ومن هنا كانت الاشتراكية هي وحدها المرحلة التي تتحقق فيها للإنسان حريته الحقيقية، ومن الضروري أن نفرق في هذا الصدد بين الحرية الحقيقية وبين الحرية الوهمية؛ ذلك لأن أنصار الرأسمالية هم أكثر الناس حديثا عن الحرية وتشدقا بها، حتى لقد وصل بهم الأمر إلى حد تسمية العالم الذي يطبق فيه نظامهم باسم «العالم الحر»، وبالفعل كان الاقتصاد الرأسمالي منذ بداية عهده - ولا يزال حتى الآن - يسمي نفسه باسم الاقتصاد الحر. وكان ازدهار الرأسمالية مرتبطا بفهم معين للحرية، هو حرية الأعمال التي لم يكن من المشروع التدخل في مسارها؛ لأنها - كما يعتقد - تنظم نفسها وفقا لمقتضيات السوق، ووفقا لمصالح المنتج والمستهلك في نهاية الأمر.
على أن هذه الحرية التي ساعدت الرأسمالية على توطيد مركزها في بداية عهدها، سرعان ما تكشف وجهها الحقيقي، فإذا بها عبودية لمعظم طبقات المجتمع؛ ذلك لأنك تستطيع أن تقيم علاقة بين صاحب العمل القوي والعامل الضعيف على أساس من «الحرية». ولكن لمن ستكون الحرية في هذه الحالة؟ لا جدال في أن عدم التناسب في القوة بين الاثنين، واحتياج العامل إلى صاحب العمل لكي يضمن عيشه، سيجعل مثل هذه الحرية في التعامل بينهما وسيلة لاضطهاد الأول للثاني. وفي هذه الحالة لا يعد تدخل الدولة لحماية العامل حدا من الحرية. بل إنه إقرار وتأكيد لها.
مثل هذا يقال عن سائر «الحريات» المشهورة في العالم الرأسمالي، فحرية الصحافة شيء رائع دون شك. ولكن أين صحافة البلاد الرأسمالية من الحرية؟ إن اعتمادها على الإعلان - الذي تتحكم فيه المؤسسات الرأسمالية الكبرى - يجعلها ألعوبة في يد نفس القوى التي تدعي أنها حرة إزاءها. أما الصحافة التي تتسم بقدر من الحرية يتيح لها أن توجه النقد إلى الأسس التي يقوم عليها النظام القائم، فإن الأموال تقبض عنها إلى أن تفلس، أو تصدر بصورة لا تسمح بقراءتها إلا لعدد محدود جدا من القراء، ومثل هذا يقال عن حرية التعاقد بين العامل وصاحب العمل؛ إذ إن هذه حرية شكلية لا أساس لها في الواقع ، الذي يكون فيه مركز العامل من الضعف بحيث لا يستطيع على الإطلاق أن يقف ندا لصاحب العمل في عملية التعاقد، مما يضطر العمال إلى التجمع في اتحادات تقوي مركزهم على المساومة، وقد يلجئون - إذا أعيتهم الحيل - إلى إضرابات طويلة الأمد، تعود على معيشتهم اليومية بأضرار لا يستهان بها. أما حرية تكوين الأحزاب، فإنها في الدول الرأسمالية الكبرى أشبه ما تكون بلعبة مسلية تتغير فيها الوجوه دون أن يطرأ على السياسة ذاتها أي تغيير حقيقي، والمثل الواضح لذلك هو الحزبان: الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة، وهما الحزبان اللذان لا يستطيع أقطابهما ذاتهم أن يضعوا حدا فاصلا واضحا بين اتجاهاتهما السياسية، ومثل هذا يقال عن حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا. وأخيرا فإنا نسمع في العالم الرأسمالي عن حرية المنافسة بوصفها فضيلة من فضائل ذلك النظام. ولكن تجربة التاريخ أثبتت أن المنافسة تتحول في الدول الرأسمالية الكبرى إلى احتكار يؤدي إلى تنظيم العلاقات بين المنتجين على حساب جمهور المستهلكين.
مثل هذه الحرية الشكلية ليست هي الهدف الذي يسعى إليه النظام الاشتراكي، فهذا النظام يحاول أن يكفل للإنسان حرية حقيقية تنبع من الجذور، لا حرية تطفو على السطح، وهو حين لا يترك لشخص واحد أو مجموعة من الأشخاص حرية التحكم في وسائل الإنتاج الاقتصادي؛ يضمن بذلك تحرر الجماهير العريضة من طغيان رأس المال، ويرسي الأساس الحقيقي لسائر أنواع الحريات، صحيح أن هذه الحريات قد لا تكون صارخة كتلك التي يتشدق بها دعاة الحرية الليبرالية. ولكنها مع ذلك حريات حقيقية تستمتع بها الغالبية العظمى من المواطنين، فحرية الكلمة تصبح عندئذ بحثا وراء الحقيقة. وحين تصبح الحقائق في متناول أيدي الجميع فإنها تحررهم من الأوهام والأكاذيب والتضليل. ومن التشنيع السطحي الذي يقدم إلى الناس على أنه نقد اجتماعي عميق. أما الأحزاب فإنها عندما تعكس موازين القوى الحقيقية بين طبقات المجتمع، ولا تعود مجرد أداة في يد فئات من الأفراد الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، فإنها تصبح عاملا أساسيا من عوامل التعبير عن الرأي في المجتمع الاشتراكي . وأخيرا فإن حرية المنافسة مكفولة في النظام الاشتراكي بدوره، ولكنها منافسة في خدمة المجتمع. وليست منافسة في استنزاف الأرباح من أفراده؛ ففي كل هذه الحالات إذن توفر الاشتراكية للمجتمع حرية حقيقية، مبنية على التخلص من الاستغلال الاقتصادي والظلم الاجتماعي.
وهكذا يتبين لنا أن الاشتراكية في صميمها مذهب إنساني يسعى إلى أن يرد للقيم الإنسانية معناها الحقيقي الذي شوهته الرأسمالية وابتذلته، ويهدف في نهاية الأمر إلى أن ينشر بين الناس اتجاهات معنوية لم تعرفها البشرية في عهودها السابقة التي كان يشيع فيها كلها استغلال الإنسان للإنسان وامتهانه لكل ما يعتز به من قيم.
الباب الثاني
أضواء على الفلسفة الحديثة
الأورجانون الجديد وفلسفة بيكن
(1) حياة فرانسس سبيكن
مرت إنجلترا بتغيرات اجتماعية وسياسية هامة في العصر الذي ولد فيه فرانسس بيكن، فقبل مولده بقليل كانت البلاد قد نزعت عن نفسها سيطرة رجال الدين واصطبغت بالصبغة الزمنية، ولم تكتف بإحلال أناس عاديين محل رجال الدين في المناصب الرئيسية للدولة. بل إنها استولت على الأراضي الشاسعة التي كانت الهيئات الدينية تدعم بها سلطتها، ووزعتها - بعد حل الأديرة - على الملاك العاديين. وهكذا بدأ يظهر في إنجلترا نظام جديد، تتضاءل فيه سلطة الكنيسة، ويصطبغ بصبغة زمنية متزايدة القوة. ومما له دلالته الواضحة أن أبا فرانسس بيكن، وهو السير نيكولاس بيكن، كان واحدا من الوزراء المدنيين الذين حلوا محل رجال الدين في تولي المناصب الهامة، ووصل إلى منصب حامل الأختام الملكية. وكانت أسرته من الأسر التي انتفعت بحل الأديرة وتوزيع أراضيها. أما أمه - وهي ابنة السير أنتوني كوك - فكانت سيدة واسعة الثقافة، ولا سيما في الآداب واللغات القديمة. وكانت كالفينية متعصبة. وهكذا كانت البيئة العامة في إنجلترا، وكذلك بيئة أسرة بيكن الخاصة، ملائمة أشد الملاءمة لظهور مفكر متحرر يؤمن بالعلوم الزمنية ويهاجم كل أنواع السلطة في ميدان العلم.
Неизвестная страница