وانتشر من الجنود الألمان في قرى الدلتا، وكان من نصيب شقلبان جنديان من الألمان؛ هما مارك وهوفمان، وكان مارك يجيد الإنجليزية، ولم يكن في شقلبان أحد يستطيع أن يكمل جملة إنجليزية إلا عبد الشكور، الذي كان قد وصل إلى السنة الثانية من التجارة المتوسطة، التي دخلها بعد جهد جهيد مع والده حيدر، الذي كان يصر أن يخرجه من المدارس بعد الابتدائية ورفض كل الرفض أن ينتسب إلى الدراسة الثانوية. - والله لا يمكن. - يابا أنا لا أمل لي في الحياة إلا أن أحصل على شهادة جامعية. - كنت ابن من أنت حتى تنال شهادة جامعية؟! - أقل مني حصلوا عليها. - آباؤهم كانوا يطيقون. - ادفع لي المصاريف وأنا سأعمل وأعيش. - هذا كلام؛ حتى إذا دخلت الفاس في الراس أصبحت مضطرا أن أتكفل أنا بكل شيء. وكان بيومي رمضان حاضرا فإذا هو يصيح فجأة: تاهت ووجدناها.
ونظر حيدر إليه في لهفة، وأكمل بيومي: تدخل التجارة المتوسطة.
قال حيدر: ولو أنها ستكلفني إنما لا بأس، وأمري إلى الله.
وقال عبد الشكور: أمري أنا إلى الله.
وهكذا لم تجد القرية إلا عبد الشكور ليرطن مع الأجنبيين اللذين قدما إليها وهما في ملابس رثة وذقنين متطاولين، واستطاع عبد الشكور أن يفهم عن مارك الذي يتقن الإنجليزية كل الاتقان إنهما هاربان من موقعة العلمين، وأنهما سارا على ساحل البحر مستعينين بالزاد الذي صحباه من جيشهما، وحين بلغا الإسكندرية حرصا أن يختبئا في النهار ويسيرا في الليل، حتى وصلا إلى الطريق المؤدي إلى مديرية البحيرة، فراحا يتنقلان بين القرى موغلين في الدلتا، واتفقا على أن يبتعدا عن الإسكندرية ما أطاقا البعد؛ حتى لا تعثر عليهما القوات الإنجليزية. وفهم عبد الشكور عنهما أن القرى جميعها كانت ترحب بهما حين يعلم أهلوها أنهما من جيش هتلر، الذي كان يمثل عند الغالبية العظمى من المصريين الخلاص من الاحتلال البريطاني البغيض.
وطلب أعيان شقلبان إلى عبد الشكور أن يلح عليهما أن يقيما عندهم عندما علموا أن مارك نجار وأن هوفمان ميكانيكي كهربائي. وقد تداول الأعيان فيما بينهم وانتهى رأيهم إلى هذا الطلب، الذين أرادوا من عبد الشكور أن يبلغه للهاربين. وقد ارتأى هؤلاء الأعيان أنهم أولا سيكرمون جنديين من جنود هتلر، وثانيا سينتفعون بخبيرين في النجارة وإصلاح ماكينات الري والدراس. ورحب الجنديان بهذا العرض.
ولم يتصور أحد من القرية المدى البعيد الذي سيؤثر به بقاء هذين اللاجئين في حياة عبد الشكور جميعها. •••
كان عبد الشكور رغم تلقيه الدراسة بمدرسة التجارة المتوسطة يقيم في البلدة؛ فقد رأى أبوه أن هذا وإن يكن مجهدا لولده إلا أنه أكثر وفرا من أن يستأجر له حجرة في المدينة. وهكذا كان عبد الشكور يصحو قبل الفجر ليكون بالمدرسة في موعده.
وهكذا أيضا كان فقر أبيه المدقع سببا فيما صار إليه أمره بعد ذلك.
وفي لحظة من اللحظات التي تصيب الإنسان من أحلام اليقظة حلم عبد الشكور أن يعقد صداقة بينه وبين مارك ويتعلم منه الإنجليزية والألمانية. ولماذا لا؟ إنه يعلم أنه حتى بعد انتهائه من دراسته لن يجد الوظيفة في انتظاره، وقد كان يرى حملة الشهادات حيارى ضائعين بشهاداتهم لا يجدون وظيفة؛ فقد كانت أزمة الوظائف في تلك السنين طاحنة (شأنها دائما) فكيف به وهو لا يحمل إلا مؤهلا متوسطا.
Неизвестная страница