وواضح من هذا النص أن بيكن يؤمن بأن عرض الآراء في صورة متكاملة قد يكون نوعا من خداع الناس، إذا كانت هذه الآراء تتعلق بموضوعات لم يكتمل البحث فيها بعد، ولم يصل المرء فيها إلى حقيقة تامة، وطالما أن العلم لم يكتمل، فمن الواجب ألا يعرض على الناس في صورة مكتملة، ولما كان هو ذاته أول من يعترف بأن الموضوعات التي تعرض لها ما زالت في حاجة إلى بحوث كثيرة، فقد كان من الطبيعي ألا يحاول خداع الناس، أو تكرار ما فعله بعض القدماء، بعرض أفكار جزئية في صورة مكتملة. ومما يؤيد هذا التعليل أن بيكن يقدم إلى القارئ وصفا للجزء الإيجابي من كتاب «الأورجانون الجديد»، فيقول: «نود ألا يعتقد أحد أننا نطمح إلى إنشاء أية مدرسة أو طائفة فلسفية كما فعل اليونانيون القدامى أو بعض المحدثين، إذ ليس هذا هدفنا، ونحن لا نعتقد أن الأفكار المجردة عن الطبيعة ومبادئ الأشياء تحدث تأثيرا كبيرا في أقدار البشر، وهكذا فإن جهدنا ليس مركزا في هذه الموضوعات النظرية، والعقيمة في الوقت ذاته، وإنما استقر عزمنا على أن نحاول إيجاد أساس أمتن لقدرة الإنسان وعظمته، ومد حدودهما إلى أبعد الآفاق، وعلى الرغم من أننا قد نقول في هذا الموضوع أو ذاك وفي بعض المسائل الخاصة، بآراء تبدو لنا أصح وأوثق من الآراء التي يشيع الاعتراف بها، بل أستطيع أن أقول: إنها أنفع منها، فإننا مع ذلك لا نقدم نظرية شاملة ولا كاملة،
3
وهكذا كان بيكن يتحاشى الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه القدماء، ويحرص على أن يعرض آراءه على أنها «محاولات» بحيث تكون طريقة العرض ملائمة لموضوعات البحث وللمرحلة التي وصل إليها فيه .» (3) الخصائص العامة لفلسفة بيكن
إذا تأمل المرء فلسفة بيكن من خلال كتاب «الأورجانون الجديد» بدا له أن أهم ما تتميز به هذه الفلسفة هو تجديدها للمنطق، ونظريتها الجديدة في الاستقراء. أما إذا تأمل هذه الفلسفة من خلال الخطة العامة لكتاب «الإحياء العظيم» الذي لا يكون الأورجانون إلا جزءا واحدا منه؛ لبدت له محاولة ذات طابع أعم بكثير، لكشف القيم الجديدة التي تتضمنها الحضارة العلمية الحديثة في أول عهودها، ولاستخلاص المضمونات الفكرية لعصر الكشوف العلمية والجغرافية، والتعبير بصورة عقلية عن التغيير الذي تستلزمه النظرة الجديدة إلى الحياة. وفي هذه الحالة الأخيرة تبدو فلسفة بيكن في صورة «إحياء» لقدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة (وبالفعل كان بيكن يؤمن بأن الإنسان - كما جاء في سفر التكوين - كانت له السيادة على المخلوقات جميعا، ثم أدى فساد العلم إلى استعادة سيطرته على العالم، ولو شئنا أن نترجم عنوان كتابه الكبير ترجمة حرفية لقلنا: «الاسترداد العظيم»).
ولقد ظل مؤرخو الفلسفة طويلا ينظرون إلى بيكن على أنه فيلسوف منطقي، ويرون أن أعظم ما قدمه إلى الفلسفة هو نظريته في الاستقراء؛ على أن البحث الحديث في فلسفة بيكن قد غير هذه النظرة تغييرا أساسيا، ولا سيما بعد ظهور كتابي: «فارنجتن»
4
و«أندرسن»
5 (في سنتين متواليتين)، فأندرس يحذر من تلك العادة «الهيجلية» التي ينظر فيها إلى المفكر على أنه مجرد حلقة في سلسلة يمثلها اتجاه فلسفي عام؛ بحيث يعد بيكن ممثلا غير ناضج للمذهب التجريبي الذي بلغ قمته عند هيوم، أو مرحلة في الاتجاه الاستقرائي الذي اكتمل عند مل، أو مكملا لأرسطو أو المدرسيين؛ فكل هذه تفسيرات الذي باطلة لتفكير بيكن، الذي كانت له خصائصه ومقوماته الفريدة، ويأخذ «فارنجتن» على عاتقه مهمة إيضاح هذه الخصائص؛ ليبين بوضوح كامل مدى ارتباط بيكن بالحضارة العلمية الصناعية الحديثة، وإلى أي حد كانت فلسفته نبوءة تبشر بتطورات هائلة في نظرة الإنسان الأوروبي إلى الحياة، لا مجرد قواعد منهجية أو منطقية جديدة.
وإذا كان من المستحيل التكهن بتلك الفلسفة النهائية التي رأى بيكن أن الواجب إقامتها على أساس الدراسة العلمية للطبيعة - وهي الفلسفة التي تكون الجزء السادس من خطة «الإحياء العظيم» - فإن في وسعنا أن نستخلص الملامح العامة لفلسفة بيكن من خلال كتاباته الباقية، وهي فلسفة لا نستطيع أن نقول إنها نهائية. ولكنها هي التي أرشدته في طريقه العقلي طول حياته، ولهذه الفلسفة جانبان: أحدهما سلبي، والآخر إيجابي، وهما معا وجهان لموقف فكري واحد، وسنتناول الآن بالشرح كلا من هذين الجانبين على حدة. •••
لا يكاد يوجد كتاب في موضوع «مناهج البحث العلمي»، أو منهاج دراسي في هذا الموضوع، إلا ويبدأ بطريقة واحدة؛ فهو يجري مقارنة بين طريقة التفكير الشرقية القديمة، والتي تقوم على معارف عملية تطبيقية، وبين طريقة التفكير اليونانية التي تقوم على معارف نظرية، أو على مبدأ «المعرفة لأجل المعرفة»، ويؤكد أن العلم بمعناه الصحيح لن يبدأ إلا حين سادت النظرة اليونانية، وأصبح العلم يطلب لذاته لا لأي غرض عملي. والواقع أن اليونانيين هم المسئولون عن الحضارة الغربية منذ عصرهم، حتى أصبح هو معيار المنهج العلمي الصحيح؛ فاليونانيون هم الداعون إلى بحث «الوجود بما هو موجود»، والوصول إلى «الحقيقة لذاتها»، وإلى احتقار كل بحث يخضع للاعتبارات العملية، وتمجيد كل علم نظري بحت. وهكذا انتشر منذ العصر اليوناني الرأي القائل: إن العلم ينبغي أن يطلب لذاته، وأصبح أشبه بالعقيدة الراسخة التي لا يحاول أحد أن يناقشها.
Неизвестная страница