في كل عصر يحرز فيه العلم تقدما كبيرا في الميدان النظري والميادين التطبيقية، نجد مجموعة من العلماء الذين لا يكتفون بالإسهام في دفع عجلة الكشف العلمي إلى الأمام، وإنما يقومون أيضا بعملية نقد ذاتي يتأملون فيها حدود العلم ويراجعون مناهجه ويعددون موقعه بين سائر أوجه النشاط الفكري والروحي والمادي للإنسان. ولقد كان القرن التاسع عشر فترة تقدم علمي لا شك فيه؛ ومن هنا كان من الطبيعي أن يظهر فيه بين الحين والحين عالم لا يكتفي بممارسة الكشف العلمي، بل يحاول أن يتلمس الموقع الحقيقي للعلم وبين الفلسفة، ويغدو عالما متفلسفا أو فيلسوفا علميا.
والكتاب الذي نعرضه ها هنا مثل بارز من أمثلة النقد الذاتي التي قام بها العلماء في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، فهو يهدف إلى أن يشرح للعلماء ولغير المتخصصين في العلم وللمشتغلين بالفلسفة وبشئون الفكر عامة، المعاني المحددة لعدد كبير من المفاهيم الرئيسية في العلم الطبيعي، ويرمي إلى مناقشة المشكلات الهامة لمنطق البحث العلمي، وبيان موقع العلم الحديث في الحضارة التي يعيشها الإنسان اليوم.
ولقد كان الجو الفكري الذي ظهر فيه الكتاب هو ذلك الجو المميز لإنجلترا في نهاية القرن التاسع عشر، حيث ظهرت نزعة مثالية قوية سيطرت على الجامعات الإنجليزية الكبرى، وقادتها فئة من الهيجليين الإنجليز المتأخرين، ولا يمكن أن يفهم هذا الكتاب على حقيقته إلا إذا نظر إليه بوصفه رد فعل على هذه النزعة المثالية التي اعتقد مؤلف الكتاب أنها من أكبر العقبات التي تحول دون تقدم العلم، وسنجد فيما بعد أن آراء المؤلف نفسه لم تبتعد كثيرا عن المثالية الفلسفية، بل اتخذت في كثير من الأحيان صبغة ذاتية متطرفة، وإن لم يتنبه هو ذاته إلى هذه النتيجة، وعلى أية حال فقد كان هذا الكتاب من العوامل الهامة التي ساعدت على تغيير المناخ الفكري في إنجلترا، وعلى إرساء دعائم فهم معين للعلم ما زال يجد له أنصارا كثيرين في البلاد الأنجلوسكسونية، وأعني به النظرة التجريبية التي تمتد جذورها إلى القرن السابع عشر، والتي تمثل صفة من الصفات الملازمة لتفكير البلاد الناطقة بالإنجليزية، وإذا كانت بعض المناقشات التي تضمنها هذا الكتاب قد فقدت قيمتها لأن تقدم العلم تجاوزها بمراحل، فلا شك في أن موقفه الفكري العام له في تراث الإنسانية أهمية فائقة لارتباطه باتجاه من الاتجاهات الدائمة للفكر الفلسفي. (1) حياة بيرسن ومؤلفاته
ولد كارل بيرسن في لندن عام 1857م، لأب كان محاميا إنجليزيا مشهورا، وتلقى العلم في «الكلية الجامعية»
University College
في لندن، ثم في جامعة كيمبردج، حيث أظهر مقدرة كبيرة في فروع متعددة، منها التاريخ والأنثروبولوجيا والاجتماع والفلسفة والعلوم الرياضية، وقد عين في عام 1884م أستاذا لكرسي الرياضة التطبيقية والميكانيكا بنفس الكلية. وفي الفترة من عام 1911م إلى عام 1913م كان يشغل كرسي «جولتن»
Galton
لعلم تحسين السلالات
Eugenics
بالكلية ذاتها، وخلال الفترة الطويلة لاشتغاله بالتدريس الجامعي، كان يلقي محاضرات على الطلبة وجماهير المفاهيم المستخدمة في العلوم الطبيعية، وعلى أساس هذه المحاضرات تبلور في ذهنه كتاب «أركان العلم» الذي نقدمه في هذا البحث.
Неизвестная страница