وأنت تخطئ إن ظننت أنه تحمس الشباب أو أنه التعجل والتقصير في التفكير، فأنا أعرف نظام الجامعة هذا قبل أن أقدم على الامتحان، وأنا أفكر فيه منذ أعلنت الجامعة إلى هذه البعثة، ومنذ ظهرت نتيجة الامتحان خاصة، فليس إلى هذا الصدق الذي تطلبه من سبيل، لن أعدل عن الرحلة ولن أصارح الجامعة بجلية الأمر، قلت: وإذا؛ ففيم تستشيرني وقد أجمعت أمرك ووطنت نفسك على الكذب؟ قال: كلا يا سيدي، لم أوطن نفسي على الكذب، ولو قد وطنت نفسي عليه لأمعنت فيه ولأخفيت جلية الأمر عليك ولاجتهدت في إخفائها على نفسي، ولكني قد وطنت نفسي على الظلم، فأنا أريد أن أكون صادقا، حين أتحدث إلى الجامعة، إذا كان الصباح، وأن أكون ظالما لنفسي ولامرأتي، قلت: فإني أرى في هذا إثما بشعا واستباحة قبيحة للشر، واعتداء على حق من لا تملك الاعتداء عليه، قال وهو يضحك حزينا: وأنت مع هذا أزهري تدرس الفقه وتعرف أن الطلاق مباح وأنه أبغض الحلال إلى الله، ولكنه مع ذلك حلال لا خطيئة فيه، ولا إثم على الذين يقدمون عليه، فأمر الزواج عندنا ليس إلى امرأتي بعد أن قبلته وهو ليس إليها وإلي، وإنما هو إلي وحدي، فأنا أستطيع أن أمسكه إن شئت وأستطيع أن أحل عقدته إن أردت، وأنا أريد أن أحل هذه العقدة، لا إيثارا للطلاق ولا رغبة عن امرأتي ولكن إيثارا لما هو خير من الزواج ولما هو خير من الزوج وإن كانت خليقة بالحب والمودة والعطف، إيثارا للعلم ورغبة في رقي النفس والعقل، قلت: فإني أخشى أن يكون هذا كله غرورا ووحيا من وحي الأماني، وما أدري أيهما خير: هذا العلم الذي تتحدث عنه كأنه شيء لا يدرك إلا إذا تكلفت له ما ستتكلف من الشر، أم هذه الزوج التي أصفتك ودها ومنحتك حبها، ووقفت حياتها عليك، وجعلها الله رحما لك وسكنا، ومن يدري! لعل تحصيل هذا العلم الذي تتهالك عليه وتستبيح في سبيله الظلم، أن يكون ميسرا لك وأنت مقيم في مصر بين أهلك لا تفارقهم ولا تتكلف لهم ظلما، ولن تكون أول من حصل العلم دون أن يرحل إليه، والعلم يعبر إلينا البحر من أوربا، وهو يسعى إلينا في دورنا، ونحن نستطيع أن نلتمسه فيما يلقى من الدروس وفيما يؤلف من الكتب، وإني لأخشى ألا يكون حب العلم الخالص هو الذي يغريك بهذه الرحلة التي لن أتحرج من أن أراها آثمة، وإنما يغريك بها سأم الأديب والحرص على تغيير الحياة، والطموح إلى منصب الأستاذ، وهذا كله يغري، ولكنه يجب أن يكون أهون على الرجل الكريم من أن يدفعه إلى الظلم والإثم والعدوان.
قال: يا سيدي إنك تضيع وقتك ووقتي، فلن تقنعني بالعدول عن الرحيل، ولا بإظهار الجامعة على جلية الأمر. وليس إلى اقتناعي بالكذب على الجامعة سبيل، أتدري لماذا أهون عليك؟ فإني أرى هذا الكذب مباحا وما أكثر ما أبيح لنفسي أشياء تحرمونها أنتم على أنفسكم، ويحرمها عليكم الدين وما تواضعتم عليه من الأخلاق، أنا لا أكره هذا الكذب لأني أراه إثما، وإنما أكرهه لأنه سيدفعني إلى آثام أمقتها حقا، وإلى ظلم أرى أن ظلم الطلاق أهون منه، إني لأعرف من أمر أوربا شيئا كثيرا، وقد قرأت غير قليل مما ترسل إلينا من القصص، وسمعت غير قليل من أنباء الذين يرحلون إليها ويقيمون فيها، وكل هذا ينبئني بأني لن أقاوم الحياة الأوربية وآثارها في نفسي كما ينبغي للرجل الوفي لزوجه أن يقاومها، فأنا واثق يا سيدي بأني سآثم وسأنغمس في الخطايا وأنا أريد أن أحتمل وحدي هذا الإثم وأنغمس وحدي في شر هذه الخطايا، وأنا أبيح لنفسي أن أكذب على الجامعة، ولكني لا أبيح لنفسي أن أكذب على امرأتي كذبا متصلا، فأزعم لها أني وفي أمين، على حين أني قد غرقت في الخيانة إلى أذني، قلت وقد اقشعر جلدي واضطرب قلبي وأخذني غضب عميق لا أكاد أجهر به، ولا أكاد أخفيه: فهل تعلم أنك تقول منكرا من القول، وأنك تقدم على أمر بشع شنيع، وأن حبي لك يحملني على أن أتمنى ما استطعت أن تصرف عن رحلتك هذه صرفا، وأن تكره على الإقامة في مصر إكراها. أنت تعلم أنك ستأثم في أوربا ثم تقدم مع ذلك على السفر إليها، وتشتد في السفر، فأنت إذا تريد الإثم وتتعمد الخطيئة وتصر على المعصية، ولكن كلمة المعصية هذه لم تكد تبلغ أذنيه حتى جن جنونه، واندفع في ضحك عريض، عال متصل، أخرجه عن طوره وكاد ينتهي به إلى الشر في جسمه وفي عقله أيضا، وكان هو يضحك ويضطرب اضطرابا عنيفا من شدة الضحك وأنا واجم ذاهل مبهوت أسأل نفسي أول الأمر عن هذا الخبل الذي مسه، ثم تثوب إلي نفسي قليلا قليلا وإذا أنا أحس العمامة التي على رأسي وأحس الجبة والقفطان اللذين أسبغا على جسمي إسباغا، وأذكر أني شيخ وأني أزهري، وأني تحدثت إلى صاحبي حديث رجل الدين، وأن صاحبي يسخر مني ويهزأ بي ويردني إلى مكاني الأول، ويرى أن أمله في قد خاب وأن اختلافي إلى الجامعة واستماعي للأساتذة الأوربيين وتحدثي إليه واستماعي منه، وما قرأنا من كتب أوربية، وما كنت أتكلف من التجديد والخروج على الأزهر والأزهريين والتنكر له ولهم، وما كنت أرمي به من المروق وإيثار البدعة، وما كنت أجد من اللذة حين أحس أن الناس يرون في المروق وحب البدع جديدا، كل هذا لم يكن إلا غشاء رقيقا وطلاء يسيرا لا يكاد يثبت للتجربة الأولى، فإذا جد الجد، وكان أول درس من دروس الحياة العاملة التي ليست كلاما ولا غرورا، فأنا الشيخ الأزهري القح الذي حفظ ما حفظ من كتب الدين وورث ما ورث من آثار القرون، واحتمل في قلبه الضئيل وعلى كتفيه الصغيرتين، ثقل السنين التي توارثها الأجيال أثناء ثلاثة عشر قرنا.
أأقول الحق أم أخفيه؟ وما لي لا أصطنع الشجاعة ولا أحمل نفسي على بعض ما تكره، وإن الحياة لتحملها على ما تكره في أكثر الأحيان، لقد استحييت من صاحبي، واستحييت حتى انتهيت إلى الخزي، وأحسست كأن رأسي ذاب في عمامتي، وكأن هذه العمامة لم تكن تستقر على شيء. وأخذت أتضاءل في جبتي وقفطاني، حتى خيل إلي أنهما يستقران على هذا الكرسي لا يملؤهما شيء، وأخذت قطرات من العرق تسيل على جبهتي فتبلها، وكادت الرعشة أن تجري في جسمي المتضائل المضطرب، كل هذا لأن صاحبي ظهر على جلية أمري، وعرف أني ما زلت أزهري النفس والقلب والعقل، أرى الانغماس في الحياة الأوربية إثما وأشفق على صاحبي منه، وأرى الإصرار على الخطيئة وتعمد الإقدام عليها كفرا، وأخاف على صاحبي عواقبه. وإذا فأي فرق بيني وبين هذا الشيخ العتيق الذي كان يعرض بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيتغنى في بعض دروسه بهذه الجملة التي شاعت والتي كنا نتندر بها، ونضحك منها. وكنت أنا أشد الناس تندرا بها وضحكا منها، «ومن ذهب إلى فرنسا فهو كافر أو على الأقل زنديق.»
كذلك قال الشيخ، وبذلك كنا نتندر في الأزهر، ومن ذلك كنا نضحك في أنديتنا الحرة التي كان الأزهريون يرونها أندية ابتداع وضلال، فقد أصبحت أنا كهذا الشيخ أرى أن من ذهب إلى فرنسا فهو كافر أو على الأقل زنديق، ومع ذلك فإن أساتذتي من الفرنجة في الجامعة يرون أني حر الرأي ويشفقون علي من حرية الرأي هذه، وكنت أنا أرى أني حر الرأي وأغتبط بما يصيبني في سبيل هذه الحرية، فقد كنت إذا أكذب على نفسي، وكنت إذا أخدع أساتذتي، ولم أكن إلا شيخا أزهريا قحا يرى أن من ذهب إلى فرنسا فهو كافر أو على الأقل زنديق.
كذلك كنت أفكر مستخذيا متضائلا من الخزي بينما كان صاحبي يغرق في الضحك، حتى إذا أعياه اضطراب جسمه هدأ بعض الوقت يتكلف الهدوء، ثم لا يلبث أن يعود إليه الضحك العنيف فيهزه هزا عنيفا وهو يردد كلمة المعصية هذه ويقول ما زلت تؤمن بالطاعة والمعصية وتردد هاتين الكلمتين، وما زلت تفكر في الكفر والإيمان.
ثم يمضي في الضحك وأمضي أنا في الخجل والاستخذاء، ومع ذلك فلو أني كنت أتحدث إلى رجل هادئ عادي غير غريب الأطوار، لما أنكرت من حديثي شيئا ولما رأيت على نفسي منه بأسا، فلم أكن أرى الذهاب إلى فرنسا كفرا ولا زندقة وإنما كانت طبيعتي كلها تثور لهذه الجرأة الوقحة، التي كان يقدم عليها صاحبي في غير تكلف، وهو يتحدث عن الخطايا والآثام وانغماسه فيها وتهيئه للانغماس فيها.
ولقد مضت أعوام وأعوام وذهبت إلى أوربا مرات ومرات وأقمت فيها، فأطلت الإقامة، وما زلت اليوم كما كنت في تلك الليلة تثور طبيعتي كلها إذا سمعت من يتحدث في هذه الجرأة الوقحة عن الخطايا والآثام والتهيؤ للانغماس فيها. ولا بد من أن أمضي في قول الحق إلى أقصاه، فقد وادعت صاحبي وصانعته واجتهدت في أن أقنعه بأني لست شيخا أزهريا قحا، لم أحبب إليه فراق امرأته ولم أعنه على التهيؤ للانغماس في الخطايا والآثام، ولكني فقدت القدرة على مقاومته، وعجزت عن محاولة إقناعه بما كنت أرى، لا لأني ملت إلى رأيه، بل لأني كرهت أن يراني شيخا أزهريا قحا يؤمن بأن من ذهب إلى فرنسا فهو كافر أو على الأقل زنديق.
وكذلك يسيطر الغرور على أنفس الشباب فإذا هم يتكلفون ما لا يحسنون ويحملون أنفسهم ما لا يطيقون، ويتكلفون هذا النفاق الغريب يخفون به ما في نفوسهم من أصول الخير ويظهرون به ما يرغبون فيه من مظاهر التجديد.
ثم يرتفع الضحى وإذا صاحبي يردني إلى بيتي ويفارقني ليذهب إلى الجامعة ويقول في لهجة ساخرة لاذعة: سألقاك في المساء، فلا بد من أن نستأنف حديث الطاعة والمعصية، فإذا لقيني في آخر النهار علمت منه أن الجامعة قد احتجزت له مكانه على إحدى السفن، وأنه مرتحل بعد أسبوع، وأن زوجه قد ارتحلت ظهر اليوم إلى الريف، وأن طلاقها سيبلغها إذا كان الغد.
9
Неизвестная страница