80

Адаб Ва Хаят

الأدب والحياة

Жанры

لدى الباب قطة

لدى باب مسكننا قطة. وهي قطة لم تقرر بعد أن تكون أليفة؛ بحيث تسمح لمن يطعمها أن يمسح ظهرها أو يمس رأسها، ولكنها قررت منذ ما يقرب من عامين أن تقيم في المنزل أمام عدد من الشقق التي تقدم لها الطعام أو الدفء في الشتاء، ومنذ ذلك الحين تحسن صوت موائها فأصبح طبيعيا بعد أن كان حشرجة لا تكاد تبين، وأصبح فراؤها ناعما (فيما يبدو) براقا زاهيا كثيفا، وحملت وأنجبت عدة مرات، وظل أحد أبنائها لصيقا بها حتى بعد أن اكتمل نموه واشتد عوده، وزال عنها الخوف القديم من قطط الشارع الزائرة للمنزل بحثا عن الطعام، أو الذكور المتقدمين طلبا للزواج منها في مواسم معينة، فأصبحت تموء في وجوه هذا وذلك، وتقوس ظهرها غضبا، أو تتمسح بركن من أركان السلم في سعادة ورضا.

ولم أعجب للتحول الذي طرأ عليها في الأيام الأخيرة في عادات طعامها وميلها إلى التدقيق في اختيار ما تقبله منه؛ فالنعمة البادية عليها تفرض عليها ألا تلتهم كل ما يقدم لها؛ إذ زال قلقها على المستقبل، ولم تعد تخشى الغد - فيما يبدو - بل أحيانا ما تظهر اطمئنانا غير معهود في قطط الطريق، فلا تلتفت إلى الطعام المقدم برهة من الوقت، أو تشمه ثم تشيح عنه بوجهها، ربما انتظارا لما هو أشهى منه أو لوجبة خاصة تتوقعها من أحد السكان الكرماء.

وليس من الغريب أن أهتم بهذا التحول الشامل في حياتها؛ فقد شهدت تحولات مماثلة في حياة كثير من البشر من أبناء مصر، ووجدت أنني لست أول كاتب يهتم بالقطط وحياتها؛ إذ يبدو أن هذا الحيوان الأليف الذي صاحب الإنسان آلاف السنين قد شغل كثيرا من الكتاب في شتى أنحاء العالم. وذكرت أنني قرأت أن المصريين القدماء كانوا أول من استأنس القط، وأن أقدم صوره وتماثيله موجودة في معابدهم، وأنهم أسموه «باشت» وأن هذه اللفظة نفسها قد تطورت إلى «باس» و«بوس» و«بسبس» والكلمة الأجنبية «بوسي». وذكرت أيضا أن القط غير المستأنس كان العرب يسمونه «السنور» ويسمون المستأنس منه «الهرة» وأن اهتمامهم به لم يكن يقل عن اهتمام غيرهم من الشعوب الأولى - فكان رمزا لبعض الخصائص البشرية التي أعلى الإنسان القديم قيمتها - فهو صائد ماهر، وهو ذو عضلات مرنة تمكنه من الوثب مسافات طويلة، وهو يتمتع بعينين تتفتح حدقتاهما في الظلام فتمكنه من الرؤية في الأماكن التي نعتبرها مظلمة، كما أن على عينيه عدسات عاكسة للضوء فكأنهما تشع نورا في الظلمة يخيف الأعداء، وأهم من هذا وذاك جميعا أنه يتمتع بالاستقلال أو ما يشبه الإباء والشمم؛ فهو بريء من خضوع الكلب وخنوعه لا يقبل أن يمتلكه أحد، ولكنه يقيم علاقته على أساس الصداقة و«المصلحة»، وهو إلى هذا كله كسول إذا لم يكن لديه داع للنشاط، ويقول العلماء إنه إذا توافر له ما يغنيه قضى سبعة أثمان عمره نائما أو مستلقيا في استرخاء وحسب!

ولم يهمل الأدباء هذه الخصال في القطة، فكثرت الإشارات إلى حياة القطط في الروايات والأشعار، فلم ينسها أحمد شوقي وكتب ت. س. إليوت ديوانا كاملا عن قططه، وفي مصر كتب محمد عبد العزيز (المخرج المسرحي) رواية عن قطة له، كما يكثر المخرجون السينمائيون من استخدامها رموزا في أفلامهم ولكنني أهتم بقطتنا لدى الباب لسبب آخر لم يخطر ببال أي من هؤلاء ما أسميته بالتحول إلى حياة الترف، وما صاحبه من تعديل علاقاتها بمجتمع البشر والقطط على حد سواء.

أنجبت هذه القطة على مدى عامين ما يربو على عشرين قطا وقطة، وتفرق أولادها في كل مكان يطلبون الرزق، بينما لم تكترث هي إلا لنعيم حياتها وهنائها، واختيار أقوى الأزواج وأعتاهم، وحددت لنفسها ما تريده من الدنيا في هذه الحقبة الجديدة، ألا وهو التمتع بملاذ الحياة الجسدية بعد أن تهيأ لها رغد العيش وغدت تتقلب في أعطاف النعيم غير عابئة بما يدور حولها.

وأصبحت القطة المذكورة نموذجا لما حدث للكثيرين من معارفي الذين ابتسم لهم الحظ؛ إذ انتقلوا إلى اليسر بعد العسر، وأصبح هم الواحد منهم أن ينعم ببال هنية جاد بها الدهر دون انتظار؛ إذ أمنوا شر الفقر، ولم يعودوا يخشون الجوع في الغد، فاقتنى أحدهم زوجة جديدة (جميلة وصغيرة) سعد بها وأسعدها، وأنجب رهطا جديدا بعد أن كبر أولاده من الأولى. واكتشف أن القراءة هم لا يحمله إلا الإنسان فأقلع عنها واستراح، وأن الوعي بما يدور من حوله مسئولية كبرى تنوء بحملها الجبال، بل أمانة أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، فتخلى عنها راضيا، واقتصر في أفراحه على ما يهيئه المال والبنون - زينة الحياة الدنيا - من متع وملاذ.

ورأيت في القطة صورة إحدى الطالبات السابقات اللائي تلقين العلم على يدي في الجامعة، ثم قيض الله لها زوجا نابها يحكم فنون جمع المال، فانطلقت معه إلى أحد البلدان الشقيقة ليبدآ رحلة النعيم، ولينهلا من متع الحياة الرخية ما شاء الله لهما، وامتد بهما المقام فتراخت في دروسها، ثم أقلعت عن القراءة، وكفت تماما عن الدرس والتحصيل، وخلدت إلى السكون الذهني، وأصبحت أنباؤها لا تأتيني إلا لماما بعد أن تحولت في قضاء عطلات زوجها وأطفالها إلى أوروبا بدلا من مصر.

ولكن التحول الذي أصاب القطة لا يقتصر على من أقلعوا عن القراءة، ولكنه ينسحب على عشرات ممن أعرفهم من بلدي ومن القاهرة أيضا؛ إذ أعرف من بينهم من أنجبت أحد عشر ولدا هاجروا جميعا دون تعليم ودون اكتساب حرفة إلى البلدان الشقيقة، وأعرف واحدا ما انفك يطلب الزوجة بعد الزوجة وينجب الطفل بعد الطفل حتى وافته المنية وهو في ريعان شبابه، بعد أن خلف لأخيه تركة مثقلة بالأعباء والهموم.

إن الراحة والكسل هما هدف يحلم به الإنسان منذ أن طرد من جنة الخلد، وهما كما يقول البروفيسور ميلر في كتاب حديث عن علم النفس غاية كل حي، ولكن الراحة التي تأتي بعد لغب فتصيب عقل الإنسان بما يشبه الشلل، تهبط بمستوى الإنسان إلى درجات الوجود الدنيا، مستوى النبات الذي لا ينتقل من مكانه، بل يأتيه الغذاء والماء والهواء دون حركة، ومستوى القطة التي يأتيها رزقها رغدا فتأكل وتتزوج، وتنجب وتموت. ونحن لا نريد أن نكون قططا على أبواب أحد.

Неизвестная страница