وهنا انتهى الجدال، فالفتاة تبرمت وأعرضت عنه إلى رفيقاتها، والفتى غلا تغيظا من هذه الخاتمة السيئة، وبعد هنيهة توقف الترام في المحطة الأولى من شارع كلوت بك، ولكن ما تحرك ثانية حتى انسل الفتى من تحت العارضة الحديدية، التي تمنع الصعود والنزول من أيسر المركبة، واتفق حينذاك أن قطارا قادما داهمه وهو منسل، وكانت الفتيات ينظرن إليه وهو يخرج، فجزعن عليه وصرخن مستغيثات، بيد أنه توارى عن أبصارهن حالا؛ إذ اندفع قطارهن في سبيله تاركا الفتى تحت رحمة القطار الآخر، وهن لا يدرين كيف انتهى أمره، وبعد هنيهة قالت إحداهن للفتاة الأولى التي كانت تناقشه: أظنك خاشنته يا ليلى.
فلم تجب ليلى، بل كانت مفكرة مضطربة الداخل. •••
أما الفتى فما إن رأى القطار الآخر يداهمه حتى انعطف وراء القطار الذي كان فيه ونجا.
وما هي إلا دقيقة حتى رأى قطارا آخر من قطارات العباسية، فاستأنف مسيره فيه وهو يفكر فيما حدث بينه وبين الفتاة، ويراجع الحديث الذي جرى ويزنه؛ ليعلم هل كان ملوما. فلم يجد - بحسب اعتقاده - ما يبرر مناقشة الفتاة له، فقال في نفسه: يلوح لي أن المرأة الشرقية متى كانت تتكلم لغة أجنبية تعتقد أن ما تفعله يجب أن يكون قاعدة، وما تقوله شريعة وما تريده حقا، وأن الرجل يجب أن يكون لديها بلا إرادة ولا حرية ولا حق.
وما زالت هذه الأفكار وأمثالها تحوم في ضميره، وهو لاه عن كل ما يمر به إلى أن نبهه الكمساري قائلا: هنا «حي الظاهر» الذي تريد النزول فيه.
فأسرع الفتى ونزل من القطار، وأخذ من جيبه بطاقة، وقرأ ما فيها، ثم تقدم إلى أول عطفة عن اليسار، ونظر إلى اسم الشارع وقال: هذا هو الشارع بعينه.
وما إن مشى فيه قليلا حتى رأى فتاة قد ظهرت من شارع آخر مقاطع، ومشت في نفس الشارع الذي كان يمشي فيه، وهي على بعد عشرين خطوة منه، فاشتبه بها ورجح أنها هي الفتاة التي كان يناقشها في الترام، وجعل يقدم رجلا ويؤخر أخرى، وما دقق النظر في ثوبها وبرنيطتها حتى لم يبق عنده شك بأنها هي الفتاة بعينها، وتراءى له أنها رأته، وتيقن أنها اعتقدت بأنه لم يوجد هناك صدفة بل عمدا كأنه يتبعها، فكبر عليه هذا الأمر، وقال في نفسه: يجب أن أختفي من هذا المكان؛ لكي تغير هذه الفتاة المتعجرفة ظنها بي، وتعتقد أني لست متتبعا لها، وأنها لم تخطر لي على بال.
وأسرع لكي ينعطف إلى الشارع الآخر المقاطع الذي بدت منه، ولكن قبل أن يصل إليه رآها تدخل في باب، وتراءى له أنها رأته يسرع نحوه، فلعن الصدفة قائلا: لقد وقع ما كنت أتحاشاه، وصارت الفتاة تظن أني مفتون بها في حين أني أكره أن أراها.
ولما لم تصح خطته في تحاشيها تقدم في سبيله، وهو ينظر إلى الأرقام التي على المنازل إلى أن وجد الرقم الذي يقصد إليه على نفس الباب الذي دخلت فيه الفتاة، فقال في نفسه ساخطا: يا الله ما بال التقادير تسوقني إلى حيث تكون هذه الفتاة الثقيلة!
وفيما هو يتردد بين أن يدخل إلى المنزل الذي يقصد إليه، أو أن يعود أدراجه أقبل عليه فتى، فتبادلا النظرات وسبقه الفتى بالكلام قائلا: ما أظنني غلطانا، المسيو ... - ... يوسف براق يا مسيو مراني. - أهلا وسهلا، لم تضل عن منزل صديقك، فتفضل ندخل.
Неизвестная страница