ألق إذا هذه العمة، واخرج إذا من هذه الجبة، ومن هذا القفطان، وعد إلى ثوبك الفضفاض، الذي كنت تلبسه قبل أن تهبط إلى القاهرة، والذي كان يمتاز من ثياب أترابك من أهل الريف بضيق كميه وتكسرهما بعض الشيء عند آخرهما، وبهذا التكسر المنظم على الصدر، وفي أعلى الظهر، وبهذا الحزام العريض الذي كان يتصل به عند الخصر، ولكنه لا يحيط بالجسم كله، وإنما هو قطعتان قد خيطتا على جانبي الثوب من يمين وشمال، ثم وصلت إحداهما بالأخرى أزرار من الصدف. عد إلى هذا الثوب وضع على رأسك ذلك الغطاء الرقيق الأبيض الذي يسمونه الطاقية وما هو بالطاقية، وإنما هو شيء يصطنعه المترفون من أهل المدن في الأقاليم يقلدون به بعض قلانس الفرنجة ويسمونه الطاقية الإفرنجية.
عد إلى هذا الزي، وسأخرج أنا من هذا الزي الأوربي وأعود إلى الزي الذي كنت أصطنعه في الريف حين لم أكن أذهب إلى المدرسة فأدخل في ثوب من الصوف، مفتوح الصدر، وأتخذ على رأسي الطربوش، كما يفعل المترفون من أبناء العمد، فأنت تعرف أني ابن عمدة، وسأزورك ماشيا لا أركب لهذه الزيارة فرسا ولا حمارا؛ لأني أريد أن أكون حرا طليقا، وأن أقضي معك وقتا لا يشغلني فيه التفكير في فرس أو حمار.
عد إلى زيك القديم وسأعود إلى زيي القديم وانتظر أن أزورك، وحدثني أين ألقاك، على ألا يكون اللقاء في بيتك فأنا أعرفه حق المعرفة، ولا أريد أن أجلس في المنظرة، ولا أريد أن أجلس في ظل هذه العنبات التي تقوم إلى جانبها، ولا أريد أن ألعب في هذا الفناء الذي ينبسط أمامها والذي يرونه واسعا وأراه ضيقا، والذي يحب أبوك أن يجلس فيه إذا كان العصر، والذي يؤثر سيدنا أن يقرأ فيه القرآن كل يوم قبل أن تطلع الشمس.
إنما أريد لقاء حرا، في مكان حر، ليس فيه رقيب يسمع لنا إذا تحدثنا، أو يسألنا أين تذهبان إذا أردنا أن نمضي أمامنا وألا نلزم مكانا بعينه.
قلت وقد أثر في نفسي حديثه وصوته ولهجته وما أثار من الذكرى، فرجعت إلى ذلك الطور الذي كنت فيه حين فارقت المدينة لأهبط إلى القاهرة، ورجعت إلى ذلك الزي الذي وصفه والذي كنت أعود إليه كلما عدت إلى الأقاليم.
قلت: فستلقاني إذا في طريقك جالسا أمام دكان الشيخ محمد عبد الواحد، على أحد هذين الصندوقين اللذين يكتنفان الدكان عن يمين وشمال، واللذين يجلس عليهما الناس لينفقوا بعض الوقت في الحديث وفي النظر إلى من يأتي ومن يغرب، أو من يذهب إليه، وإلى النساء وهن يذهبن إلى الإبراهيمية ليملأن جرارهن، ويعدن منها وقد أثقلت رءوسهن هذه الجرار، وهن يتحدثن همسا بينهن أثناء النهار، كما يتغنين جماعة حين يغدون مع الصبح، أو في الاستماع إلى حديث هاتين المرأتين اللتين تكتنفان الدكان عن يمين وشمال، إلا أن إحداهما تلاصقه والأخرى قد أقامت دارها في الناحية الأخرى من الشارع، أتعرفهما؟ قال: كما تعرفهما؛ فأما الأولى فزنوبة، وأما الأخرى فأم محمود، كلتاهما تجلس على باب دارها وتتحدث إلى صاحبتها ألوان الحديث، في صوت مرتفع، فيه عبث ودعابة ولين، وشباب المدينة يكلفون بالجلوس عند الدكان ليسمعوا لحديثهما وليدخلوا فيه من حين إلى حين، حين يكون الحديث دعابة، وما أكثر ما يكون الحديث دعابة بينهما، فهما لا تحسنان في الحياة إلا الدعابة وكسب المال. قلت: فستلقاني جالسا على أحد هذين الصندوقين، فقد تعودت أن أقضي وجه النهار مع صاحب الدكان وأخيه، أتحدث مع أولهما في أخبار الشيخ ماضيه وآثاره وكراماته ومقاماته، وأسمع من ثانيهما ما يقرأ علي من كتب القصص والوعظ، لا ينقطع حديثنا، ولا تنقطع قراءتنا إلا حين تأتي امرأة أو فتاة لتشتري بعض الملح أو الفلفل أو الخيط، أو ما يباع عندهما من سقط المتاع.
قال: فقد انحدرت إليك من المغرب، ولم أكد أهبط من الجسر حتى مررت بهذه الدور التي تعرفها فحييت حسن كوزو وهو جالس أمام داره ومن حوله امرأته وبناته وأبناؤه، وهم يلغطون لغطهم المتصل، ثم مررت بدار عم حسنين، ولم ألقه من حسن الحظ، فلو قد لقيته لاستوقفني ولسألني: فيم أقبلت؟ وكيف تركت أبي؟ وما بال أبي لا ينحدر إلى المدينة؟ وما أشك في أنه كان سيستبقيني، ولعله كان يلح علي في أن أتغدى عنده فهو حريص على أن تتصل المودة بينه وبيننا، ولكني جزت الدار سالما لم ألق أحدا ولم أتعرض لهذا الإكرام الذي كنت أخشاه، وقد رأيتك من بعيد وتبينت أنك لم تكن تتحدث إلى صاحب الدكان ولا تسمع لقراءة أخيه، إنما كنت معتزلا على صندوقك، قد انثنى أعلاك على أسفلك، وقد وضعت رأسك بين يديك، والناس من حولك قائمون، منهم من يشتري، ومنهم من ينظر، ومنهم من يمنح طرفه زنوبة، ومنهم من يمنح طرفه أم محمود، وهذا الشيطان المارد ابن العمدة، يذهب في الشارع ويجيء، متحدثا متغنيا، يلقي نظره خلسة إلى هذه الحارة عن يمين الدكان، حيث يقيم سيدنا وامرأته الشابة وحماته العجوز، وحيث تقيم عالية أم غريب.
وهأنذا أنتهي إليك فأضع يدي على كتفك، وها أنت ذا تذعر لمكاني منك، ولكنك لا تكاد تسمعني أحييك حتى تطمئن إلي وتبتسم لي، وتدعوني إلى الجلوس، ولكني آبى ذلك عليك، وأنهضك وآخذ بذراعك ثم نندفع في هذا الشارع الذي يكاد يواجه بيت زنوبة ونمضي معا إلى القناة.
انظر ها نحن هذان قد بلغنا القناة، فأما عن يميننا فحديقة جرجس أفندي ثم المنحدر إلى بيتكم، وأما عن شمالنا فخيام العرب، الذين اختاروا هذا المكان مضربا لخيامهم، والذين يخفرون هذا الطرف من أطراف المدينة إلى أي الوجهين تريد أن نمضي؟ أتريد أن نمضي إلى يمين لنبلغ المدينة؟ أم تريد أن نمضي إلى شمال نحو العرب لنبلغ الإبراهيمية، فنأوي إلى ظل شجرات التوت؟ أو نمضي أمامنا في هذه الحقول التي لا تكاد تنتهي؟ أم تريد أن نعبر القناة؟ فليس عبورها شاقا ولا عسيرا، فهي جافة في هذه الأيام، ألست تحس من حولك هؤلاء الصبية، وهم يلعبون فيها، ويلتمسون ما تخلف في طينها من صغار السمك؟ إلى أين تريد أن نمضي؟ إننا إن عبرنا القناة لم نمض غير قليل في هذا الفضاء الواسع الطلق حتى نبلغ الخط الحديدي، فإذا عدونا فقد انتهينا إلى المدينة من طريق قريبة، إلى أين تريد أن نمضي؟
وما أراني محتاجا إلى أن أسمع منك جوابا، فأنت تريد من غير شك وأنا أيضا أريد أن نأخذ طريقنا عن يمين فإنها يسيرة مألوفة، وهي طريق الناس حين يأتون من المدينة أو يذهبون إليها، وهي خليقة أن تقدم لنا من ضروب اللهو وألوان العبث والمتاع ما نبتغي، فليس بيننا وبين حديقة المعلم إلا خطوات. ها نحن هذان قد بلغناها، وآثرنا أن نميل إليها فنجني من ريحانها، ونقتطف من أثمارها، ونستظل بأشجارها ساعة لنتحدث فيما تعودنا أن نتحدث فيه، إنها لجميلة هذه الحديقة؛ لم تتخذ زينة، ولم يعمل فيها المنسقون، وإنما هي حرة مطلقة! ينبت فيها الزهر والشجر كما يريدان في غير قيد ولا نظام، وإنها لجميلة حين تقدم في رشاقة وخفة بما تحمل من زهر وثمر، وورق نضر وأغصان لدنة إلى القناة، كأنها تريد أن تهدي هذا كله إلى هذا الماء حين يجري فيها قويا هادئا موفور النشاط مع ذلك كأنه إله شاب من آلهة الأساطير.
Неизвестная страница