لذلك تعرض ديكارت لهجوم عنيف من جانب عدد غير قليل من شراحه الذين اتهموه بالتراجع إلى الوراء في منهجه العلمي، بالقياس إلى التقدم الكبير الذي تحقق في عصره. بل إن «ريفيل
Revel » يشكك حتى في قيمة الهجوم الذي شنه ديكارت على المدرسيين، على أساس أنه «لم يكن فيه جديد؛ لأن هذه الحرب (ضد المدرسيين) كانت قد بدأت قبل قرنين. كما أن ديكارت - على خلاف جاليليو ومونتين - لم يدخل في هذه الحرب لكي يعمل على إحلال نمط فكري جديد محل النمط القديم، بل دخلها لكي يضع محل القضايا القديمة قضايا أخرى جديدة تظل داخلة في نفس الإطار الفكري»؛ ولهذا السبب يحذرنا «ريفيل» من أن ننخدع بشأن تلك التطبيقات العلمية والتجارب التي دعا إليها ديكارت في نهاية كتاب «المقال في المنهج»، فهو لا يدعو إلى التجريب بالمعنى الذي كان يمارسه به جاليليو، وإنما كانت لديه ثقة مطلقة في صحة مبادئه القبلية التي لا تدرك إلا بنور العقل؛ ومن ثم كان لديه يقين مسبق بأنها فعالة في المجال العملي. بل إن عزلة ديكارت في هولندا لم تكن - في رأيه - ترجع إلى خوفه من الاضطهاد، بقدر ما كانت ترجع إلى رغبته في التباعد عن الأوساط العلمية التي كان يخشى الاحتكاك بها، ويعتقد أنها لن تنفعه في شيء.
16
ويذهب «جسدروف
Gusdorf » إلى نتيجة مماثلة، فيؤكد أن المنهج الاستنباطي الذي اتبعه ديكارت في الفيزياء كان أقرب إلى الروح المدرسية منه إلى الفكر الحديث، وبدلا من أن يجهد ديكارت نفسه - كما فعل علماء ذلك العصر الذين بنوا على أكتافهم صرح العلم الحديث - في البحث والتنقيب بصبر وأناة عن وقائع جزئية، يكشفها بأكبر قدر من الدقة، ويعبر عنها تعبيرا رياضيا، نراه يزدري الوقائع ولا يكترث بملاحظتها؛ ولذلك يقتبس «جسدروف» نصا لبول موي يقول فيه: «إن فيزياء ديكارت نسق مذهبي. بل إنها - إذا جاز التعبير - كتلة مرتبطة بالميتافيزيقا ارتباطا وثيقا؛ فالديكارتية العلمية هي مذهب قبلي
apriorisme
متكامل».
17
خلاصة القول إذن: إن ديكارت لم يكتف بأن جعل الميتافيزيقا أساسا للعلم الفيزيائي. بل إن المبادئ الميتافيزيقية الرئيسية تظل ضرورية طوال مراحل البحث الفيزيائي، وعليها يرتكز كل ما يمكن أن يصل إليه هذا البحث من يقين؛ فالعالم المادي في نظره يستحيل أن يعرف ما لم يكن المرء قد عرف من قبل مبادئ ميتافيزيقية هي التي تستنبط منها كل معرفة بهذا العالم. وفي الوقت الذي كان فيه علماء العصر يشنون معركة حامية ضد الميتافيزيقا ويسعون إلى استبعادها من العلم استبعادا تاما، ويصطنعون لأنفسهم منهجا يجمع بين الملاحظة المتأنية والتجارب الدقيقة التي تجرى على موضوعات جزئية، وبين الصياغة الرياضية الدقيقة للنتائج التي يتوصل إليها البحث العلمي تدريجيا ، كان ديكارت يسعى إلى استنباط معرفتنا بالطبيعة كلها من مبادئ ميتافيزيقية، ويحاول استخراج الحقائق كلها من أفكاره العقلية وحججه المنطقية البارعة، وبالاختصار كان يريد للجذور الميتافيزيقية أن تظل تزود الجذع الفيزيائي وثماره التطبيقية، بذلك اليقين الذي لا يكتسب إلا بالاستنباط من مبادئ أولية مؤكدة، فكان في ذلك متراجعا عن تيار عصره بغير شك. (6-3) الترفع وازدراء العلماء
والنتيجة الضرورية لتمسك ديكارت بالمنهج الاستنباطي في البحث لفيزيائي هي اعتقاده أنه - بفلسفته الخاصة ومنهجه الذي كان يراه جديدا - هو وحده الذي يستطيع انتشال العلم من وهدة التخلف التي سقط فيها على يد المدرسيين؛ بحيث كان ينظر إلى الجهد العلمي، كما لو كان جهدا فرديا يحتاج إلى عبقريته الخاصة وحدها، وتلك هي طريقة التفكير التي يتحتم أن يصل إليها من يمزج الميتافيزيقا بالعلم؛ لأن المبادئ التي يرتكز عليها بناء العلم كله مبادئ خاصة به، توصل إليها عقله هو بجهد تأملي خاص. أما من يعترف للعلم الطبيعي باستقلاله، ويضع له المنهج الملائم له، فلا بد أن يكون أكثر تواضعا في فهمه لدوره وللمدى الذي يستطيع أن يصل إليه، ولا بد أن يكون أكثر تقديرا لجهد الآخرين؛ لأنه يعرف أن العلم ينمو ببطء ومشقة، وأن حقائقه لا تتكشف كلها بنور مفاجئ، وإنما تظهر تدريجيا على أيدي أجيال لا حصر لها من الباحثين.
Неизвестная страница