انتهى الأمر بهم جميعا أن يبيتوا الليل بطوله منكبين على الكتب، لا يأوي منهم أحد إلى مخدعه إلا مع أشعة الشمس عند الشروق.
فقلت له: إنها يا بني العدوى، عدوى الطيب في الخبيث فيصلحه. وتمتمت لنفسي: ما أصدق الفيلسوف «كانت» حين قال: كن كاملا في عالم ناقص، يكمل العالم على مدى الزمن.
النجم الدءوب
أظنه «جيته» هو الذي قال عن نفسه إنه كنجوم السماء، تسير في غير عجلة، لكنها تسير سيرا دءوبا لا يعرف السكون. وبهذه العبارة نفسها أجيب طالبي الذي أرسل إلي يسألني كيف أتيح لي أن أخرج حتى اليوم أكثر من ثلاثين كتابا تقع في عشرة آلاف صفحة، فأنا أسير في عملي سيرا وئيدا لكنه دءوب. هل يعلم صاحب السؤال أنه لو كتب في اليوم الواحد صفحتين كان له في آخر العام مجلد ضخم من جزأين؟
Неизвестная страница