ويوافق بيرسن على رأي ليبنتس القائل: إن المكان هو «ترتيب» الظواهر الممكنة الموجودة معا. ومن الواضح أن فكرة الترتيب لا علاقة لها بوجود الظواهر ذاتها؛ إذ إن من الممكن تصور هذه الظواهر بترتيب مخالف؛ وعلى ذلك فالترتيب إنما ينتمي إلى طريقة الذهن في إدراك الظواهر، فمن الواجب إذن أن نتخلى عن النظر إلى المكان على أنه فراغ هائل وضعت فيه الأشياء بطريقة لا صلة لها بملكة الإنسان الإدراكية؛ إذ إن المكان ليس شيئا يضاف إلى الموضوعات الموجودة فيه، وإنما هو لا ينفصل عن هذه الموضوعات من حيث هي مرتبة على النحو الذي تقتضيه قوانا الإدراكية؛ وعلى ذلك فالقول: إن الشيء «يوجد في المكان» يعني أن الملكة الإدراكية قد ميزته من مجموعة أخرى من الانطباعات الحسية، التي توجد معا وجودا واقيا أو ممكنا، وقد يجوز لنا أن نتصور أن للإحساسات وجودا بدون أية ملكة إدراكية. ولكن لن يكون هناك عندئذ ذلك النوع من الإدراك الذي نسميه بالمكان،
14
والنتيجة التي تترتب على ذلك هي القول: إن المكان ينتمي إلى الملكة الإدراكية «الفردية»، فكيف حدث أن تشابهت طرق الإدراك الفردية هذه بين الناس؟ أو بعبارة أخرى: لماذا كان المكان عندي وعندك متشابها؟ يعلل بيرسن ذلك بقوله: «في الصراع بين جماعة وجماعة - وكذلك بين الجماعة وبيئتها - يكون من الواضح أن أية جماعة تجني فائدة كبرى من الاتفاق الوثيق بين الملكات الإدراكية لأفرادها، بينما تلحق أضرار كبيرة بالجماعة التي لا يتوافر لأفرادها مثل هذا الاتفاق، فتكون النتيجة الطبيعية استمرار بقاء الجماعة الأولى»،
15
وهكذا يتصور بيرسن أن تشابه المكان بين الأفراد المختلفين راجع إلى عوامل اكتسبت في مرحلة معينة من مراحل الصراع من أجل البقاء، ويربط على نحو غريب بين الرأي المثالي عند «كانت» وبين نظرية التطور، وذلك في تعليله الهزيل لاتفاق الأذهان على مكان واحد رغم أن كلا منها يدرك المكان الخاص به فحسب.
ويترتب على ذلك أن السؤال عن مدى ضخامة المكان سؤال لا معنى له؛ فالمكان ضخم بالنسبة إلي فقط وأبعد النجوم، وصفحة الكتاب الذي أمسك به هما بالنسبة إلي مجرد مجموعتين من الانطباعات الحسية، والمكان الذي يفصل بينهما ليس فيهما، وإنما في طريقة إدراكنا، ومن المحال أن يكون المكان - كما يصوره بعض الكتاب - ممتدا إلى حد يتجاوز خيالنا؛ إذ إنه في واقع الأمر لا يمتد إلا بقدر ما تمتد ملكتنا الإدراكية؛ وعلى ذلك فإن سر المكان إنما يوجد فينا. وفي وعينا لا خارجنا.
وليس معنى ذلك أن بيرسن ينكر المكان اللامتناهي وإنما هو يعترف به، وإن كان يؤكد أن هذا اللامتناهي هو المكان الذهني أو الهندسي؛ ففي وسعنا أن نتصور مكانا لا متناهيا في الكبر، أو انقساما للمكان لا متناهيا في الصغر. ولكننا حين نفعل ذلك نكون قد انتقلنا من المكان الواقعي إلى المكان العقلي أو التصوري، وإن كان هذا الانتقال يحدث في كثير من الأحيان بطريقة لا شعورية، فتكون النتيجة أخطاء لا حصر لها في موضوع المكان اللامتناهي في الكبر أو الصغر. وفي هذا المكان العقلي نتصور الانطباعات الحسية على أنها محددة بمسطحات ومحاطة بخطوط مستقيمة أو منحنية. وهكذا يرتبط المكان التصوري ارتباطا أساسيا بعلم الهندسة، وهنا قد يتساءل سائل: ولم كان علم الهندسة بالضرورة علما ذهنيا موضوعاته من صنع العقل وحده؟ يجيب بيرسن على هذا السؤال بقوله: إن الهندسة تقوم أساسا على فكرتين لا وجود لهما في التجربة، هما فكرتا المماثلة
ameness
والاتصال
continuity ، فمفهوم الخط - مثلا - يفترض مماثلة تامة واتصالا كاملا بين كل أجزائه. ولكن هذا الاتصال وهذه المماثلة لا جود لها إلا بالفكرة. أما التجربة فلا تعرف عناصر تقوم بينها مماثلة كاملة أو اتصال تام، «وهكذا لا نجد مفرا من الاعتراف بالنتيجة القائلة: إن التعريفات الهندسية نتائج لعمليات يمكن أن تبدأ في الإدراك الحسي. ولكن حدودها لا يمكن أن تبلغ فيه؛ فالمفاهيم الأساسية للهندسة ليست إلا رموزا تتيح لنا الوصول إلى تحليل تقريبي لانطباعاتنا الحسية. ولكنه لا يمكن أن يكون تحليلا مطلقا لها؛ فهي اللغة الاختزالية العلمية التي نصف بها ونصنف ونصوغ خصائص تلك الطريقة في الإدراك، التي نسميها بالمكان المدرك حسيا، وصحتها - شأنها شأن كل المفاهيم الأخرى - إنما تكمن فيما تتيحه لنا من قدرة على تقنين التجربة الماضية والتنبؤ بالتجربة المقبلة، ولعلنا لن نجد مثلا أفضل من الهندسة لإثبات أن العلم يصف عالم الظواهر بمساعدة مفاهيم لا تطابق أية حقيقة واقعة في الظواهر ذاتها.»
Неизвестная страница