أضواء على السنة المحمدية
الشيخ محمود ابو ريه
--- [ 5 ]
Страница 1
محمود أبوريه أضواء على السنة المحمدية أو دفاع عن الحديث
الطبعة الخامسة مزيدة محققة
--- [ 6 ]
Страница 5
الاهداء
أي ولدي العزيز مصطفى (1) كانت سعادتي في وجودك ، وحياتي تستضئ بنورك ، فلما أفل بدرك ، وغاب عن عيني شخصك ، أطبقت على الدنيا بأحزانها وبأسائها ، وأصبحت غريبا فيها وإن كنت من أبنائها . فإليك يا ولدي العزيز أهدي هذا الكتاب الذي ما قصدت بتأليفه إلا وجه الحق الذي فطرك الله عليه ، وكنت دائما تؤثره وتسكن إليه ، وخدمة العلم الذي أخلصت له نفسك ، وأفنيت فيه عمرك ، وجاهدت حق الجهاد في تحصيله ، وقضيت نحبك في سبيله . وإني والله يا بني لعلى ما عهدت من حب عميق لك لم يظفر بمثله أحد غيرك ، ومكانك من قلبي لا تدنو منه نفس سواك . لئن غبت عن عيني وشط بك النوى * فأنت بقلبي حاضر وقريب خيالك في وهمي ، وذكرك في فمي * ومثواك في قلبي فأين تغيب ؟ أما الاسى لك ، والحزن عليك ، فلا ينال منهما مرور الايام ، ولا يخففهما تطاول الاعوام ، إذ لا صبر عليك ولا سلوان عنك . كيف أرجو شفاء ما بي ، وما بي * دون سكناي في ثراك شفاء شطر نفسي دفنت ، والشطر باق * يتمنى ! ومن مناه الفناء القاهرة - الجيزة محمود أبوريه
---
(1) هو ولدي العزيز مصطفى صادق ، ترقبه القضاء وهو يتهيأ للخروج إلى الحياة بعد إتمام دراسته الهندسية الكهربائية بجامعة القاهرة فعاجله بسهم مسوم نفذ إلى (صدره) فتلقته مصحة حلوان ليعاني فيها برحاء المرض ، ويتلوى من غرز الابر ثلاث سنين سويا ، ثم فاضت روحه إل بارئها ، وكان ذلك في فجر يوم الخميس غرة رمضان سنة 1359 - 3 أكتوبر سنة 1940 ولما يتجاوز الثانية والعشرين من عمره ، ولم يدعني القضاء أتجرع الفجيعة التي قصمت ظهري فثنى بسهم آخر أصاب (كبد) أمه بعد أن ابيضت من الحزن عليه إحدى عينيها ، فخرت صريعة بيني وبين أولادها . وقد أضرحت لها مع عزيزها لتأنس به ويأنس بها . وغادراني بعدهما في حزن مقيم وعذاب أليم ، إلى أن يلحقني الله بهما . (*)
--- [ 7 ]
Страница 6
كلمة نصير الفكر والدين والعلم العلامة الدكتور طه حسين
" ولا بأس عليه من هذه الهنات التي أشرت إلى بعضها فالذين يبرءون من النقص والتقصير أو الهفوات أحيانا لا يكادون يوجدون " أضواء على السنة المحمدية جهد وعبء ثقيل لا يقوم به في هذه الايام إلا القليلون هذا كتاب بذل فيه مؤلفه من الجهد ما لا يبذل مثله إلا الاقلون الذين يمكن إحصاؤهم في هذه الايام التي انتشر فيها الكسل العقلي ، وعم فيها إيثار الراحة والعافية على الجد والمشقة والعناء . والذين يقرءون هذا الكتاب قراءة المتدبر المستأنى سيلاحظون مقدار هذا الجهد العنيف الذى مكن المؤلف من أن يصبر نفسه السنين الطوال على قراءة طائفة ضخمة من الكتب التي لا يكاد الباحثون يطيلون النظر فيها لكثرة ما يتعرضون له من كثرة الاسانيد وتكرارها وتعدد الروايات واضطرابها وإعادة الخبر الواحد مرات كثيرة في مواطن مختلفة . وأقل ما يوصف به النظر في هذه الكتب أنه يعرض صاحبه لكثير من الملل والضيق ، فليس قليلا أن يأخذ الانسان نفسه بقراءة المعروف من كتب السنة والموازنة بين ما روى فيها من الحديث في النص وفي الاسانيد التي روى بها هذا النص والبحث بعد ذلك عن الرجال الذين تتألف منهم هذه الاسانيد في الكتب المخصصة لذلك . * * * ويكفي أن نذكر أن المؤلف قرأ كتاب الموطأ لمالك رحمه الله وصحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داوود وكتاب الترمذي ، وكتاب ابن ماجة ومسند أحمد ابن حنبل ، ونظر مع ذلك في شروح طوال لبعض هذه الكتب وفي كتب كثيرة
--- [ 8 ]
Страница 7
أحرى منها الطوال ومنها القصار كتبت في تفسير نصوص الحديث وفي رجال الاسانيد وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الطبقات . وهو قد أثبت أسماء الكتب التي قرأها والتي أطال النظر فيها أو رجع إليها في كتابه في آخر الكتاب ، ويكفي أن تنظر إلى هذه الاسماء لتعرف مقدار ما أخذ المؤلف نفسه من الصبر والاناة والتعمق لما قرأ . فهذا وحده يدل على جهد عنيف وعبء ثقيل لا ينهض بهما في هذه الايام إلا الاقلون جدا كما قلت آنفا . وهذه هي المزية الاولى التي تسجل لمؤلف هذا الكتاب ، وقد قرأته مرتين ، وأشهد أنه قد ذكر في أثناء كتابه كل الكتب التي أثبتها أو أشار إليها . وإذا كانت لهذا دلالة فهو يدل على أنه لم يبالغ ولم يتكثر حين أثبت هذه الكتب في مراجعه وإنما انتفع بها جميعا أدق الانتفاع وأقواه . وموضوع الكتاب خطير حقا وقيم حقا لا يقف الناس عنده في هذه الايام وإنما يشفقون منه أشد الاشفاق يخافون أن تزل أقلامهم أو أن يثيروا سخط المحافظين الذين قرروا أن هذا النحو من العلم قد أصبح شيئا مقدسا أو كالمقدس لا ينبغي التعرض له إلا بالنقل والاستشهاد . فأما النقد والتعمق وإصدار الاحكام فأشياء لا يستقيم الخوض فيها لاحد . فقد أضاف المؤلف إذن إلى مزية الصبر والاناة وأخذ النفس بالعنف في سبيل البحث والاستقراء مزية أخرى وهي الشجاعة على البحث عن الحق والجهر به متى اطمأن إليه عقله لا يخاف في ذلك لوما ولا اعتراضا . وإنما هو مستعد للجدال عن آرائه والنضال عما استقر في نفسه أنه الحق . * * * الموضوع إذن خطير قيم وهو نقد ما وصل إلينا من الحديث الذي يحمل عن النبي صلى الله عليه وسلم وتمييز الصحيح من غيره ليطمئن المسلمون إلى ما يروى لهم عن رسول الله . وقد ألح المؤلف في تبيين أشياء تحمل على النبي وليست من كلامه في شئ وإنما دست عليه لاغراض مختلفة بعضها دسه جماعة من اليهود أظهروا الاسلام والورع واخترعوا أشياء من عند أنفسهم أضافوا بعضها إلى النبي
--- [ 9 ]
Страница 8
وأضافوا بعضها إلى التوراة . وليست هي من كلام النبي ولا من التوراة في شئ . وبعضها دس أثناء الوعظ والقصص أريد بها دعوة الناس إلى الفضائل وحب الخير واجتناب الآثام فرغبوا ورهبوا ولم يتحرجوا من إضافة أشياء إلى النبي يرون أن الناس يتأثرون بها أكثر مما يتأثرون بكلام الوعاظ والقصاص . وأشياء أخرى دست تملقا للخلفاء ورجال الحكم والتماسا للحظوة عندهم ، وأشياء أخرى اخترعها المختصمون في الكلام والفقه دفاعا عن آرائهم في هذين النوعين من العلم ، وأشياء دست لنشر الدعوة لبعض الاحزاب السياسية في العصور الاولى . ذلك إلى أفراد من الناس أكثروا من اختراع الحديث ليلقوا في روع العامة وبعض الخاصة أنهم أصحاب علم غزير ومعرفة دقيقة بأقوال النبي وأعماله . وكان لهذا كله أثر اي أثر في إفساد العقول والانحراف بآراء كثير من الناس عن الاستقامة في فهم الدين وتصور النبي كما ينبغي أن يتصوره المسلمون منزها عن هذا السخف الكثير الذى حمل عليه وهو منه برئ . (وكان هذا أيضا مطمعا لكثير من خصوم الاسلام وأعدائه في نقد الدين والتحامل عليه وعلى الرسول الذي جاء به ظلما وبهتانا) . * * * وقد فطن المحدثون القدماء لهذا كله واجتهدوا ما استطاعوا في التماس الصحيح من الحديث وتنقيته من كذب الكذابين وتكلف المتكلفين ، وكانت طريقتهم في هذا الاجتهاد إنما هي الدرس لحياة الرجال الذين نقلوا الحديث جيلا بعد جيل حتى تم تدوينه . فكانوا يتتبعون كل واحد من هؤلاء الرجال ويتحققون من أنه كان نقي السيرة صادق الايمان بالله ورسوله شديد الحرص على الصدق في حديثه كله وفي حديثه عن النبي خاصة . وهو جهد محمود خصب بذله المتقنون من علماء الحديث وأخلصوا فيه ما وجدوا إلى الاخلاص سبيلا . ولكن هذا الجهد على شدته وخصبه لم يكن كافيا ، فمن أعسر الاشياء وأشدها تعقيدا أن تتبع حياة الناس بالبحث والفحص والتنقيب عن دقائقها ، فمن الممكن أن تبحث وتفحص وتنقب دون أن تصل إلى حقائق الناس ودقائق أسرارهم وما تضمر قلوبهم في أعماقها وما يمعنون في الاستخفاء به من ألوان الضعف في نفوسهم وفي سيرتهم أيضا .
--- [ 10 ]
Страница 9
ولم يكن بد من أن يضاف إلى هذا الجهد جهد آخر وهو درس النص نفسه ، فقد يكون الرجل صادقا مأمونا في ظاهر أمره بحيث يقبل القضاة شهادته إذا شهد عندهم . ولكن الله وحده هو الذي إختص بعلم السرائر وما تخفيه القلوب أو تستره الضمائر ، وقد يكون الرجال الذين روى عنهم حديثه صادقين مأمونين مثله يقبل القضاة شهادتهم إن شهدوا عندهم ، ولكن سرائرهم مدخولة تخفي دخائلها على الناس . فلا بد إذن من أن نتعمق نص الحديث الذي يرويه عن أمثاله من العدول لنرى مقدار موافقته للقرآن الذي لا يتطرق إليه الشك ولا يبلغه الريب من أي جهة من جهاته لانه لم يصل إلينا من طريق الرواة أفرادا أو جماعات وإنما تناقلته أجيال الامة الاسلامية مجمعة على نقله في صورته التي نعرفها . وهذه الاجيال لم تنقله بالذاكرة وإنما تناقلته مكتوبا ، كتب في أيام النبي نفسه ، وجمع في خلافة أبي بكر وسجل في المصاحف وأرسل إلى الاقاليم في خلافة عثمان . فاجتمعت فيه الرواية المكتوبة والرواية المحفوظة في الذاكرة وتطابقت كلتا الروايتين دائما فلا معنى للشك في نص من نصوص القرآن لانها وصلت إلينا عن طريق لا يقبل فيها الشك . * * * وكذلك طائفة من أعمال النبي لم ينقلها فرد أو جماعة وإنما تناقلتها الامة الاسلامية كلها جيلا عن جيل كالصلوات الخمس المكتوبة التي أمر الله بها ولم يفصلها ففصلها النبي حين صلى بأصحابه وتناقلتها الامة على نحو ما أداها النبي . وقل مثل ذلك في الزكاة والحج وصيام رمضان الذي فصل الله في القرآن بعض أحكامه وفصلها النبي بصيامه وتعليم أصحابه كيف يصومون ، فإذا وصل إلينا حديث عن النبي فينبغي أن ندرس نص هذا الحديث ونتبين أنه لم يناقض القرآن ولم يناقض ما تواتر من أعمال النبي . . فإن كان فيه مناقضة قليلة أو كثيرة رفضناه واطمأنت قلوبنا إلى رفضه لان النبي إنما كان مفسرا للقرآن ومفصلا للمجمل من أحكامه . وكذلك كانت عائشة رحمها الله تفعل ، فقد نقل إليها أن بعض الصحابة يقولون إن النبي رأى ربه ليلة المعراج ، فقالت لمن نقل إليها ذلك : لقد قف شعري مما قلت . . وقرأت الآية الكريمة " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير " .
--- [ 11 ]
Страница 10
ونقل إليها عن بعض أصحاب النبي أن النبي قال إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ، فرفضت هذا الحديث ، وقرأت قول الله تعالى : " ولا تزر وازرة وزر أخرى " . وكان الصالحون من أصحاب النبي يتحرجون أشد التحرج من رواية الحديث عن النبي ، وكان عمر رحمه الله يشتد على من أكثر الحديث عن النبي وربما ضربهم بدرته كما فعل عمر مع أبي هريرة وأنذره بالنفى عن المدينة إلى أرض قومه في اليمن إن عاد إلى الحديث . ويروى أن النبي نفسه نهى عن كتابة أقواله وكره أن يكتب المسلمون عنه شيئا غير القرآن . وهذا كله سجله المؤلف في كتابه ولكنه يبتكره من عند نفسه وإنما هو شئ كان المتقنون من علماء المسلمين يقولونه ويذيعونه في كتبهم كما فعل ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما . ولكن المحدثين نسوا هذا أو أعرضوا عنه فاختلطت على الناس أمور الحديث وكان فضل المؤلف في إظهارها في هذا العصر ليقرأها الذين يحبون أن يصلح دينهم ويعصم من التخليط الكثير . ولكن المؤلف مع ذلك قد أسرف على نفسه في بعض المواطن ، ولست أريد أن أذكر هذه المواطن كلها تجنبا للاسراف في الاطالة وإنما أكتفى بضرب الامثال . فمنها مثلا هذه المؤامرة التى دبر فيها مقتل عمر بن الخطاب رحمه الله وشارك فيها كعب الاحبار وهو يهودى أسلم أيام عمر . والرواة يحدثوننا بأن كعبا هذا أنبأ عمر بأنه مقتول في ثلاث ليال . فلما سأله عمر عن ذلك زعم أنه يجده في التوراة ، فدهش عمر لان اسمه يذكر في التوراة ، ولكن كعبا أنبأه بأنه لا يجد اسمه في التوراة وإنما يجد صفته . ثم غدا عليه في اليوم الثاني لهذا الحديث . فقال له : بقى يومان . ثم غدا عليه في اليوم الثالث فقال له مضى يومان وبقى يوم : وإنك مقتول من غد . فلما كان الغد في صلاة الصبح أقبل ذلك العبد الاعجمي فطعنه وهو يسوى الصفوف للصلاة ، والمؤلف يؤكد أن عمر إنما قتل نتيجة لمؤامرة دبرها الهرمزان وشارك فيها كعب ويؤكد أن هذه المؤامرة ثابتة لا يشك فيها إلا الجهلاء . وأريد أن أؤكد أنا للمؤلف أنى أنا أحد هؤلاء الجهلاء لانى أشك في هذه المؤامرة أشد الشك وأقواه ولا أراها إلا وهما . فقد قتل ذلك العبد المشئوم نفسه قبل
--- [ 12 ]
Страница 11
أن يسأل . وتعجل عبيد الله بن عمر فقتل الهرمزان دون أن يسأل ، وعاش كعب لاحبار هدا سبعة أعوام أو ثمانية دون أن يسأله أحد أو يتهمه أحد بالاشتراك في هذه المؤامرة ، وكان كثيرا ما يدخل على عثمان ، ثم ترك المدينة وذهب إلى حمص فأقام فيها حتى مات سنة إثنتين وثلاثين للهجرة ، فمن أين استطاع المؤلف أن يؤكد وقوع هذه المؤامرة أولا ومشاركة كعب فيها ثانيا مع أن المسلمين قد غضبوا حين تعجل عبيدالله ابن عمر حين قتل الهرمزان جهلا عليه ولم يقدمه إلى الخليفة ولم يقم عليه البينة لانه شارك من قريب أو من بعيد في قتل أبيه . وقد ألح جماعة من المسلمين من أصحاب النبي على عثمان أن يقيم الحد على عبيد الله لانه قتل مسلما دون أن يقاضيه إلى الامام ودون أن يثبت عليه قتل عمر بالبينة . فعفا عنه عثمان مخافة أن يقول الناس قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم . وعد الثائرون على عثمان هذا العفو أحد أغلاطه ، وكان علي حين تولى الخلافة مزمعا معاقبة عبيد الله على فعلته تلك . ولكنه هرب من علي ولجأ إلى معاوية فعاش في ظله وقتل في موقعة صفين . ولم يسأل عثمان كعبا عن شئ ولم يتهمه أحد بشئ وقد ذهب من المدينة إلى الشام ومعاوية أمير عليها فعاش فيها حتى مات فلم يسأله عن شئ ، فمن أين يأتي هذا التأكيد الذى ألح فيه المؤلف حتى لعن كعبا ولم يكن له ذلك ، فالمعروف من أمر كعب أنه أسلم والمعروف كذلك أن لعن المسلمين غير جائز . ومثل آخر في الصفحة 154 حين زعم أن أبا هريرة رحمه الله لم يصاحب النبي محبة له أو طلبا لما عنده من الدين والهدى وإنما صاحبه على ملء بطنه . كان مسكينا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يطعمه . والمؤلف يروى لاثبات ذلك حديثا رواه أحمد بن حنبل ورواه البخاري أيضا ، ولكن مسلما روى هذا الحديث نفسه عن أبى هريرة . ونص الحديث عند مسلم أصرح وأوضح من نصه عند البخاري وابن حنبل فقد كان أبو هريرة يقول فيما روى مسلم أنه كان يخدم النبي على ملء بطنه . وفرق بين من يقول إنه كان يخدم ومن يقول إنه كان يصاحب ، وحسن الظن في هذه المواطن شر من سوئه ، وما أظن أبا هريرة أقبل من اليمن مع من أقبل منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا ليؤمن به ولا ليأخذ عنه الدين بل ليملا بطنه عنده . هذا إسراف في التأويل وفي إساءة الظن . والمؤلف شديد على أبى هريرة شدة أخشى أن يكون قد أسرف فيها شيئا .
--- [ 13 ]
Страница 12
فنحن نعلم أن أبا هريرة كان كثير الحديث عن النبي وأن عمر شدد عليه في ذلك وأن بعض أصحاب النبي أنكروا بعض حديثه وأنه أخذ كثيرا عن كعب الاحبار . وكان المؤلف يستطيع أن يسجل هذا كله تسجيلا موضوعيا كما يقال دون أن يقحم فيه غيظا أو موجدة . فهو لا يكتب قصة ولا يكتب أدبا فيظهر شخصيته بما ركب فيها من الغضب والغيظ والموجدة وإنما يكتب عالما وعالما يتصل بالدين وأخص مزايا العلماء ولا سيما في هذا العصر أنهم ينسون أنفسهم حين يكتبون العلم وأنهم يبحثون ويقررون بعقولهم لا بعواطفهم . فمن الظلم لابي هريرة أن يقال إنه لم يصاحب النبي إلا ليأكل من طعامه . والذى نعلمه أنه أسلم وصلى مع النبي وسمع منه بعض أحاديثه . فليقل فيه المؤلف إنه لم يصاحب النبي إلا ثلاث سنين وقد روى من الحديث أكثر مما روى المهاجرون الذين صحبوا النبي بمكة والمدينة ، وأكثر من الانصار الذين صاحبوا النبي منذ هاجر إلى المدينة حتى آثره الله بجواره . وهذا يكفى للتحفظ والاحتياط بإزاء ما يروى عنه من الحديث . وأخرى أريد أن أثبتها هنا وهي أن المؤلف يقول في حديثه الطويل عن أبى هريرة إنه لحرصه على الاكل ورغبته في الطيبات كان يأكل عند معاوية ويصلى مع على ويقول إن الاكل مع معاوية ادسم أو بعبارة أدق إن المضيرة عند معاوية أدسم ، والمضيرة لون من الحلوى ، وأن الصلاة مع على أفضل . وأريد أن أعرف كيف كان يجتمع لابي هريرة أن يأكل عند معاوية ويصلى مع على وقد كان أحدهما في العراق والآخر في الشام أو أحدهما في المدينة والآخر في الشام إلا أن يكون قد فعل ذلك أثناء الحرب في صفين . وما أحسبه كان يسلم لو فعله أثناء الحرب إذن لاتهمه أحد الفريقين بالنفاق والتجسس . وإنما هذا كلام قيل في بعض الكتب وكان يجب على الاستاذ المؤلف أن يتحقق منه قبل أن يثبته . فهذا أيسر ما يجب على العلماء . وبعد فالمؤلف يطيل في تأكيد ما اتفقت عليه جماعة المسلمين من أن الاحاديث التى يرويها الافراد والآحاد كما يقول المحدثون لا تفيد القطع وإنما تفيد الظن وحده ، ومن أجل ذلك لا يستدل المسلمون بهذه الاحاديث على أصول الدين وعقائده وإنما يستدلون بها أحيانا على الاحكام الفرعية في الفقه وعلى فضائل الاعمال
--- [ 14 ]
Страница 13
ويستعان بها على الترغيب في الخير والتخويف من الشر ، وكل الاحاديث التى اعتمد عليها المؤلف في المواضع التى ضربنا لها الامثال إنما هي أحاديث رواها الافراد والآحاد فهى لا تفيد قطعا ولا يقينا ، فما باله يرغب عن الافراط في الثقة بهذه الاحاديث ثم يستدل بها هو ليتهم الناس بأشياء لا سبيل له إلى إثباتها . وملاحظة أخيرة أختم بها هذا الحديث الذى أراه على طوله موجزا ، وهى أن المؤلف قد أخذ في كتابه وهو يؤمن فيما يظهر بأنه لن يظفر برضى الناس عنه ولن يظفر برضى فريق من رجال الدين خاصة فعرض بهم أحيانا ، واشتد عليهم أحيانا أخرى ووصفهم بالجمود حينا وبالتقليد حينا وبالحشوية أحيانا فأغرى هؤلاء الناس بنفسه وسلطهم على كتابه وخيل إليهم أنه يبغضهم ولا يراهم أهلا للبحث القيم والمحاولة لاستكشاف حقائق العلم . ولو أنه صبر حتى يخرج كتابه ويقرأه الناس ويسمع رأيهم فيه ونقدهم له لكان هذا الصبر خيرا له وأبقى عليه . وأنا بعد ذلك أجدد اعترافي للمؤلف بجهده العنيف الخصب في تأليف هذا الكتاب وإخلاصه الصادق للعلم والحق في بحثه عن الحديث . ولا بأس عليه من هذه الهنات التى أشرت إلى بعضها فالذين يبرءون من النقص والتقصير أو الهفوات أحيانا لا يكادون يوجدون . وصدق بشار حين قال : إذ أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت وأى الناس تصفو مشاربه ! طه حسين
--- [ 15 ]
Страница 14
هذه هي الكلمة النفيسة التى تفضل الدكتور طه حسين فنشرها عن كتاب (أضواء على السنة المحمدية " بعد ما قرأه . وإذا كان قد وجب على أن أقدم له أخلص الشكر وأعمقه - أن أولى كتابي هذا من بالغ العناية ما جعله يقرؤه غير مرة . فإن مما يسرنى - وأحمد الله عليه - أن سيادته وهو العالم الجليل ، والناقد العظيم . لم يجد شيئا يتجه إليه النقد بين مختلف مواضيع الكتاب - وهي خطيرة - لم يسبق أن حملها كتاب من قبل ، وأن ما بدا من نقده إنما كان " هنات لا بأس على منها " كما صرح بذلك في كلمته (1) . أما هذه الهنات فإنى أضع على هامشها هذا التعليق الوجيز ، وأرجو أن ينال من لدنه رضا وقبولا . كانت أولى هذه الهنات أن الدكتور قد شك في مؤامرة قتل عمر ، وفي أن كعب الاحبار كان ممن اشتركوا فيها ، ولقد ابتسمت عندما قرأت كلامه في ذلك ، وقلت كيف يغيب علم هذا الامر عن مثله وهو العالم النقاب وارتقبت كتابه " الشيخان " لانظر ما سيقول في مقتل عمر ، وما كدت أقرأ ما كتبه في ذلك حتى اطمأننت بما ذكرته في كتابي وحمدت الله أن ألفيت الشك الذى كان قد إعترى الدكتور في أمر مؤامرة قتل عمر قد زال والحمد لله (2) . أما الهنة الثانية فهى أنى قد أسرفت في التأويل عندما قلت : إن أبا هريرة قد أسلم ليملا بطنه . وأنى لم أذكر ذلك إلا لانه قد اعترف بنفسه في كتب الحديث الكثيرة ، ففى رواية البخاري : صاحبت النبي على ملء بطني ، ورواية مسلم خدمت النبي على ملء بطني ، والاعتراف كما يقول أئمة القانون سيد الادلة ، فأنا لم أتأول ولم أسرف في التأويل ، على أن تاريخ أبى هريرة يؤيد اعترافه هذا ، فقبل إسلامه يروى ابن سعد عنه : أنه كان أجيرا لابن عفاف وابنة غزوان بطعام بطنه ، وبعد إسلامه عندما كان نزيلا على الصفة جرى منه ما جرى مما بينه البخاري نفسه وغيره ولا داعى لبيانه هنا .
---
(1) نشرت هذه الكلمة بجريدة الجمهورية الصادرة في يوم الثلاثاء 25 نوفمبرسنة 1958 . (2) ص 256 و257 من كتاب (الشيخان) . 15 (*)
--- [ 16 ]
Страница 15
أما الهنة الثالثة وهى الاخيرة فهى شك الدكتور فيما رويناه من أن أبا هريرة كان يأكل المضيرة عند معاوية ويصلى خلف على - وكيف يفعل أبو هريرة . ذلك ويأمن على نفسه من أن يتهمه أحد الفريقين بالنفاق والتجسس ! . وإنى قبل كل شئ أقول إن هذا الخبر قد ورد في مصادر كثيرة للمؤرخين وكبار العلماء مثل : شذرات الذهب للعماد الحنبلى ، والسيرة الحلبية لبرهان الدين الحلبي ، والزمخشري في ربيع الابرار وأساس البلاغة ، وبديع الزمان الهمذانى الذى لم يكن من كبار الكتاب فحسب وإنما كان كما يعلم من تاريخه ثقة في الحديث يعرف الرجال والمتون ، والثعالبي في المضاف والمنسوب ، ولا نستوفي ذكر كل المصادر التى حملت هذا الخبر ، على أنه إن يفعل ذلك لا يخشى ضررا لانه كان معروفا بأنه لا في العير ولا في النفير ولم يكن من المحاربين بل ظل طوال حياته رجلا سلما . أما ما لاحظه الدكتور على أسلوبي من الشدة ، فلو أنه عرف ما قوبلت به من شتائم وسباب من يوم أن نشرت ما نشرت من فصول هذا الكتاب في مجلة الرسالة قبل أن يطبع الكتاب لعذرني فيما كتبت . على أنى قد رجعت إلى كل ما رأيته شديدا فيما كتبت فحذفته من هذه الطبعة وآثرت أن أدفع بالتى هي أحسن وأن أتبع قول الله فأمر على كل ما ينالني مرا كريما ، وأن يكون خطابي لمن يسوءني سلاما سلاما . أما الشدة على أبى هريرة التى أشار إليها الدكتور فليست منا ، وإنما هي شدة الادلة التى أحاطت به . هذه سطور وجيزة عن الهنات التى رآها الدكتور طه حسين في كتابي ، وإنى لمغتبط كثيرا من أن سيادته لم يلاحظ شيئا على أي موضوع من مواضيع الكتاب وهى كثيرة وخطيرة لم يسبق أن نشرت في كتاب جامع وأن يسمى ما وجده هنات ويقول في صراحة : " ولا بأس عليه من هذه الهنات التى أشرت إلى بعضها فالذين يبرءون من النقص والتقصير أو الهفوات أحيانا لا يكادون يوجدون " . حفظه الله . محمود أبوريه
--- [ 17 ]
Страница 16
بسم الله الرحمن الرحيم [ والذين اجتنبوا الطاغوت (1) أن يعبدوها وأنابوا إلى الله . لهم البشرى ، فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه . أولئك الذين هداهم الله . وأولئك هم أولو الالباب ] (آية 17 ، 18 من سورة الزمر)
تعريف بالكتاب
مما لا يكاد يختلف فيه إثنان ، أو يحتاج في إثباته إلى برهان ، أن للحديث المحمدى من جلال الشأن وعلو القدر ما يدعو إلى العناية الكاملة به ، والبحث الدقيق عنه ، حتى يدرس ما فيه من دين وأخلاق ، وحكم وآداب ، وغير ذلك مما ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم . وعلى أنه بهذه المكانة الجليلة ، والمنزلة الرفيعة ، فإن العلماء والادباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس ، وتركوا أمره لمن يسمون رجال الحديث يتداولونه فيما بينهم . ويدرسونه على طريقتهم - وطريقة هذه الفئة التى اتخذتها لنفسها قامت على قواعد جامدة لا تتغير ولا تتبدل . فترى المتقدمين منهم وهم الذين وضعوا هذه القواعد قد حصروا عنايتهم في معرفة رواة الحديث والبحث - على قدر الوسع - في تاريخهم . ولا عليهم بعد ذلك إن كان ما يصدر عن هؤلاء الرواة صحيحا في نفسه أو غير صحيح . معقولا أو غير معقول . ذلك بأنهم وقفوا بعلمهم عند ما يتصل بالسند فحسب ، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شئ . ثم جاء المتأخرون منهم فقعدوا وراء الحدود التي أقامها من سبقهم ، لا يتجاوزونها ولا يحيدون عنها ، وبذلك جمد علم الرواية منذ القرون الاولى لا يتحرك ولا يتغير .
---
(1) الطاغوت ما تكون عبادته وطاعته سببا للطغيان والخروج عن الحق ، من مخلوق يعبد ورئيس يقلد ، وهوى يتبع - وقال ابن القيم : الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع ، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، ويطيعونه فيما يعلمون أنه طاعة لله . (*)
--- [ 18 ]
Страница 17
ووقف هؤلاء وهؤلاء عند ظواهر الحديث كما أدت إليه الرواية مطمئنين إليها ، آخذين بها من غير بحث فيها ولا تمحيص لها . وعلى أنهم قد بذلوا أقصى جهدهم في دراسة علم الحديث من حيث العناية بسنده حتى قيل : " إن علم الحديث قد نضج واحترق " (1) . فإنهم قد أهملوا جميعا أمرا خطيرا كان يجب أن يعرف قبل النظر في هذا العلم ودرس كتبه - ذلك هو البحث عن حقيقة النص الصحيح لما تحدث به النبي صلوات الله عليه . وهل أمر بكتابة هذا النص بلفظه عند إلقائه - كما فعل بالقرآن الكريم . أو تركه ونهى عن كتابته ؟ وهل دونه الصحابة ومن بعدهم ، أو انصرفوا عن تدوينه ؟ وماذا كان أمرهم - ومن تبعهم - عندما أخذوا في روايته ؟ وهل ما روى منه قد جاء مطابقا لحقيقة ما نطق به النبي - لفظا ومعنى - أو كان مخالفا له ؟ وما هي العوامل التي تدسست إليه من نزعات أعدائه ، والمؤثرات التي أصابته من أغراض أوليائه ، حتى شيب بما ليس منه ، وتسرب إليه ما هو غريب عنه ؟ ثم في أي زمن دون ما حملته الرواية منه ؟ وهل اتخذ التدوين طريقة واحدة لم تتغير على مد العصور وتوالي الاجيال ؟ وفي أية صورة خرج أخيرا إلى الناس في كتبه التي اعتمد عليها الجمهور ؟ وماذا كان موقف علماء الامة منه ؟ وما مبلغ ثقتهم به ، ومدى اختلافهم فيه ، بعد أن عراه ما عراه وتأثر بما تأثر به ؟ وما إلى ذلك من الامور المهمة التي يجب أن يعرفها كل مسلم أو باحث في الدين الاسلامي قبل النظر فيه ، والاخذ بما تؤدي إليه ألفاظه ومعانيه . أما هذا كله وغيره مما يتصل - بحياة الحديث وتاريخه - فقد انصرف عنه العلماء والباحثون ، وتركوه أخبارا في بطون الكتب مبعثرة ، وأقوالا بين ضمائر الاسفار مستترة ، لا يضم نشرهاك تاب ولا يعنى بتصنيفها باحث نقاب (2) . ولقد كان يجب عليهم قبل أن يشتغلوا بعلم الحديث أن يعرفوا تاريخ هذا
---
(1) قالوا : العلوم ثلاثة : علم نضج وما احترق ، وهو علم النحو والاصول ، وعلم لا نضج ولا احترق ، وهو علم البيان والتفسير ، وعلم نضج واحترق وهو علم الحديث والفقه . (2) يقال رجل نقاب أي نافذ الامور . (*)
--- [ 19 ]
Страница 18
العلم . ذلك بأن العلماء قد أوجبوا معرفة تاريخ كل علم قبل دراسته فقالوا : إن تاريخ كل مادة يقع منها موقع البصر من الجسم (1) . أسباب تصنيف هذا الكتاب : لما أنشأت أدرس دينى درس العقل والفكر ، بعد أن تلقيته تلقينا من نواحى العاطفة والتقليد ، رأيت أن أرجع إلى مصادره الاولى وأسانيده الصحيحة ، ولما وصلت من دراستي إلى كتب الحديث المعتمدة لدى الجمهور ، ألفيت فيها من الاحاديث ما يبعد أن يكون - في ألفاظه أو معانيه أو أسلوبه - من محكم قوله ، وبارع منطقه صلوات الله عليه ، ومما راعني أنى أجد في معاني كثير من الاحاديث ما لا يقبله عقل صريح ، ولا يثبته علم صحيح ، ولا يؤيده حس ظاهر ، أو كتاب متواتر (2) . ووجدت مثل ذلك في كثير من الاحاديث التى شحنت بها كتب التفسير والتأريخ وغيرها ! ومما كان يثير عجبى أنى إذا قرأت كلمة لاحد أجلاف العرب أهتز لبلاغتها ، وتعروني أريحية من جزالتها ، وإذا قرأت أكثر ما ينسب إلى النبي من قول لا أجد له هذه الاريحية ، ولا ذلك الاهتزاز ، وكنت أعجب كيف يصدر عنه صلوات الله عليه - مثل هذا الكلام المغسول من البلاغة والعارى عن الفصاحة - وهو أبلغ من نطق بالضاد ، أو يأتي منه مثل تلك المعاني السقيمة وهو أحكم من دعا إلى رشاد ! ! وما كان هذا العجب إلا لانى كنت أسمع من شيوخ الدين - عفا الله عنهم - أن الاحاديث التى تحملها كتب السنة قد جاءت كلها على حقيقتها ، بألفاظها ومعانيها ، وأن على المسلمين أن يسلموا بكل ما حملت ولو كان فيها ما فيها ! ! ولما قرأت حديث " من كذب على - متعمدا - فليتبوأ مقعده من النار " غمرني الدهش لهذا القيد الذى لا يمكن أن يصدر من رسول جاء بالصدق وأمر به ، ونهى عن الكذب وحذر منه ، إذ ليس بخاف أن الكذب هو الاخبار بالشئ
---
(1) كتاب مناهج وتجديد للاستاذ أمين الخولى ص 88 . (2) الكتاب المتواتر هو القرآن الكريم فحسب . (*)
--- [ 20 ]
Страница 19
على خلاف ما هو عليه سواء أكان عن عمد أم غير عمد . وظللت على ذلك حتى حفزني حب عرفان الحق إلى أن أبحث عن أصل الحديث وروايته ، وتاريخ حياته من المصادر الصحيحة ، والاسانيد الوثيقة ، لعلى أقف على شئ يذهب بما يحيك في صدري من حرج ، ويصرف ما يغمر نفسي من ضيق . وذلك لان هذا الامر الجليل - لم يفرد من قبل بالتأليف الجامع الذى يشبع نهم الباحث ، ويحقق بغية الطالب . ولبثت زمنا طويلا أبحث وأنقب فلا أدع كتابا يمكن أن يستفاد منه كلمة لما أنا بسبيله إلا قرأته في طلبها ، لا آلو في ذلك جهدا ، ولا أطاوع النفس عندما تسكن إلى الراحة ، مما يدركها من ملل أو يغشاها من تعب ، بل آخذها بالصبر والاناة والمطاولة ، حتى انتهيت إلى حقائق عجيبة ونتائج خطيرة ! ذلك أنى وجدت أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها مما سموه صحيحا ، أو ما جعلوه حسنا - حديث - قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه ، كما نطق الرسول به ، ووجدت أن الصحيح منه على اصطلاحهم إن هو إلا معان مما فهمه بعض الرواة ! وقد يوجد بعض ألفاظ مفردة بقيت على حقيقتها في بعض الاحاديث القصيرة وذلك في الفلتة والندرة ، وتبين لى أن ما يسمونه في اصطلاحهم حديثا " صحيحا " إنما كانت صحته في نظر رواته ، لا أنه صحيح في ذاته ، وأن ما يقال عنه " متفق عليه " ليس المراد أنه متفق على صحته في نفس الامر ، وإنما المراد أن البخاري ومسلم قد اتفقا على إخراجه - وليس من شروط الحديث الصحيح أن يكون مقطوعا به في نفس الامر لجواز الخطأ والنسيان والسهو على الثقة ، ومن أجل ذلك جاءت الاحاديث وليس عليها من ضياء بلاغته صلوات الله عليه إلا نور خافت أو شعاع ضئيل . ولا أحصى هنا كل ما انكشف لى ، لانه كثير جدا قد فصلناه في كتابنا هذا تفصيلا . كان أول ما بان لى من هذه الحقائق ، أن النبي صلوات الله عليه لم يجعل لحديثه كتابا يكتبونه عندما كان ينطق به كما جعل للقرآن الحكيم ، وتركه ينطلق من غير قيد إلى أذهان السامعين ، تخضعه الذاكرة لحكمها القاهر ، الذى لا يستطيع إنسان مهما كان أن ينكره أو ينازع فيه ، من سهو أو وهم ، أو غلط أو نسيان .
--- [ 21 ]
Страница 20
وبذلك تفكك نظم ألفاظه وتمزق سياق معانيه ، ولم يدع صلوات الله عليه الامر على ذلك فحسب ، بل نهى عن كتابته ، فقال فيما رواه مسلم وغيره : " لا تكتبوا عنى شيئا سوى القرآن ، فمن كتب عنى غير القرآن فليمحه . " وقد استجاب أصحابه لهذا النهى فلم يكتبوا عنه غير القرآن ، ولم يقف الامر بهم عند ذلك بل ثبت عنهم أنهم كانوا يرغبون عن رواية الحديث وينهون الناس عنها ، ويتشددون فيما يروى لهم منها . وقد كان أبو بكر وعمر لا يقبلان الحديث من الصحابي مهما بلغت منزلته عندهما ، إلا إذا جاء عليه بشاهد يشهد معه أنه قد سمعه من النبي ، وكان على يستحلف الصحابي على ما يرويه له رضى الله عنهم جميعا . وكان ذلك في عصر الصحابة فترى ماذا يكون الامر بعد ذلك ؟ ! رواية الحديث بالمعنى : ولما رأى بعض الصحابة أن يرووا للناس من أحاديث النبي ، وذلك في المناسبات التى تقتضي روايتها ، وقد يكون ذلك بعد مضى سنين طويلة على سماعها ، ووجدوا أنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بالحديث على أصل لفظه ، كما نطق النبي به ، استباحوا لانفسهم أن يرووا على المعنى ، ثم سار على سبيلهم كل من جاء من الرواة بعدهم ، فيتلقى المتأخر عن المتقدم ما يرويه عن الرسول بالمعنى ثم يؤديه إلى غيره بما استطاع أن يمسكه ذهنه منه ، وهذا أمر معلوم لا يمترى فيه أحد حتى لقد قال وكيع كلمته المشهورة : " إذا لم يكن المعنى واسعا فقد هلك الناس " وقال سفيان الثوري : " إن قلت إنى أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني ! فإنما هو المعنى " . وهكذا ظلت الالفاظ تختلف والمعاني تتغير بتغير الرواة . فيهم - كما قال السيوطي : الاعاجم والمولدون وغيرهم ممن ليسوا بعرب ولهجتهم العربية ليست خالصة ! وكان البخاري - وهو شيخ رجال الحديث ، وكتابه ، كما هو مشهور بين الجمهور - أصح كتاب بعد كتاب الله كما يقولون ، يروى على المعنى ! ولقد كان لرواية الحديث بالمعنى - ولا جرم - ضرر كبير على الدين واللغة والادب ، كما ستراه فيما بعد .
--- [ 22 ]
Страница 21
وكذلك أباحوا لانفسهم أن يأخذوا الحديث إذا أصابه اللحن أو اعتراه الخطأ أو اختل نظمه بالتقديم والتأخير ، وأن يأخذوا ببعض الحديث ويدعوا بعضا . وسيتبين ذلك كله في مواضعه من هذا الكتاب إن شاء الله . حديث من كذب على : وقد عنيت بالبحث عن حقيقة هذا الحديث حتى وصلت بعد طول السعي إلى أن كلمة " متعمدا " لم تأت في روايات كبار الصحابة . ويبدو أن هذه الكلمة قد تسللت إلى هذا الحديث من سبيل " الادراج " المعروف عند رجال الحديث لكى يتكئ عليها الرواة فيما يروونه عن غيرهم من جهة الخطأ أو الوهم ، أو الغلط أو سوء الفهم ، ليدرءوا بذلك عن أنفسهم إثم الكذب ، ولا يكون عليهم في الرواية أي حرج ، ذلك بأن المخطئ غير مأثوم - أو أن هذه الكلمة قد وضعت ليسوغ بها الذين " يضعون الاحاديث " عن غير عمد عملهم ، ليسندوا بها أقوالهم ، وليثق الناس فيهم (1) . الموضوعات : لم يرزأ الاسلام بشئ في حياته كلها مثل ما رزئ بتلك الموضوعات التى تولى كبرها أعداء الاسلام وأحباؤه على السواء لاسباب كثيرة بيناها في موضعها ، وناهيك بالاسرائيليات التى بثها اليهود ، أمثال كعب الاحبار ، ووهب بن منبه وغيرهما . وكذلك المسيحيات وغيرها مما تسلل إلى الدين من الاديان والنحل غير الاسلامية وقبلها المسلمون من غير أن يبحثوا فيها ، أو يفطنوا لها . أبو هريرة : ولما كان أبو هريرة أكثر الصحابة رواية عن رسول الله على حين أنه لم يصاحب النبي إلا سنة واحدة وتسعة أشهر ، كما حققناه في كتابنا (شيخ المضيرة) (2) ،
---
(1) كالقصاص وغيرهم . (2) طبع هذا الكتاب مرتين ونعده الآن للطبعة الثالثة إن شاء الله . (*)
--- [ 23 ]
Страница 22
وفي رواياته ما فيها من مشكلات بقيت على وجه الدهر ، وستبقى ، فقد أفردنا له ترجمة خاصة أدينا فيها حق العلم وتحرينا وجه الحق فأوردنا فيها ما له وما عليه بغير أن نخشى أحدا في إظهار الحق ، أو نتحرج من شئ في بيان العلم ، ذلك بأن الحق أولى من أبى هريرة وأكبر من أبى هريرة . جمع القرآن وتدوينه : وقد رأينا قبل تفصيل القول في تدوين الحديث أن نوطئ بفذلكة صغيرة في تدوين القرآن أتينا فيها على خلاصة كاملة من أمر هذا التدوين حتى يتجلى للناس كيف كانوا يتحرون الدقة التامة والتثبت الفائق في جمع القرآن ، وبذلك جاء كله " متواتر " يكفر من جحد شيئا منه . ولو أن الحديث قد دون في عصر النبي كما دون القرآن ، واتخذ له من وسائل التحرى والدقة مثل ما اتخذ للقرآن ، لجاء كله " متواتر " كذلك ولما اختلف المسلمون فيه هذا الاختلاف الشديد الذى لم يستطع أحد - على مد العصور - تلافيه . كتابة الحديث : ومما كشف عنه البحث أن كتابة الحديث لم تقع إلا في القرن الثاني ، أي بعد انتقال النبي إلى الرفيق الاعلى بأكثر من مائة سنة ، ولم يكن ذلك بدافع من الرواة ، وإنما كان بوازع من الولاة ، إذ كانوا يتحرجون من كتابته خشية أن يقعوا فيما نهى النبي عنه - وقد كانت هذه الكتابة أول ما بدأت غير كاملة ثم تقلبت في أطوار مختلفة ، إلى أن خرجت في صورتها الاخيرة حول منتصف القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجرى . ولقد كان لتأخير كتابة الحديث ضرر كبير بيناه في موضعه من الكتاب . نشأة علم الحديث : ولما كان علم الحديث يتصل ببحثنا ، فقد أتينا بإلمامة صالحة منه يهتدى بها من يريد معرفته . وتكلمنا عن كتب الحديث المشهورة لنبين حقيقتها وما استدرك عليها وقيل فيها ، وألمعنا إلى أمر الجرح والتعديل واستطردنا من ذلك إلى " عدالة الصحابة "
--- [ 24 ]
Страница 23