8
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب
فلا رأي للمضطر إلا ركوبها
ألقى هذا البيت بصوته الغليظ ومد قافيته مدا طويلا، وهو يضرب الأرض بعصاه، ويلقي طربوشه على مائدة كانت أمامي، ثم جلس لم يبدأني بتحية، ولم ينتظر أن أردها عليه، وكأنه اعتقد أن هذا البيت الذي ألقاه على هذا النحو خير تحية يمكنه أن يهديها إلي، وأن دهشتي لمقدمه، وانتظاري لتفسير هذا البيت، والإبانة عما أراد به، خير رد عليه. وأكبر الظن أنه لم يكن يرى التحية والرد عليها إلا لونا من تنبيه القادم إلى مقدمه وتنبيه المقيم إلى أن أحدا قد أقبل عليه، وما دام هو قد بلغ من ذلك ما كان يريد فليس عليه بأس من أن يسند عصاه ويتخفف من طربوشه ويجلس إلى المائدة التي كنت أجلس إليها مالئا الجو بضحكه العريض كما تعود أن يفعل كلما أتى شيئا غريبا، ثم يرفع صوته بهذه الجملة التي يمتلئ بها بيتنا الصغير كله «هات الشاي يا غلام.»
ثم يستريح قليلا من الحركة ومن الكلام ثم يستأنف حديثه من حيث انتهى وهو إنما انتهى عند إنشاد البيت، فيقول: والأسنة هنا يا سيدي هي هذه الزيارات التي سننفق فيها آخر النهار، وأول الليل، حتى إذا ملأنا آذاننا من لغو الناس، وملأنا آذانهم من لغونا. وقلنا ما لا نعتقد، وسمعنا من الناس ما لا يعتقدون، وشبع بعضنا من الكذب على بعض، انصرفنا إلى خلوتنا تلك في أعلى الربوة ففرغنا لجدنا الذي خلقنا له، وأخذنا منه بحظ موفور قبل أن يفرق بيننا الرحيل، وأظن أنك لن تمانعني في أن نبدأ زياراتنا بشيخك الأديب، فإني قد أحببته منذ عرفته، ولست أدري أيحبني أم يبغضني، ولكن ذلك لا يعنيني فحسبي أني أحبه، وأني أريد أن أراه وأن أستمع إليه، وأني أريد أن يكون ذلك في هذا المساء؛ لأني سأشغل منذ غد بما يصرفني عن الزيارات. والخير أن توطن نفسك على أنك ستخرج معي الآن فلا تعود إلى بيتك إلا إذا أسفر الصبح، وغمرت الشمس مدينة القاهرة بضوئها الحار المحرق، وإن لم يرتفع النهار. وما أحب أن تجادلني في ذلك أو أن تنكره علي، أو أن تتعلل بهذه التعلات التي لا تغني فإني مصمم على أن يتم ما أريد مهما تكن المصاعب، ومهما تخترع من التعلات. ولولا أني نهضت وأتيت حركة الذي يريد أن ينصرف ويترك له الغرفة وما فيها لما انقطع هذا السيل المندفع عن التدفق، ولما كف هذا الغيث المنصب عن الانهمار. ولكنه رآني قائما أتحول إلى باب الغرفة وقد رفعت يدي كأنما أريد أن أضعهما على أذني، فأغرق في الضحك، ثم ردني إلى مكاني هو يقول: «لك ما تريد سأبلعك ريقك، فقد يخيل إلي أني منذ أقبلت لم أرحك، ولم أرح نفسي من الكلام، ولكن لا تلمني في هذا ولم غلامك هذا الأسود الصغير، فلو أنه أسرع بالشاي وشغلني به وببعض ما يصحبه من الطعام، لانصرفت إليه بعض الشيء عن هذا الكلام المتصل.»
ثم صمت متكرها وتعجلت خادمي فجاءه بما كان يريد، واستطعت أن أتحدث إليه، وأن أسمع منه كما يتحدث بعض الناس إلى بعض في هدوء واطمئنان وشيء من الرزانة والتفكير.
ولم أشك مع ذلك في أنه كان مضطرب النفس، شديد الاضطراب مدفوع القلب إلى ثورة عنيفة لا يعرف منها مخرجا ولا ينتهي منها إلى قرار. فقد أخذت أتعلل عليه وأظهر كراهة الخروج، ثم أقيم الدليل إثر الدليل على أني إن خرجت فلا بد من أن أسرع إلى العودة؛ لأني لا أستطيع السهر.
في هذه الليلة كان كلما سمع مني تعلة محاها محوا، وكلما سمع مني دليلا نقضه نقضا، حتى إذا أعياه ذلك وضاق بهذا التمنع الطويل نهض كالمغضب وخرج من الغرفة واندفع إلى الغرفة التي كان أخي قد خلا فيها إلى بعض كتبه، فدفع بابها دفعا، ولم يكد يجد أخي حتى أنبأه بأنه سيصطحبني في بعض الزيارات ثم سيقضي معي أكثر الليل أو كله في حديث طويل ذي بال. وخيره ضاحكا صاخبا بين أن يكون هذا الحديث الطويل الخطير هنا في هذه الغرفة أمام غرفته أو هناك في بيته البعيد على تلك الربوة مما يلي القلعة.
وكان أخي أشد الناس ضيقا بالناس، وأكثرهم نفورا من الزيارة والزائرين، وأشدهم بغضا لهذا النوع من الحديث الطويل ذي البال، الذي يظن أصحابه أن له خطرا، وإنما هو وسيلة من وسائل قتل الوقت، والانصراف عما ينبغي للطالب الجاد من درس وتحصيل. فلم يكد يسمع حديث صاحبي حتى أجابه متعجلا أن أخرجه معك متى شئت وأعده متى أحببت، فلست أطلب إليك ولا إليه أن تريحاني من لغوكما الذي لا حد له، فأخي يعلم، ولعلك تعلم أيضا، أني غارق في الاستعداد للامتحان.
قال ذلك وأعرض عنه إلى كتبه فعاد إلي جذلان مبتهجا وهو يقول: لم تبق لك حجة، وإنما أنت منذ الآن ملك لي، فلا بد مما ليس منه بد.
Неизвестная страница