13
ألا توحي هذه الآراء بأن الميتافيزيقا عنده كانت ثانوية الأهمية، وبأن تفكيره الحقيقي كان يستهدف غايات مختلفة كل الاختلاف؟
إن ديكارت - في نص مشهور في «المقال في المنهج» (الكتاب الأول) - يقارن مقارنة صريحة بين قيمة التأملات الميتافيزيقية النظرية - التي هي دائما قيمة نسبية من شخص لآخر - وبين المعارف العلمية المرتكزة على أساس فيزيائي متين، فينحاز بصورة قاطعة إلى الثانية، ويحكم على التفكير النظري الميتافيزيقي بأنه أشبه بتسلية طريفة فحسب. وهكذا يقول: «على الرغم من أن تأملاتي النظرية (
speculations ) قد أعجبتني كثيرا، فقد رأيت أن للآخرين بدورهم تأملاتهم التي ربما أعجبتهم أكثر من ذلك. ولكنني بمجرد أن اكتسبت بعض الأفكار العامة المتعلقة بالفيزياء، ولاحظت - بعد اختبارها في حل عدة صعوبات خاصة - إلى أي مدى تستطيع أن توصلني، وإلى أي حد تختلف عن المبادئ التي ظلت شائعة حتى الآن، رأيت أنني لو ظللت أحجبها عن الناس لكنت بذلك ارتكبت إثما كبيرا في حق ذلك المبدأ الذي يحضنا على أن نحرص بقدر ما في وسعنا على تعميم الخير بين الناس جميعا؛ ذلك لأن هذه الأفكار أوضحت لي أن من الممكن الوصول إلى معارف ذات فائدة جمة للحياة، وبدلا من تلك الفلسفة التأملية النظرية التي تعلم في المدارس، يستطيع المرء أن يهتدي بواسطة هذه الأفكار إلى فلسفة عملية، تكشف له عن القوة الكامنة في النار والهواء والنجوم والمسارات وكل الأجسام المحيطة بنا وعن تأثيرات هذه الأجسام، بدقة لا تقل عن تلك التي نعرف بها مختلف الحرف التي يجيدها صناعنا، وبذلك نجعل من أنفسنا سادة للطبيعة ومسيطرين عليها.»
تلك إذن شهادة صريحة من ديكارت، تكشف عن رأيه في القيمة الحقيقة للتأملات النظرية التي لا ترتكز على أساس يمكن الاتفاق عليه، ولا تحدث في حياة الناس العلمية تغييرا، ولا يمكن لمن يتأمل هذا النص - ونصوصا أخرى كثيرة غيره - إلا أن يستنتج أن المسافة بين تفكير ديكارت وتفكير معاصره الإنجليزي الأكبر سنا - فرانسس بيكن - لم تكن واسعة إلى الحد الذي يتصورها عليه مؤخر الفلسفة؛ فالحلم الذي كان مستحوذا على عقل بيكن - العدو الأكبر للمنهج النظري التأملي عند مفكري العصور القديمة والوسطى - كان متسلطا على فكر ديكارت بدوره. بل إن بعض التفاصيل متماثلة، كدعوة ديكارت إلى إنشاء «مدرسة للصنائع والحرف»، وإلى أن تنشأ في الكلية الملكية وغيرها من معاهد التعليم العام قاعات لكل حرفة من الحرف، وتخصص الدولة أموالا تكفي للإنفاق على هذا التعليم ... إلخ.
14
والهدف النهائي واحد، وهو أن يسترد الإنسان مملكته المفقودة، ويعود مرة أخرى سيدا للطبيعة، ومن خلال كشفه لأسرارها ومعرفته لقوانينها واستغلاله لقواها وطاقاتها.
وأخيرا، فلنلق نظرة على شهادة أصرح حتى من هذه، أدلى بها ديكارت في رسالة بعث بها إلى الأميرة إليزابيث، التي كان يبوح لها بالكثير من مكونات نفسه، في 28 يونيو 1643م. فبعد أن عدد ديكارت ثلاثة أنواع من الأفكار الأصلية: فكرة النفس، التي تدرك بالذهن المحض وتؤلف موضوع الرياضيات، ثم فكرة اتحاد النفس والجسم، التي تدركها الحواس بوضوح تام، وتؤلف موضوع الحياة والمحادثات والمعاملات اليومية، يقول: «أستطيع أن أقول عن صدق: إن القاعدة الأساسية التي أتبعها في دراساتي على الدوام، وتلك التي أعتقد أنها أعانتني أكثر من أي شيء آخر في اكتساب المعرفة، هي أنني لم أقض أبدا سوى ساعات قليلة كل سنة أفكر في الأمور التي تشغل الذهن المحض، بينما كنت أقضي ما تبقى من يومي مستهدفا استرخاء الحواس وراحة النفس ... وأخيرا فمع أني أؤمن بأن من الضروري إلى أقصى حد أن يكون المرء قد فهم مبادئ الميتافيزيقا مرة في حياته؛ لأنها هي التي تعطينا معرفة الله وبأنفسنا، فإنني أعتقد في الوقت ذاته أن من أشد الأمور ضررا أن يشغل المرء ذهنه بالتفكير فيها؛ لأنه لن يستطيع عندئذ أن يتفرغ لوظائف الخيال والحواس؛ ومن ثم فإن أفضل شيء هو أن يكتفي المرء بأن يستعيد في ذاكرته وفي ذهنه النتائج التي استخلصها منها من قبل، ثم يستغل ما تبقى لديه من وقت في التفرغ للأفكار التي يتعامل فيها الذهن مع الخيال والحواس.»
هذا النص يكشف بوضوح عن الموقع الذي احتلته الأفكار الميتافيزيقية وسط اهتمامات ديكارت: فالميتافيزيقا ضرورية بغير شك. ولكن يكفي المرء أن يكون قد عرفها مرة واحدة في حياته، وبعد ذلك لا يحتاج إلا «لساعات قليلة كل سنة» كما يستعيد مبادئها الرئيسية. أما بقية أوقاته فيشغلها التفكير في المسائل الرياضية والفيزيائية (أي تلك التي يقوم بها الذهن مستعينا بالخيال أو تقوم بها الحواس)، هكذا كان ديكارت يقسم أوقاته، هو تقسيم يعبر تعبيرا صريحا عن وجهة النظر التي كنا نعرضها طوال هذا الجزء من البحث، وأعني بها أن الميتافيزيقا الديكارتية كانت «جذرا» بالمعنى السلبي لهذه الكلمة؛ أي بمعنى الأساس الذي يمهد لغيره ثم تنتهي مهمته، ويظل الجذع والفروع بعد ذلك هما مدار البحث والاهتمام. (6) الميتافيزيقا ودورها الإيجابي في العلم
على أن الجذور لا يتعين أن تكون وظيفتها سلبية بالنسبة إلى جذع الشجرة وثمارها، فأجزاء الشجرة - التي تبدو ظاهرة أمام أعيننا وتحظى منا بأكبر قدر من الرعاية والاهتمام - تظل - ما دامت الشجرة حية - في حاجة إلى الجذور؛ إذ تستمد منها رحيق الحياة وعصارتها بلا انقطاع؛ وعلى أساس هذا الفهم لتشبيه الشجرة، قلنا: إن هناك تفسيرا آخر ممكنا لعلاقة الميتافيزيقا بالعلم، تظل فيه الميتافيزيقا تقوم بدور إيجابي طوال مراحل البحث عن الحقيقة العلمية.
Неизвестная страница