Louis Althusser ، فمن الأسس المنهجية التي ترتكز عليها أبحاث ستروس في الأنثروبولوجيا، أنه لا يستهدف بمنهجه البنائي الاهتداء إلى عادات متشابهة وسط عدد هائل من الملاحظات الأنثروبولوجية التي يتم إجراؤها في ثقافات متباينة، كما كان يفعل الأنثروبولوجي الإنجليزي الكبير فريزر
Frazer
مثلا، بل يؤكد أن ما هو مشترك بين الثقافات لا يهتدي إليه بوضوح على مستوى الملاحظة، وإنما على مستوى البناء العقلي؛ فالبناء هو الذي يشكل العنصر الكلي الشامل في الثقافة البشرية. وهذا البناء خفي، لا يوجد على السطح الخارجي للظواهر أبدا، وإنما يكشف عقليا. وهكذا يستهدف التحليل البنائي - في ميدان الأنثروبولوجيا - الوصول إلى نوع من الجدول الرياضي أو المصفوفة الجبرية التي تعبر عن كل التحولات والتجمعات الممكنة في «الذهن البشري» اللاشعوري؛ ومن ثم كان هناك نوع من الازدراء في تعامل البنائية مع «الظواهر الأمبيريقية»، «وطوال كتابات ستروس يتكرر مرارا هذا التفضيل للتجريد العام على الواقعة التجريبية.»
2
وهكذا يؤكد ستروس الطبيعة المستقلة للذهن البشري على نحو يكاد يبدو معه فيلسوفا مثاليا، فهو يتكلم كما لو كان لدى الذهن (
L’esprit Humain ) استقلال خاص يجعله يمارس عمله بطريقة لا تعتمد على أي فرد أو جماعة إنسانية بعينها، وهو يذهب إلى حد أن يقول في واحد من كتبه: «إننا لا ندعي بيان الطريقة التي يفكر بها الناس في الأساطير، وإنما نبين كيف تفكر الأساطير في ذاتها من خلال الناس، ودون وعي منهم»، فهل يعني ذلك أن ليفي ستروس مفكر مثالي يجعل للذهن أولوية مطلقة على الظواهر؟ إنه هو ذاته ينفي بشدة كونه مثاليا، ويرى أن كل ما يدافع عنه هو القول بوجود طبيعة ثابتة للذهن البشري لا تتأثر بتغير الأفراد والمجتمعات، وتعبر عن نفسها من خلال نواتج الإنسان الثقافية كالأساطير؛ فالعقل البشري لديه مبادئ ثابتة، أشبه بمبادئ علم الجبر، يظهر تأثيرها في كل رسالة ينقلها إلينا أي موضوع ثقافي أنتجه الإنسان، وتعبر عن وجود «آليات» موحدة يعمل بها العقل البشري أينما كان.
فإذا انتقلنا إلى الطرف البعيد عن ليفي ستروس في البنائية - وأعني به الفيلسوف الماركسي ألتوسير - وجدناه بدوره يشترك مع ستروس - برغم كل ما بينهم من اختلافات أيديولوجية عميقة الجذور - في نقد المذهب التجريبي، والنظر إلى الحقيقة على أنها معيار لذاتها، دون الحاجة إلى تحقيق تجريبي خارجي؛ ففي نظر التجريبية تكون المعرفة تجريدا من الواقع ؛ أي إن الواقع نفسه يتضمن المعرفة ويخفيها وسط عناصر أخرى متداخلة تحجبها عنا، وكل ما علينا هو أن نطرح هذه العناصر جانبا لنجلو وجه الحقيقة الذي يشتمل عليه الواقع بالفعل؛ أي إن المعرفة عند التجريبيين هي عملية «طرح» نستبعد فيها الزوائد لكي نكشف ماهية الحقيقة، ومعنى ذلك أن التجربة المباشرة فيها أكثر مما هو مطلوب للوصول إلى الحقيقة، وعلى عكس ذلك يرى ألتوسير أن هذه التجربة المباشرة تتضمن «أقل» مما هو مطلوب لبلوغ الحقيقة؛ فنحن لا نحذف أو نختصر منها لكي نصل إلى الحقيقة، وإنما «نضيف» إليها؛ إذ إن من سمات التجربة المباشرة ألا تكون مكتفية بذاتها ، ومن سمات العقل الإنساني ألا يكون مجرد شاهد سلبي يسجل حقيقة موجودة بأكملها خارجه.
ولا يكتفي ألتوسير بهذا النقد للتجريبية. بل إنه يذهب خطوة أبعد من ذلك، فيقول: إن عملية المعرفة تحدث كلها في الفكرة، وإن الممارسة النظرية تتضمن في ذاتها معايير علمية النتائج التي يتم الوصول إليها في العلوم المختلفة؛ أي إن العلوم عندما تبلغ قدرا معينا من النمو، لا تكون أبدا بحاجة إلى ذلك التحقيق التجريبي الذي يربط بين قضاياها وبين واقع خارجي، والذي يقال: إنه معيار الصدق في القضايا،
3
والمثل الذي يضربه ألتوسير للتدليل على ذلك هو الرياضيات، التي لا تحتاج إلى تحقيق خارجي للتدليل على صحة قضاياها، ويعمم ألتوسير ما ينطبق في حالة الرياضيات على بقية العلوم؛ بحيث يجعل معيار الصدق في المعرفة كلها معيارا داخليا هو التماسك والاتساق، ويكون مقر الحقيقة عنده داخل الذهن
Неизвестная страница